-1- شمس هذا الصباح في باريس 13 أيار 2000 ساطعةٌ حتى أنها تكادُ أن تذكّر بشمس الصحراء. أنظرُ في فضائِها، من نافذة غرفتي في برج غامبيتا، أكاد أشعرُ أنني لستُ إلاّ خيطاً ناحلاً من أشعّتها التي تُنزّهها بين الأبراج العالية. كان كل برج يمد عنقَه عالياً - ربّما لكي يُحْسِنَ الرؤية إلى الفلَك، إلاّ برج غامبيتا: كان يمدّ ذراعيه - ربّما لكي يُحْسِنَ ترجمةَ أشواقهِ الى الخروج ممّا هُوَ. ولم يكن يتكلّم. كان يَئنّ صامِتاً. ماذا أقدر أن أفعلَ من أجلهِ، أنا السّاكنُ في أعَاليه؟ -2- أمسِ، هبّت الرّيح قويّةً في أشجار الحديقة الصغيرة التي أُطِلّ عليها من نافذة غرفتي. هوذا أرَى إليها تُقَلِّب أغصانَ الشّجر وتتقلَّبُ في أحضانِها. وها هيَ فجأةً تُمسك بجذْعِ شجرةٍ، وَخُيّل إليَّ أنها تطوّقها بذراعيها، بجسدها كلّه. وها هي تهدأ. تكادُ أن تتحوّلَ الى نسيمٍ. تكاد أن تنام. -3- في مقهى "الدوماغو"، تجلس في زاويةٍ كنتُ جلستُ فيها، منذ أربعين سنةً، مع صديقٍ جُنَّ ومات. تجلس مستغرقةً في القراءة. كان ما تقرؤُه مثيراً، كما يبدو، فقد رأيتُ وجهها يشعّ، ورأيت فمها يتفتّح كأنّه برعمٌ أحمر. هل ما تقرؤه يُشبه الوردةَ أو الضّوء؟ ثمّةَ في المسرح الذي ترسمه عيناها وشفتاها وذقنها وأنفُها وعنقُها، نوعٌ آخر من لعب الظلّ والضّوء: هل يأتي الظلّ منها، والضّوء مِمّا تقرأ؟ أم العكس؟ لا أعرف. أعرف أنني كنتُ أمام مَشْهَدٍ بدَا ليَ الزمنُ فيه كأنّه طفولةٌ ثانية ليست مِنّيَ وليست غيري. أًمّا هِيَ فكانت تبدو كأنّها تجلسُ في الطّرَفِ الأقصى من هذه الطّفولة. لكن، لماذا هذه الزّاوية نفسُها التي جلستُ فيها، مرّةً، مع صديقٍ جُنَّ ومات؟ -4- جاء التّعَبُ، جاءَ، هذه المرّة، كمثل شجرةٍ تَنحني غصونُها وتتساقَطُ أوراقُها. هل كانت هذه الأوراقُ تبحث عن ريحٍ أخرى؟ هل كانت الغصونُ ضَجرةً من ثِمارها؟! جاء التّعب،- قلت لأيّاميَ الماضية: هل أنتِ، حَقّاً، ورودٌ قُطِفت؟ ومَا شأنُ عِطْرِها الآن؟ لا أكتمُ أَنّني أُحِبّ الأسرارَ، لكن ليس الى هذه الدّرجة. جاء التّعب، وظنّي أنّني لن أقدرَ أن أفعلَ شيئاً أكثرَ من الجلوسِ في ظِلّه. -5- قالت تتذكّره: صحيحٌ، نذرَ حياته للحبّ لكن يا لها من حياةٍ- كانت سلسلةً من الجُسور المَمْدودَةِ فوق أَنْهارٍ مُتخيَّلة. ولقد عاش حُبَّه صامِتاً ألهذا لم يقدر صمتُه أن يفتَح في جسَدِ حبّه غيرَ الحُفَر؟ بَلَى، جزرَ بحرُه، وابتعدَ موجه عن الشاطئِ، ابتعدَ وامتدّت بينه وبين هذا الشاطئ شُطآنٌ أُخّرى،- أتلك هيَ لحظةُ المراكبِ العاشقة؟ -6- قال يتذكّرها: مَرّةً، كتبتُ تاريخَ أعضائها - الليّنَ منها والصُّلْبَ، وما بين. البارزَ والغائرَ وما بين. المقوّسَ والمستقيمَ وما بين. لم أُشَرِّحْ، وُلم أَشْرَحْ. رمزتُ وأومأت. عَددت القبورَ التي تَخْتبِئُ بين العضو والعضو. بعضُها مُحِيَ، وبعضُها لا يزالُ قائماً. قبورٌ لا تُحصَى لشهواتٍ لا تُحصى. قبورٌ بعضها عناكبُ لا انتماءَ لها، وبعضها طيورٌ تَنْتمي الى أصولٍ لا تبوحُ بها. وعجبتُ كيف أَنّني كنتُ أفهم الدّاخلَ أكثرَ ممّا أفهم الخارج. كيف كان السّطحُ يغمضُ عليَّ فيما يَتَّضحُ ليَ العمق. وَسَهُلَ عليَّ وصفُ أسْرارِها الباطنة، فيما صعب عليَّ وصفُ أَشْكالِها الظّاهرة. وكنتُ دائماً أقولُ لجسدي: تعَلَّمْ، كلّما ابتعدْتَ عن أعضائكَ، ازددْتَ قُرْباً إليها. -7- كتبَ إليَّ "صديقي الذي جُنّ ومات"، رسالة "طويلة" قُبيلَ موته، أسمحُ لنفسي بأن أقتطعَ منها بعض فقراتها: -أ- "تكرّر عليّ دائماً قولكَ بأنّني أتوهّم. وصحيحٌ ما تقول. لكن، لماذا تَنسى ما اتفقنا عليه مرّةً، وهو أنَّ الأشباحَ قَلّما تذهبُ وحيدةً لِلتنزّهِ في غاباتِ التوهّم؟". - ب - "سألتَني مرّةً: "أين يكونُ قلمُ السَّماءِ، عندما تكتب الأرضُ خَلائقَها بحِبر الذرّة؟"، ولم أفهم قصدكَ إلاّ بعدَ حديثنا عن العَبثِ والعُنْفِ اللّذين يُهيمنانِ على حياتنا. أودّ أن أحوِّرَ سُؤالكَ في اتّجاهٍ آخر، وأسألكَ بدوري: "أين يكونُ قلَمُ الرّوح، عندما يكتب الحبّ شهواتِه بحِبر الجسَد؟". - ج - "كثيراً، أَصغيتُ الى الطّبيعة، وكنتُ أُفَاجَأُ دائماً: لا تَنْفتحُ شفَتاها ولا تَنْطبقان إلا على التكرار. غير أنه تكرارٌ يبدو كأنّه بدْءٌ دائم: تبدو فيه الأشياءُ كأنّها هي هي، وكأنّها في الوقت نفسهِ ليست هِيَ". - د - "أنا الآن، لا أقدرُ أن أشتريَ كتاباً، ولا أقدر أن أسافر، ولا أقدرُ أن أعمل - إذا افترضنا أن هناكَ عملاً يُعرَضُ عليّ. أجلس الى جذع شجرة، وأحاول أن أتحدّثَ معَها، حيناً، ومع ظلّها حيناً آخر. ماذا أقول؟ تُرانيَ أَسْتَشْرِفُ، وأَسْتَبِقُ واصِفاً أيّاميَ الأخيرة؟". - ه - لا رفيقَ للطريق التي أسيرُ عليها، اليوم، إلاّ قَدَمَا فَصْلٍ غامضٍ، كأنّه فُصْلٌ خامِس. ويبدو أنّ طريقيَ هذه تَخاصَمت الى الأبَد، مع أقدام الفُصول الأربعة".