تلقيت دعوة من ميخائيل غورباتشوف لحضور مؤتمر رفيع المستوى يضم قادة العالم في نيويورك ويتزامن مع قمة الألفية في الأممالمتحدة التي يفترض أن تكون أكبر تجمع لقادة العالم في التاريخ. لو أن غورباتشوف ارسل اليّ الدعوة وهو سيد الكرملين لحضرت بالتأكيد، أما وهو الرئيس السابق لدولة عظمى سابقة، فلا سبب للتسرع في القبول، مع ترجيحي الاعتذار في النهاية. غورباتشوف لا يستطيع أن يكون أكبر من بلاده، وهو اختار أن تصغر، فبعد الاتحاد السوفياتي، عدنا الى روسيا وبضع عشرة دولة مستقلة، وانكمش نفوذ موسكو بسقوط الشيوعية، وهو ما يعرفه القاصي والداني، باستثناء حزبين شيوعيين في العراق لا أزال أتلقى نشراتهما، إذ يبدو أن خبر سقوط الشيوعية لم يصل اليهما بعد. ولا اتهم التعتيم الاعلامي المعروف عن النظام في بغداد، لأنني أرجح أن هذين الحزبين موجودان في المنفى. المهم من هذا كله أن غورباتشوف هو اليوم الرئيس المشارك لمنتدى حالة العالم، وهو بهذه الصفة دعاني الى مؤتمر نيويورك بين الرابع من أيلول سبتمبر المقبل والتاسع منه، وقال ان المؤتمر يهدف الى توفير "اجتماع للقرية العالمية" يتزامن مع قمة الأممالمتحدة ويشارك فيه "قادة الأعمال والمال والعمل والعلوم والتكنولوجيا والبيئة وحقوق الانسان والدين والمجتمع المدني" يتحاورون في "القضايا التي نواجهها جميعاً" مع بعض رؤساء الدول الذين سيحضرون دورة الأممالمتحدة. كل هذا جميل، إلا انني لست من هؤلاء القادة، ولست من رؤساء الدول بالتأكيد. والدعوة ليست مجانية بالطبع، فأنا أعرف أصدقاء حضروا مؤتمرات سابقة وكانت قيمة الاشتراك من عشرة آلاف دولار، وما فوق. أعرف ألف وسيلة لانفاق عشرة آلاف دولار ليس بينها حضور مؤتمر مع غورباتشوف. وربما حضرت إذا دفعوا لي عشرة آلاف دولار، من دون ضمان أن أستطيع البقاء حتى النهاية، فالمؤتمر الذي ينظمه رئيس سابق مهم... سابقاً. غورباتشوف اختار أن يصغر مع بلده، ودرْس السياسة هو أنه لا يوجد رئيس أكبر من بلده، وقد مضى يوم كان ستالين فيه يخيف العالم أجمع، فهو رجل فهم مبدأ القوة، وعندما اقترح عليه يوماً أن يهادن الكاثوليك في الاتحاد السوفياتي لاسترضاء البابا، سأل: البابا؟ كم فرقة عنده؟ وجاء نيكيتا خروشوف بعده فقرع طاولة الأممالمتحدة بحذائه. إلا أن القيادة السوفياتية شاخت مع ليونيد بريجنيف، وتهاوى القادة حتى وصل غورباتشوف، وقضى الاتحاد السوفياتي على يديه غير مأسوف عليه. اعترف هنا بأن الاتحاد السوفياتي ربما كان الفقيد الوحيد الذي لم يُبك عند موته، وإنما بعد سنوات. وأتحدث عن نفسي، فقد كنت ضد الشيوعية طوال عمري ولا أزال، وهكذا فعندما سقطت اعتبرت ذلك حتمية تاريخية لمذهب، أو مبدأ، مرفوض. غير أن سقوط الشيوعية أسلمنا للعصر الأميركي، وهيمنة القطب الدولي الواحد، ما جعلني أعود فأبكي الفقيد الغالي بعد سنوات من وفاته، وأنا أرى ما تفعل أميركا بنا. ولو عرفت أين دفنوه لربما وضعت إكليلاً من الزهر على قبره. وربما عشنا حتى نرى الصين تنهض قطباً عالمياً ثانياً يخلف الاتحاد السوفياتي في مواجهة الولاياتالمتحدة، غير اني اخشى ألا تبقى منا بقية، قبل نهوض العملاق الصيني، فأكتفي منه اليوم بتسجيل قصة تروى عن ماو تسي تونغ. فقد سأله رئيس وزراء بريطانيا في حينه السير أليك دوغلاس هيوم ماذا كان سيحدث لو أن خروشوف اغتيل بدل جون كنيدي؟ وفكر ماو وقال: أعتقد أن أوناسيس ما كان تزوج ارملة خروشوف. غير انني أعود الى غورباتشوف فهو ترك الحكم وأجره عن المحاضرة 50 ألف دولار هبطت اليوم الى عشرة آلاف دولار أو نحوها، لتعكس هبوط سعره العالمي وسعر بلاده. ورأيت شيئاً من هذا الهبوط في الدعوة نفسها، فهو طمأنني الى أن بين الذين قبلوا حضور المؤتمر حتى الآن الرئيس ميغيل أنجل رودريغز، والرئيس اندريس باسترانا، والرئيس اولسغون اوباسانجو يبدو من اسمه انه افريقي ورئيس الوزراء بول راسموسن. من هم هؤلاء؟ قررت انني سقطت في امتحان السياسة الخارجية كما سقط جورج بوش الابن قبلي. وشعرت باكتئاب إذ يفترض بي، بحكم المهنة، ان اعرف أسماء رؤساء الدول. وأخيراً اتصلت بالزميل سليم نصار وسألته هل تعرف ما هي دول رودريغز وباسترانا واوباسانجو وراسموسن. ولم يعرف أخونا سليم، وسألني ماذا يبيعون. وشعرت ببعض الراحة، فإذا كان سليم نصار لا يعرف دول هؤلاء "المشاهير"، فلا ضَيْر أن أجهلها أنا وجورج بوش الابن. لا أذكر أن ميخائيل غورباتشوف تعرض لامتحان في السياسة الخارجية، فعندما كان رئيساً ما كان أحد يجرؤ على سؤاله، وعندما أصبح رئيساً سابقاً لم يعد مهماً ما يعرف أو لا يعرف. مع ذلك عندي سؤال هو: ماذا كان حدث لو أن غورباتشوف اغتيل قبل تدميره الاتحاد السوفياتي؟ والجواب الوحيد الذي طلعت به، وهو مقتبس من الرفيق ماو، ان بيل غيتس ما كان تزوج المسز غورباتشوف. رايسا توفيت رحمها الله، فأبقى مع السياسيين امثال زوجها، فالانسان لا يخلو من عدو ولو حاول العزلة في جبل، فكيف اذا كان سياسياً يتحكم في البلاد ورقاب العباد؟ قيل عن سياسي يوماً انه أسوأ عدو لنفسه. وردّ خصم له فوراً: ليس كذلك طالما انني على قيد الحياة. واعداء غورباتشوف كانوا كثيرين وهو في الكرملين، وزادوا بعد أن ترك الحكم. وإذا كان لا يزال بيننا فلان "عمر الشقي بقي".