-1- أعترف أنني عندما أسمع كلمة "حدود"، أشعر أنها تتحول فوراً الى سلاسل ترن في أحشائي. وحين أتخيلها في صورتها الحربيّة، صورة الأسلاك الشائكة، وأرى الى هذه الأسلاك كيف تمتدّ في النفوس والعقول، امتدادها على الأرض، يأخذني الرعب من جميع الجهات. -2- في خطوةٍ أولى لإزالة الحدود بيني وبين نفسي داخل نفسي، أخذت في وَعْيي الباكر، أرى الى كلمة حد، لا بِوَصْفِها جداراً ونهاية، بل بوصفها على العكس، نافذةً، وبدايةً لطريقٍ أخرى، لمعرفةٍ أخرى، لبحثٍ آخر، ولانتماء آخر. وتكوّن في داخلي، شيئاً فشيئاً طَرَفٌ خارج الحد مُقابلَ الذات، هو الآخر. ومع الوقت، صار هذا الآخر، خارج الحدود التي تطوّقني، لا يشير الى الانقسام، ولا الى المجابهة، ولا الى التعارض، بل يشير على العكس، إلى التآلف والتكامل والوحدة. ثم تطوّر الأمر في خطوة تالية حقّقتها قراءة الشعر العربي. كان الشعراء العرب القدامى يؤكّدون، لا على الإطار الجغرافي للوطن، بل على معناه الإنساني. الوطن هو المكان الذي "يُنْبِتُ العِزّ"، كما يقول المتنبي، أو هو، في لغتنا الحديثة، المكان الذي يعيش فيه الإنسان بكرامة وحريّة. وإذا قرنّا بهذه العبارة كلمة تُنسب الى الإمام علي، يقول فيها: "ليس بلدٌ أحق فيك من بلد. خيرُ البلاد ما حملك"، نجد أنّ المسألة الأساسية في ما يتعلق بالانتماء، ليس في الحدود الجغرافية، بل في القيم الإنسانية. فالوطن الحقيقي للإنسان ليس مكاناً- أو ليس في المكان. وإنّما الإنسان هو وطن الإنسان. تلك هي النَّواةُ التي نشأ فيها نزوعي الى ما يعبر الحدود ويتجاوزها، سواء كانت ماديّة - جغرافيّة، أو فكرية - ثقافيّة. ونعرف جميعاً أن خصائص الثقافة تغيّرت اليوم، بفعل المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. هو تغيّر تزيد في تُواتُرِه وسائلُ الإعلام - صحافةً، وإذاعةً، وتلفزةً، إضافة الى الإنترنت. وفي هذا ما يعقّد العلاقات بين التراث والإبداع، وبين الهوية والتفاعل، وبين الذّات والآخر. فالعالم الذي نعيش فيه ونريد أن نغيّره تمهيداً لمجيء إنسان المستقبل إنّما هو عالم يتكوّن من بلدان مختلفة- أي من هوياتٍ مختلفة وثقافات مختلفة. ولهذا فإنّ العمل من أجل إنسان المستقبل، يواجه كثيراً من العقبات والصعوبات، ومن المتعذّر بدئياً، تحديد مثل هذه الثقافة، على مستوى الكون، أو تحديد مثال ثقافي كوْنيّ عابرٍ للثقافات في عالم لا يزال عالم أوطان يزهو كل منها بثقافته الخاصة، وبهويته الناشئة عنها أو المرتبطة بها. يتعذّرُ من باب أولى تحديدُ إنسان المستقبل. ولا تملّ هذه الأوطان، كلٌّ منها ضمن حدود وعيه وتطلّعاته، من إعادة اكتشاف أساطيرها ورموزها الخاصّة، وذاكرتها التاريخية الخاصة، وعصرها الذهبي الخاص. وهي الى ذلك، تخشى من محو ثقافتها الوطنية هذه، خصوصاً أنّ النزعة الاقتصادية الكونية، أو تحديداً طبيعة العولمة التي تصدر عنها، تخيف هذه الأوطان، لأن هذه العولمة تبدو، في الممارسة العملية، كأنّها تهديد بمحو هذه الثقافات. في هذا الإطار لا بُدّ أن نتساءل: هل مسألة التقنية أو مسألة العولمة التقنية - الاقتصادية مشروعُ انعتاقٍ إنسانيّ، تمهيداً لمجيء إنسان المستقبل، أم هي، على العكس، مجرد مشروع لتحويل الكون الى "قريةٍ واحدة" بسوقٍ اقتصاديّة واحدة؟ هذه العولمة، في دلالتها الثانية لن تكون إلاّ عائقاً آخر في وجه ثقافة المستقبل وإنسان المستقبل. -3- ثمّة إذن مفارقتان: الأولى هي إمكانية القضاء على كونيّة الإنسان باسم كونيّةٍ زائفة أخرى هي كونيّة السوق. والثانية هي أن البلاد، أية بلاد، لا تقدر أن تبني إنسانها المتميز إلا لأنّ لها شخصيتها الثقافية المتميّزة. فاستقلال الهوية الثقافية وتميزها في بلاد معينة هما اللذان يتيحان لها أن تبني نفسها، ويتيحان لها أن تتآلف مع غيرها، وأن تدخل في النسيج الكوني، نسيج التعدّد والتنوّع. لنقل، بعبارةٍ ثانية، من أين لبلدٍ لا يكون واحداً في هويّته، أن يتعدّد، أو أن يتنوّع، أو أن يتآلف؟ وكما أنّه يتعذّر الحفاظ على الهويّة بأساليب القمع والطغيان والانعزال، كما يحدث في عديدٍ من بلدان العالم، فإنّ محو الهويات الثقافية بقوّة العولمة الاقتصادية التقنية يؤدي الى تصحير الكون، ثقافياً، بهيمنة "الثقافة الواحدة". وفي ذلك طغيان وقمع كونيّان. في ذلك ما يُنذر بتحويل العالم الى سِجْنٍِ كونيّ. والحق أنّ الهوية ليست، في ذاتها، كابحاً للانفتاح والتواصل. إنها، على العكس شرط لهما. فمن لا ذاتية له لا آخرية له. وبقدر ما نحافظ على الهويّة والذاتية، يتّسع مجال الانفتاح والتواصل، ويترسّخ التعدّد. دون ذلك يصبح الانفتاح استسلاماً، والتبادل تبعيّة، والتفاعل انسحاقاً. -4- هكذا، لا نستطيع أن نعبر الى ثقافة ثانية إلاّ بدءاً من ثقافة أولى. وليس هذا العبور محواً، وإنّما هو اقترانٌ. فلكي تكون الآخر لا بد أن تكون ذاتاً - أن تكون ذاتك. وهذا ما تجسّده، على نحو موضوعي، اللّغة. لكل إنسان لغة. والإنسان هو، إذن، تحديداً، لغة لا يمكن تخطّيها أو محوها. غير أنّ سرّ اللغة بَرْزَخيٌّ: توحّد لحظة تفرّق. تفرّق بحروفها ونطقها، وتوحّد بما تنقله هذه الحروف من أفكار، وبما تفتح هذه الأفكار من آفاق، وتؤسّس من علاقات. كلّ لغة انفصال من حيث هي كلام. وفي كونها كذلك ما يبقيها حارسةً لتلك العلاقة الإنسانيّة بين الهوية والاختلاف. غير أنّها في الوقت ذاتهِ بَرْزَخٌ، لا تكتمل إلاّ بالعبور الى طرفها من الجهة الثانية. وهي، إذن، جوهريّاً كيانٌ مترحّل بالقوة، وإن كان مستقرّاً بالفعل. وفي ترحّلها هذا تترحّل إبداعاتها، أي أنّ هويّتها الثقافية - الإبداعيّة ترحل هي كذلك. وبقدر ما تكون هذه الهوية غنيّة إنسانيّاً، يكون ترحّلها في حركة دائمة لا تعرف أي حدّ، وتتخطّى جميع الحدود. هكذا تفيض اللّغة عن حدودها القوميّة الجغرافيّة، وتتخطّاها، وتفيض الهوية عن حدود انتمائها السلالي أو الجغرافي، لتكون مفتوحة بلا حدّ على الهويات الأخرى. تكون الهوية الثقافية هوية مترحّلة، فيما وراء الحدود كلها، أو لا تكون إلاّ بدائية عمياء. ولَئِنْ كان الإنسان في أعمق تحديد لهويته، لغةً، وكان بوصفه جسداً منتمياً الى جماعة لغويّة، لا يقدر أن ينفصل عنها، أي عن علاقات ولادته ونموّه، علاقات الحياة والطبيعة، فإنّه بوصفه فكراً أو ثقافة، أو بوصفه مبدعاً، يتجاوز انتماءه الأوّل في وطنه المحدّد، الى الإنسان في كلّ مكان، وفيما وراء الحدود كلّها. وقد يكون انتماؤه الى فكر، خارج حدوده الخاصة أكثر قوة من انتمائه الى فكرٍ داخل هذه الحدود. وتلك هي خصوصيّة الإبداع الإنساني. ليس للإبداع وطنٌ خاص به يلغي انتماءه الى الأوطان كلّها. فوطن الإبداعِ مفتوحٌ، هو المكان الذي يصل إليه ويتقبّله ويحمله أياً كان هذا المكان. وليس هناك إذاً، بلدٌ أحقُّ بفكر الإنسان من بلد آخر. باختصارٍ، ليس للإبداع، أي للثقافة حدود. فالإبداع لا يحرّر "الروح" وحدها، وإنّما يحرّر الجسد كذلك. الإبداع أفق لا مكان فيه للحدود لكي تُرسمَ أو لكي ترتسم: أفق مفتوح بلا نهاية على اللانهاية. لا وطن إلاّ للجهل، أو لنقل مع لامارتين "لا وطن إلاّ للكراهية والأنانية. الأخوّة لا وطن لها". زL'ژgoiste et la haine ont seuls une patrie: la fraternitژ n'en a pasس Alphonse de Lamartine -5- "فيما وراء" trans - هذه البادئة Prژfix هي، اليوم، النّسغ الذي يحيي الثقافة ويحيي الإنسان. إنها البادئة التي لا تمحو ما تتجاوزه وإنّما تحرّكه في مدارٍ آخرٍ. تثبّته فيما تعطيه وجوداً آخر ومعنى آخر. وثقافة هذه البادئة لا يمكن أن تكون ثقافةً ماحيةً خصوصاً أنّها، تحديداً، نقيضٌ للعولمة في صورتها التقنويّة - السوقيّة. كلّ ثقافة تمحو هي ثقافة غير إنسانيّة. وإذن لا هويّة لها إلاّ في ما يكون خارج الإنسان، ولا وطن لها إلاّ الفراغ. وتأسيساً على ذلك لا يستطيع أن يبني مستقبلاً شخصٌ يقدّم نفسه بوصفه مُنْبَتَّ الجذور، ذلك أنّ هذا الإنسان لن يكون "قصبةً مفكّرة"، كما يقول باسكال، وإنّما سيكون "قصبةً يابسة". والإنسان الذي سيمهد لمجيء إنسان المستقبل، إذاً، هو الإنسان الذي سيشعر أنّه مركوزٌ في جذوره، ملتحمٌ بغيره، مفتوحٌ على المجهول بحيث يتّجه بكيانه كله الى بناء مستقبل مشترك للإنسانية جمعاء، دون أن يذوب فيها، دُونَ أن يفقد هويته، وذلك من أجل أن يبقى شريكاً في تعدّدها، وشريكاً في وحدتها. -6- في المتخيَّل العربي أنّ ثمّة أرضاً مجهولة حتّى داخل الأرض المسكونة أو المعروفة. كأنّ المدينة اثنتان: واحدة مرئيّة، وأخرى غير مرئية. الأولى معروفة على السطح، تقودها المؤسَّسة، والثانية مجهولة تقودها المخيّلة، ويعرفها الناس بأحلامهم وتخيّلاتهم وحدوسهم وتوقّعاتهم، بحيث تبدو أنّها معمورة، يخرج منها ويدخل إليها دائماً بشرٌ مستورون، في أشكال جنّ وملائكة وسَحرةٍ وعشّاق ومجانين، وأبطال سندباديين مغامرين يبحثون عن الغريب النادر. وتبدو هوية هذه المدينة السفلى، أو غير المرئية، كأنّها لا تستمد مقوماتها - حركةً واستمراراً، من البدايات أو من الجذور، وإنّما تستمدها ممّا يأتي - من المستقبل الذي تَأْمَلُ به، وتتطلّع إليه وتتخيّله. إنها مدينة تجسّد حركيّة الخروج من الذات نحو لقاء شخص آخر، أو شيء آخر. وفي هذا الخروج لا تضيع الذات في هذا الغريب الذي تلتقيه، سواء كان شخصاً أو شيئاً، وإنّما على العكس، تتغيّر وتتجدّد. فالكائن عندما يخرج من ذاته لا يضيع هو ولا تضيع هي، وإنما على العكس يزدادان حضوراً - وينموان في ضوء جديد، وفي علاقات جديدة. وفي الفكر العربي الصوفي هاجسٌ يتمحور حول فكرة الإنسان الكامل، لكن الذي يظل قابلاً لمزيدٍ من الكمال، كمثل الكون الذي لا نهاية له. هذا الإنسان الكامل كونيٌّ يتجاوز شخصه في انتمائهِ الخاص، ويتجاوز الآخر الشّبيهَ، لكي يصبح إنساناً آخر جديداً: خلاصةٌ للكون بوجهيه المرئي واللامرئي، لكن في أحضان هوية هي الكون كلّه. -7- في الثقافة التي تتجاوز الثقافات ما يمهّد لمجيء هذا الإنسان الكامل، إنسان المستقبل، الإنسان الذي سيكون خلاصة الكون، لكن في أحضان هويّة كونيّة تتفتح بلا نهاية، وتتكامل في حركية الإبداع. من هذه الطينة الثقافية التي تخترق الثقافات وتتجاوزها، سوف تولد ثقافة المستقبل، وسوف يولد إنسان المستقبل، الإنسان الكامل. باريس، أوائل تموز،2000 * تهيئ "مجموعة 21" الفكرية الفرنسية، المعنية خصوصاً بثقافة المستقبل وإنسان المستقبل، والتي يرئسها العالم الفيزيائي باساراب نيكوليسكو عدداً خاصاً من مجلتها الناطقة باسمها حول "إنسان المستقبل"، وقد شارك أدونيس، وهو عضو في هذه المجموعة، بمقالة ننشر هنا نصها العربي، باتفاق مع المجلة.