Helene Carrere D'Encausse. Lenine. لينين. Hachette, Paris. 2000. 684 Pages. كان السؤال الذي يلح عليّ، من الصفحة الأولى الى الصفحة الأخيرة في هذا الكتاب الموسوعي والأخاذ معاً عن لينين، هو التالي: هل الستالينية، كما جرى تصويرها لاحقاً، انحراف عن اللينينية، وهل كانت مصائر الثورة البلشفية ستختلف لو خلف لينين قيادي آخر غير ستالين مثل تروتسكي أو زينوفييف أو سفردلوف؟ لا شك ان للاشخاص، بما هم كذلك، دورهم في التاريخ. ولا شك ايضاً ان أحداً من قادة الثورة البلشفية، وفي مقدمتهم لينين نفسه، ما كان، من حيث الطبع، بمثل فظاظة ستالين. ولكن هل الجريمة التاريخية الكبرى التي مثلتها الستالينية، قابلة للرد الى فظاظة طبع ستالين، أي في التحليل الأخير الى "صدفة" من صدف التاريخ؟ ام ان الستالينية، كنظام، كانت منقوشة سلفاً في اللينينية انتقاش الثمرة في البذرة؟ ان هذا الكتاب، الذي كتبته واحدة من أبرز اختصاصيي القرن بتاريخ الثورة الروسية، لا يتطرق الى موضوع الستالينية، لكنه لا يترك أيضاً مجالاً للشك لدى القارئ: فالستالينية لم تكن "خطأ" تاريخياً، وانما هي ترجمة تطبيقية ل"خطأ" كان كامناً في صلب النظرية اللينينية، وهذا الخطأ ليس له سوى اسم واحد: انه "الحزب" كما صاغ مفهومه لينين، وهي الصياغة التي مثلت جوهر تدخل لينين على النظرية الماركسية. لقد تمت الصياغة الأولى - والنهائية - لمفهوم الحزب عندما كتب لينين في 1902 - وكان له من العمر اثنان وثلاثون عاماً - نصه الشهير: "ما العمل؟". ففي هذا الكتاب تم تحديد الحزب بأنه هو - وليس البروليتاريا بما هي كذلك - عامل الثورة البروليتارية وأداتها معاً. ولقد كانت نقطة انطلاق لينين في تحليله ان دخول روسيا المتأخر في طور التصنيع الرأسمالي قد حكم على الطبقة العاملة الروسية الفتية بأن تكون - بالمقارنة مع نداتها الأوروبيات - لا ضعيفة عددياً فحسب، بل ايضاً غير ناضجة الوعي الطبقي. وعلى أي حال، فإن الوعي الطبقي، بالمعنى السياسي للكلمة، ليس ظاهرة تلقائية لدى الطبقة العاملة. فلو تركت الطبقة العاملة لعفويتها، لما أفلحت في ان تتوصل الى أكثر من الوعي النقابي. وقد أثبتت التجربة التاريخية لا في روسيا وحدها، بل حتى في بلدان الرأسمالية العريقة، ان "الوعي الطبقي السياسي - كما يقول لينين - لا يمكن ان يأتي الى العمال الا من الخارج، أي خارج الصراع الاقتصادي، وخارج العلاقات بين العمال وأرباب العمل". والحال ان غياب الوعي الطبقي الفطري لدى العمال يحكم على حركاتهم بأن تكون محض حركات "مطلبية" لا تتعدى الشأن الاقتصادي الى الشأن السياسي، ولا تتمخض إلا عن "ترتيقات" وتسويات مع النظام الرأسمالي القائم. ومن هنا كانت حاجة الطبقة العاملة الى تدخل من خارجها، من جانب الانتلجنسيا الثورية تحديداً، لكي تنعتق من إسار الايديولوجيا البورجوازية ولكي تكتسب، من خلال الايديولوجيا الثورية التي تمدها بها الانتلجنسيا، الوعي الطبقي السياسي وتتحول الى "بروليتاريا" بالمعنى "الثوري" الذي بات لهذه الكلمة في المعجم الماركسي - اللينيني. ولكن اذا كانت شروط الديموقراطية النسبية السائدة في بلدان الرأسمالية الأوروبية العريقة تتيح امكانية تلاقٍ مشروع بين المثقفين الثوريين والعمال، كما هو واقع الحال في الاحزاب الاشتراكية - الديموقراطية في أوروبا الغربية، فإن الاستبداد السياسي السائد في روسيا القيصرية - التي تبقى من هذا المنظور "آسيوية" اكثر منها أوروبية، لا يترك من خيار آخر سوى التنظيم الحزبي السري الذي تتولى قيادته طليعة أقلوية من الثوريين المحترفين. ونظراً الى خطورة المهمة التاريخية لهذه الطليعة الثورية، التي يقع على عاتقها ان تستبدل نظاماً عتيقاً قائماً بنظام سياسي واقتصادي جديد، فإنه يتعين ان يكون الحزب الذي تتجسد فيه تلك الطليعة حزباً ممركزاً، متراتباً هرمياً، شديد الانضباطية، وليس فيه مكان للمساجلات اللفطية التي لا تفضي الى نتائج عملية. وذلك هو مبدأ "وحدة الارادة" التي ينبغي ان توجه نشاط الحزب جملة ونشاط كل عضو من أعضائه على حدة. وعدا الالتزام الطوعي الذي يتنازل بموجبه كل عضو عن ارادته الخاصة، فإنه ليس من ضابط لوحدة الإرادة سوى التطهير الدائم للحزب لاستبعاد الاخطاء والمخطئين، والانحرافات والمنحرفين. وبالفعل، ان الجملة الأولى التي يبدأ بها كتاب "ما العمل؟" هي التالية: "ان الحزب يقوى ويتصلب عوداً بتطهيره نفسه باستمرار". والانضباط الداخلي لحزب طليعي وثوري كهذا يجمع بين انضباط "المصنع" وانضباط "الجيش". ففي المصنع يؤدي كل عامل عمله المخصص له برسم مشروع جماعي يتخطى الاعمال الجزئية لمجموع العمال. وفي الجيش يخضع الانضباط المتراتب هرمياً لغائية قتالية هي عينها التي تسدد الخطى للحرب في حربه الطبقية الثورية. وعلى هذا النحو يجمع الحزب، كمنظمة طليعية للثوريين المحترفين، بين مبدأ التقسيم الافقي للعمل داخل المصنع وبين مبدأ التسلسل العمودي لصنع القرار وتنفيذه داخل المؤسسة العسكرية بحيث تكون آمرية القيادة ملزمة لجميع القواعد بلا استثناء. وصحيح ان لينين سيضيف الى هذه "المركزية" في وقت لاحق، وبعد انتصار ثورة تشرين اول اكتوبر 1917، صفة "الديموقراطية"، ولكن في حينه كانت اللحظة "المركزية" مقدمة بإطلاق نظراً الى ان المناعة الأمنية الداخلية للحزب الثوري كانت تتقدم على كل اعتبار ديموقراطي في ظروف المواجهة القاسية مع الاوتوقراطية القيصرية واجهزتها القمعية الشرسة وشرطتها السرية الكبيرة الفاعلية. ولكن ايما تكن الظروف العينية التي أملت هذا التصور العسكري للتنظيم الحزبي الثوري السري، فإن النظرية اللينينية قد انتهت، شعورياً أو لا شعورياً، الى ان تضع الحزب وقد كان اسمه في حينه حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي خارج الطبقة العاملة وفوقها. وهذه النزعة الاحلالية الحزب البروليتاري محل البروليتاريا هي التي أباحت للينين ان يتصور ان اقدام الحزب البلشفي على الاستيلاء الانقلابي على السلطة في اكتوبر 1917 هو عمل مشروع تماماً من وجهة النظر التاريخية، رغم ان الحزب البلشفي كان في حينه حزباً أقلوياً. ففي فترة العمل السري، قبل ثورة شباط فبراير 1917 التي اطاحت الحكم القيصري، ما كان تعداد اعضاء الحزب يزيد على أربعة وعشرين ألف عضو. وعلاوة على ذلك فإن أحزاباً يسارية اخرى كانت تنافسه على تمثيلية الطبقة العاملة مثل المناشفة والاشتراكيين الثوريين. وأخيراً فإن الطبقة العاملة نفسها، التي كان ينشط باسمها، كانت طبقة أقلوية في المجتمع الروسي: فالملايين العشرة من العمال الروس ما كانوا يمثلون سوى 7 في المئة من اجمالي تعداد سكان الامبراطورية القيصرية 140 مليون نسمة، بينما كان الفلاحون المئة والعشرة ملايين يمثلون 80 في المئة. ولئن يكن الحزب البلشفي تحول في الفترة الفاصلة بين فبراير واكتوبر 1917 الى حزب شبه علني وتضاعف تعداد اعضائه نحواً من عشر مرات، فقد بقيت نسبته العددية الى اجمالي تعداد السكان، يوم قرر الاستيلاء على السلطة، لا تتعدى 2 في الألف. وعلى سبيل المقارنة فحسب، نذكر ان الحزب الشيوعي الايطالي امتنع غداة الحرب العالمية الثانية عن الاستيلاء اللاشرعي على السلطة رغم ان تعداد أعضائه كان وصل عام 1945 الى 1.5 مليون عضو من أصل 45 مليون ايطالي، مما يعني ان ثلاثة من كل مئة ايطالي كانوا في حينه شيوعيين. هذا الحزب البلشفي الشديد الاقلوية هو الذي أخذ قراره "التاريخي" عام 1917 لا بالاستيلاء على السلطة فحسب، بل بالانفراد بها ايضاً - دون بقية الاحزاب التي حُظّرت بعد تصفيتها جسدياً - على مدى أربعة وسبعين عاماً بتمامها. والأخط من هذا بعدما كان الحزب البلشفي، المنبني وفق التصور اللينيني أباح لنفسه ان يضع نفسه فوق الدولة منذ 1917، مثلما كان وضعها منذ 1902 فوق الطبقة العاملة. فبدلاً من ان يبقى خاضعاً لتشريع الدولة، غدت الدولة خاضعة لتشريعه. فليست الدولة هي التي تحكم، بل هو الذي يحكم الدولة. وما يصدق من هذا المنظور على الدولة يصدق على الجيش وعلى النقابات وعلى سائر مؤسسات المجتمع المدني. فالحزب هو سلطة داخل كل سلطة، وفوق كل سلطة، ومحل كل سلطة في آن معاً. وليس يصعب علينا ان ندرك ان هذه النزعة الاحلالية الكلية كانت هي وراء ولادة التوتاليتارية الستالينية. وليس من قبيل الصدفة ان يكون ستالين قد انتصر ليس فقط على منافسيه من أمثال تروتسكي وزينوفييف وكامينيف، بل كذلك على لينين نفسه الذي اكتشف في الأسابيع الأخيرة قبيل وفاته مدى "فظاظته": فسائر قادة الثورة البلشفية كانوا يشغلون مناصبهم المركزية في الإدارة والجيش والسوفياتات والنقابات، لكن ستالين هو وحده الذي كان يشغل منذ نيسان ابريل 1922 منصب "الأمين العام للحزب"، وهو منصب اخترع برسمه شخصياً، وبمباركة من لينين، ولم يكن له وجود في الحزب من قبل. ان الوثائق التي كشف عنها النقاب عقب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956 تشير الى ان لينين اكتشف، وهو على فراش المرض الذي سيودي بحياته، حقيقة شخصية ستالين، فنص في "وصيته" - التي لم تطبق - على ضرورة استبعاده. وقد أمكن لدراسي الثورة الروسية ان يتحدثوا هنا عن ظاهرة "فرانكشتاين": فكما ان المخلوق المسخ للدكتور فرانكشتاين تمرد على خالقه، كذلك فعل ستالين الذي فرض على لينين في الاسابيع الأخيرة من حياته نوعاً من اقامة جبرية في سرير مرضه ومنع عنه الاتصال مع باقي قادة الحزب وأهان زوجته كروبسكايا وهددها ب"سوء العاقبة"، فيما اذا تجرأت على ان تفتح فاها. ولكن ان يكن من مخلوق فرانكشتايني حقاً فهو الحزب نفسه. فهذا الكائن الاخطبوطي الذي خلقه لينين من بنات فكره الثوري ليحل محل البروليتاريا والدولة والمجتمع، وليكون السلطة التي تستتبع لها كل سلطة اخرى، كان هو الصانع الحقيقي للتوتاليتارية السوفياتية، ولم يكن ستالين نفسه الا ارادته ويده الضاربة. ولو لم يكن ثمة وجود لستالين لكان أي "أمين عام" يشغل هذا المنصب سيتحول الى "ستالين" آخر. وبدءاً بخروتشوف وانتهاء بغورباتشوف لم تفلح أية محاولة تجميلية لترميم "الوجه الانساني للمسخ الفرانكشتايني". ومن هنا كان القرار المصيري بالتخلص منه بصورة نهائية عندما كف الاتحاد السوفياتي عن ان يكون منذ 1991 دولة الحزب الواحد.