تحلق في سماوات الشرق الأوسط في هذه الأيام، وبمناسبة انعقاد قمة كامب ديفيد الثانية، أجواء تختلط فيها الأحلام بالكوابيس والرؤى بالأساطير وسحر الشرق وهيامه بواقعية الغرب وعقلانيته. ووسط هذه الأجواء الأسطورية التي تشبه مرحلة ما قبل المخاض يترقب الناس في قلق ظهور معجزة كبرى ويتوقعون أن يطل عليهم الرئيس كلينتون بين ليلة وأخرى وهو يمسك بتلك الورقة المسحورة التي طال انتظارها والتي خطت عليها نصوص معاهدة تنهي القضية التي احتدم حولها الصراع في الشرق الأوسط لأكثر من نصف قرن من الزمان. غير أنه يتعين علينا أن ننحي هذا الجو الأسطوري جانباً كي ندرك حقيقة ما يمكن أن تسفر عنه قمة كامب ديفيد الثانية من نتائج. ولأن النتائج لا تنفصل أبداً عن المقدمات، فمن الضروري أن نولي قراءة مقدمات كامب ديفيد عناية خصوصاً إذا ما أردنا أن نتعرف على نتائجها الحقيقية المحتملة. وفي تقديري أن القراءة المدققة لتلك المقدمات تشير إلى جملة من الحقائق يمكن تلخيصها وعرضها على النحو التالي: - أولاً: أن الرئيس كلينتون كان هو أكثر الأطراف حرصاًَ ليس فقط على انعقاد قمة كامب ديفيد الثلاثية وإنما على إنجاحها أيضاً. ويعود هذا الحرص الى سببين رئيسيين أحدهما ذاتي والآخر موضوعي. أما الشق الذاتي فيعود إلى رغبته الجامحة في محو عار فضيحته مع مونيكا، والتي يعتبرها كبوة أو سقطة لا يجوز الحكم عليه من خلالها، وبأن يذكره التاريخ باعتباره الرئيس الذي لعب الدور الأكثر حسماً في إنهاء أشد الصراعات السياسية تعقيداً وحساسية وخطورة في العالم المعاصر. غير أن هذا الدافع الذاتي ما كان ليصمد وحده كضمان لانعقاد القمة أو لتوفير بعض أسباب النجاح لها ما لم يقترن بدافع موضوعي يتعلق بمصالح الولاياتالمتحدة الاميركية، وهي مصالح قد تتعرض فعلاً لمخاطر كبرى في حال انهيار عملية التسوية السياسية الجارية تحت الرعاية الاميركية المباشرة والمنفردة منذ سنوات عدة، وقد أصبح هذا الانهيار وارداً تماماً منذ أن تبين استحالة توصل باراك وعرفات وحدهما، أو من خلال الطرق التقليدية المتبعة حتى ذلك الوقت، الى اتفاق حول قضايا الوضع النهائي. ولم يكن لذلك سوى معنى واحد وهو وصول عملية التسوية الى منعطف خطير بخاصة بعد اشتداد ضغط الفصائل الفلسطينية من أجل إعلان الدولة المستقلة على كل الأرض الفلسطينية المحتلة في حرب 1967، قبل نهاية هذا العام. وتعين على الرئيس كلينتون في ظل هذا الوضع المتفجر أن يقوم بتحرك غير تقليدي لانقاذ الموقف قبل فوات الأوان. ومن هنا كان قراره بدعوة طرفي الصراع الى مؤتمر يعقد تحت إشرافه المباشر في المكان نفسه وعلى النمط نفسه الذي تمت تجربته بنجاح، من وجهة النظر الاميركية على الأقل، قبل أكثر من 22 عاماً. - ثانياً: إن إسرائيل تعاملت في البداية بحذر شديد مع ما أبداه كلينتون من لهفة للتوصل الى اتفاق قبل رحيله من البيت الأبيض. ويبدو أن تياراً قوياً داخل النخبة الحاكمة في إسرائيل كان يراهن على المماطلة وكسب الوقت، لإتاحة الفرصة أمام المزيد من عمليات التهويد الجارية في القدس والتوسع في بناء المستوطنات لفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين وعلى آل غور، باعتباره أكثر المرشحين حماساً واستعداداً لتلبية كل الطلبات والانصياع إلى الشروط الإسرائيلية كافة، غير أن تياراً آخر لا يقل قوة ونفوذاً كان يرى على العكس من ذلك، أن الفرصة وبخاصة في ظل الأوضاع السائدة الآن في البيت الأبيض، أصبحت سانحة لتسوية معقولة وأنه قد لا يتاح أفضل منها في المستقبل. وحسم باراك خياراته في النهاية لمصلحة التيار الراغب في اقتناص تلك اللحظة التاريخية الفريدة وتوظيف الإدارة الاميركية الحالية في خطة إسرائيلية جسورة لإنهاء الصراع مرة واحدة وإلى الأبد. وثبت لباراك بالدليل القاطع أن ائتلافه الحكومي الهش كان يتعرض الى عمليات ابتزاز في كل مرة يخطو فيها خطوة صغيرة على طريق التسوية وبات من ثم مقتنعاً بأن عليه أن يمضي قدماً غير عابئ بمصير هذا الائتلاف أن أراد تسوية شاملة، وربما يفسر ذلك لماذا بدا باراك في الاسابيع التي سبقت القمة كأنه أكثر حرصاً وتلهفاً على انعقادها. - ثالثاً: إن عرفات كان أكثر الأطراف الثلاثة تردداً وخوفاً من عقد قمة ثلاثية في مثل تلك الأجواء الملبدة بالغيوم، فالفجوة بين المواقف الإسرائيلية والفلسطينية حول القضايا المؤجلة كافة كانت ما تزال كبيرة، ولم يكن باستطاعة المفاوضات السرية التي جرت في كوبنهاغن على مدى اسابيع طويلة أن تقلص هذه الفجوة بشكل محسوس على رغم ما احرزته من تقدم، واحتمال قيام الإدارة الاميركية بالضغط على إسرائيل لحملها على تليين موقفها في مفاوضات الوضع النهائي لم يكن وارداً بدليل أن هذه الإدارة نفسها رفضت بعناد، منذ بداية تولي كلينتون للسلطة في عام 1993، ممارسة أي ضغط لحمل إسرائيل على تنفيذ ما سبق أن التزمت به في الاتفاقات التي وقعت عليها بشهادة الولاياتالمتحدة نفسها، ومما لا شك فيه أن عرفات كان يدرك تماماً أن كلينتون لن يقدم على أي عمل قد يلحق الضرر بفرض مرشح الحزب الديموقراطي في الفوز في انتخابات الرئاسة المقبلة. ولذلك كان من الطبيعي أن تنتاب ياسر عرفات مخاوف الانحشار بين مطرقة باراك وسندان كلينتون، إن هو وافق على عقد قمة ثلاثية في مثل تلك الظروف، ولا شك أن تلك المخاوف تضاعفت لدى عرفات عندما حسن كلينتون أمره وقرر توجيه الدعوة لعقد القمة الثلاثية رغم الموقف الفلسطيني المعلن المطالب بضرورة تضييق الفجوة أولاً قبل المخاطرة بعقد مثل هذا اللقاء والحيلولة من دون تحوله إلى "لقاء الفرصة الأخيرة". ولم يكن بوسع عرفات، على رغم ذلك كله، أن يرفض دعوة رسمية وعلنية موجهة من رئيس الولاياتالمتحدة لعقد قمة ثلاثية مغلقة وممتدة في كامب ديفيد حتى وإن بدت تلك الدعوة وكأنها استجابة فورية لمطالب باراك واحتياجاته وبصرف النظر عن وجهة النظر الفلسطينية، ولذلك لم يكن غريباً أن يبدو الطرف الفلسطيني وكأنه استدرج الى مصيدة. بل إن الوفد الفلسطيني المفاوض في كامب ديفيد بدا وكأنه تعرض لعملية اختطاف فعلية واصبح مقطوع الصلة بكل العالم بما في ذلك شركاؤه في الحكم. وكان مشهداً مثيراً حقاً حين لاحقت كاميرات التلفزيون مادلين أولبرايت وهي تغادر الكامب لتلتقي بقيادات بعض الفصائل الفلسطينية التي جاءت للقاء عرفات بناء على طلبه لتوصيهم بعرفات خيراً. هل معنى ذلك أنه لم يعد أمام عرفات سوى أن يوقع بالإكراه على صك التسوية بالشروط الإسرائيلية تحت حماية اميركية غير مشروطة؟ ليس بالضرورة فعلى رغم أن صورة لعرفات وهو يمسك القلم بيد مرتعشة أمام باراك الذي يفرد أمامه بورقة التسوية ومن ورائه كلينتون واضعاً فوهة مسدسه في منتصف رأسه، هي أقرب ما يرد، كاريكاتورياً، إلى الذهن حقيقة ما يجري في كامب ديفيد، إلا أن عرفات ما زال يملك رغم ذلك أهم الاوراق وهي ورقة رفض التوقيع بالإكراه، لكن هل يجرؤ عرفات حقيقة على أن يقول لا؟ وهل تواتيه الشجاعة على التمسك بالثوابت "حتى لو فقئوا عينيه؟"، ومتى يتعين عليه أن يقول لا وكيف؟ للإجابة عن تلك الأسئلة، التي يبدو بعضها مفزعاً، يتعين علينا أولاً أن نتذكر أن الفجوة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ليست على هذا النحو من الاتساع الذي تحاول أن تظهره او توحي به وسائل الاعلام المختلفة وخصوصاً العربية، صحيح ان باراك ذهب الى كامب ديفيد ومعه لاءاته الخمس، فقد قال لا للعودة الى حدود 1967 وهو فعلاً يعني ما يقول، لكن هناك ما يشير الى انه بات على استعداد ليس فقط للانسحاب من اكثر من 90 في المئة من اراضي الضفة الغربية ولكن للقبول ايضا بمبدأ مبادلة الاراضي التي لن ينسحب منها بأراض اخرى داخل اسرائيل ذاتها، وقال ان القدس تتبقى عاصمة موحدة وابدية تحت السيادة الاسرائيلية، وهو يعني فعلاً ما يقول، لكنه بات على استعداد للقبول بوضع الاحياء العربية في القدسالشرقية تحت حكم ذاتي وبرفع العلم الفلسطيني فوق الاماكن المقدسة وعلى رأسها المسجد الاقصي، وقال باراك لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين وهو يعني فعلاً ما يقول، بل ورفض ان تتحمل اسرائيل اي مسؤولية اخلاقية او دولية عن مأساتهم، لكنه بات على استعداد لقبول عودة نسبة محدودة من اللاجئين في إطار عملية ممتدة "لجمع العائلات" وبمساهمة اسرائيل بنسبة كبيرة من الدعم المالي اللازم لتعويض اللاجئين واعادة توطينهم.. وبافتراض صدق ما يتردد عن هذه المواقف الاسرائيلية الجديدة إلا انه من المؤكد انها لا تكفي كأساس صلب لحل تاريخي قابل للدوام بين الفلسطينيين والاسرائيليين، غير ان بعض المحللين الجادين يؤكدون في الوقت نفسه ان هذه المواقف الاسرائيلية ليست نهائية، وانها مواقف قابلة للتطور بفعل ديناميكية عملية التفاوض ذاتها، خصوصاً إذا تمت هذه العملية في جو مغلق ومعزول بالكامل عن وسائل الاعلام، وبالتالي فليس من المستبعد ان تلتقي مصالح جميع الاطراف عند نقطة ما قد تسمح بالتوصل الى حل وسط تاريخي في نهاية تلك القمة، وهنا تبرز المعضلة وتتجلى ابعاد المأزق الفلسطيني الراهن، فمجرد قبول الفلسطينيين بعملية تفاوضية يصبح القرار 242، والذي تتباين تفسيراته بين العرب والاسرائيليين حتى الآن، هو سقفها فان ذلك يعني ان اي حلول وسط تفاوضية لابد وان تسلم بأقل من هذا السقف او الحد الاقصى، إذ لا يمكن عقلاً تصور ان ينجح الفلسطينيون في الحصول على الحد الاقصي من مطالبهم المعلنة حالياً في ظل الخلل القائم لغير مصلحتهم في موازين القوى، ذلك ضد منطق الامور. في هذا السياق من المتوقع ان يواجه المفاوض الفلسطيني في كامب ديفيد خيارات تبدو جميعها مرة، فأقصى ما يمكن ان يصل اليه باراك هو محاولة عقد صفقة تقوم على مبادلة ما يعتبر انه تنازلات من جانبه في قضية الارض والمستوطنات والدولة الفلسطينية مقابل تنازلات فلسطينية حول القدس واللاجئين وربما يذهب باراك، إذا احسنا الظن به الى حد الموافقة على قيام دولة فلسطينية على ما يقرب من 94 في المئة من الاراضي الفلسطينية المحتلة بعد 1967 مع تجزئة عملية الانسحاب على مراحل، كأن ينسحب من 80 في المئة من هذه الاراضي بمجرد التوقيع على الاتفاقية ويسدد الباقي بالتقسيط على ثلاث او خمس سنوات مع الاصرار في الوقت نفسه على ضم المستعمرات القريبة من القدس في مقابل مبادلتها باراض اسرائيلية يتم التنازل عنها في الشمال الشرقي لقطاع غزة، وفي مقابل ذلك فسوف يطلب باراك من الفلسطينيين التسليم بالسيادة الاسرائيلية على القدس، والتخلي عن المطالبة بحق العودة للاجئين. إذا صح هذا التحليل وعرضت على عرفات صفقة من هذا النوع فلن يكون امامه سوى واحد من خيارات ثلاث: الاول: رفض الصفقة برمتها والتمسك بالثوابت وعدم التفريط في اي من الحقوق الفلسطينية الاساسية، وهو ما سيدفع بالولاياتالمتحدة واسرائيل الى تحميل الطرف الفلسطيني وحده مسؤولية فشل المفاوضات، وقد لا تتردد دول عربية التي تتعجل التسوية بأي ثمن في شن حملة شرسة موازية على القيادة الفلسطينية بوصفها "قيادة الفرص الضائعة". الثاني: قبول الصفقة باعتبارها فرصة لتحقيق جزء من حقوق الشعب الفلسطيني وتمكينه من السيطرة على الجزء الاعظم من الاراضي التي فقدها في العام 1967، ومع ذلك فسوف يتعين على القيادة الفلسطينية في هذه الحالة ان تخاطر بمواجهة مع فصائل فلسطينية سيتركز على نصف الكوب الفارغ والحقوق التي تم التفريط فيها، وهو ما قد يترتب عليه تاجج الصراع على الساحة الفلسطينية. الثالث: تأجيل البت في قضيتي القدس واللاجئين على امل انضاج ظروف لمعالجتهما على نحو افضل في المستقبل وحتى لا تتحطم فرص تسوية حتى ولو كانت جزئية، قد لا تتاح فرص افضل منها في المستقبل المنظور، غير ان التأجيل، وخصوصاً إذا لم يكن مصحوباً بضمانات مؤكدة للحيلولة دون تغيير الامر الواقع على الارض لمصلحة الطرف المحتل وبآليات قادرة على الابقاء على باب المطالب الفلسطينية مفتوحاً، فإنه قد يفسر في هذه الحالة على انه من قبيل التنازل الضمني او المستتر، وتنازل السلطة الفلسطينية في قضايا جوهرية مثل القدس واللاجئين سواء كان صريحاً او ضمنياً سوف يعد من جانب معظم الفصائل الفلسطينية تفريطاً غير مقبول بالحقوق واهدار غير مبرر لتضحيات هائلة، ومن ثم يؤدي الى فقدان القيادة الفلسطينية لصدقيتها لا محالة. هذه الخيارات، والتي تبدو جميعها مرة في حلوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين كافة، لن تكون مقبولة في الوقت نفسه من جانب قطاعات كبيرة ومؤثرة من الاسرائيليين. فإذا اضفنا الى هذه الصورة المعقدة جانباً آخر وهو ان الاطراف المتفاوضة كافة ليست مستعدة لدفع ثمن الفشل في قمة كامب ديفيد او لمواجهة الاحتمالات المخيفة لانهيار عملية التفاوض برمتها فسيتحتم العثور على مخرج ما في كامب ديفيد، لذلك يبدو ان لا مناص من اللجوء مرة اخرى الى تلك الصياغات السحرية التي توحي باشياء وآمال كثيرة من دون ان تلزم احداً بأي شيء وتتعمد ضخ قدر لا بأس به من "الغموض البناء" وفقاً للتعبير غير الدقيق الذي شاع اخيراً، فالغموض لا يكون بناءً الا اذا عمل لمصلحة جميع الاطراف وخدم قضية التسوية والسلام في نهاية المطاف، غير ان تجربة اوسلو اثبتت للاسف الشديد ان الغموض يصب دائماً في مصلحة الطرف الاقوى، * كاتب مصري.