مع بداية كل عام جديد ترشح بعض المجتمعات في العالم كلمة جديدة، لتصبح كلمة العام، وهي عادة الكلمة الأكثر استخداماً نطقاً وكتابة. وفي ألمانيا يصدر كتاب دوري يُطلق عليه "الدودن" يُنظم علاقة الألمان باللغة، من الإملاء مروراً بالكلمات الغريبة حتى النحو. وفي هذه السنة اختارت اللجنة المذكورة الكلمة الأكثر استخداماً ليس في العام الماضي المنصرم فقط، وإنما الكلمة الأكثر استخداماً في القرن الماضي: Modernisierung أو التحديث. والأمر يُثير التداعي فينا ويحملنا على التفكير بالوضع عندنا. صحيح أننا لا نملك لجنة مثل هذه اللجنة، ولكن على العكس عندنا أكثر من مجمع لغوي، أعضاؤه ينامون ويصحون على طريقة أهل الكهف، ولكن ماذا لو كانت عندنا بالفعل لجنة شبيهة، وما هي الكلمة التي ستختارها، هل سيفاجأ بعضنا، عندما يعرف أن الكلمة المختارة، والأكثر استخداماً في البلدان الناطقة بالعربية ستكون بالتأكيد كلمة "مؤامرة"؟ ليس المقصود هنا حديث السياسيين عن المؤامرة، فالمؤامرة عنصر مهم من عناصر عالم السياسة، إذ يتغذى الاثنان بعضهما من بعض. المقصود أكثر هو استخدام المثقفين والمفكرين للكلمة في مناسبة ومن دون مناسبة. فمنذ بداية القرن الماضي، والمثقفون الناطقون بالعربية هم أكثر الناس ترويجاً ل"المؤامرة". عباس محمود العقاد الذي يُطلقون عليه "عميد الأدب العربي"، لم يكتف بتصنيف الرواية كفن منحط لا يمكن مقارنته بفن الشعر "العظيم"، لأن النثر وفق تصوره انظر الى كتابه: في بيتي هو "فن العامة" الرعاع! عكس الشعر الذي هو فن النخبة "الصفوة المختارة"، بل نظر لها ك"مؤامرة شيوعية". ولكي يُثبت نظريته "العبقرية"، يقول "انظروا الى مثالهم بكتابة هذا الصنف، من الأدباء الروس البلاشفة، أمثال بوشكين". "عميد الأدب العربي" لم يعرف أن الرواية لم تنشأ في روسيا "البلشفية"، إنما نشأت قبل الثورة الروسية بأربعة قرون، وقبل بوشكين بخمسة قرون، وفي إسبانيا مع "الدون كيخوته" لثيرفانتيس. ويجهل أيضاً أن بوشكين، لم يكن بلشفياً، وأنه عاش ومات قبل الثورة الروسية. ولكنه يصر على كون الرواية "مؤامرة". على هذا المنوال الساذج بُنيت نظرية المؤامرة الأدبية لدى الكثير من المفكرين والمثقفين الذين يعدون مراجع "مقدسة" لا يمكن المساس بها، لأن المساس بها يدخل في باب "المؤامرة". فلم تمر سنوات على دعوة العقاد لدحر "المؤامرة البلشفية"، حتى بدأ الهجوم في الخمسينات على الشعر الحر، والدعوة لمكافحته باعتباره "مؤامرة استعمارية"، وأنه يسهم في تفليش إرث هذه الأمة "المجيد". سنوات طويلة كان على الشعر الحر أن يكافح ضد تخوينه، ولكن في معظم الأحيان بالسلاح ذاته: سلاح "المؤامرة". المدافعون عن الشعر الحر، نظروا الى الهجوم عليه تعبيراً عن "مؤامرة" الجهل، التي يريدها الاستعمار للمنطقة. وكان على المرء، ربما، أن ينتظر سنوات قليلة بعد ذلك، حتى تبدأ الكتابة بقصيدة النثر، ليقرأ هذه المرة، أن قصيدة النثر هي "مؤامرة صهيونية"، روجت لها مجلة شعر "العميلة". أما كتابة الشعر بالعامية، فتُعد أخطر "مؤامرة" تعرضت لها هذه الأمة "المجيدة الواحدة"... وهكذا. على مدى كل سنوات القرن الماضي، حصل تبادل في المواقع بين مهاجمي هذا المشروع أو ذاك وبين المدافعين عنه، لكن الجميع يتفقون على أن نهر الحياة عندنا لا يجري بصورة طبيعية، وإنما هناك دائماً "مؤامرة" تدفع به. والمؤامرة تحدث على كل المستويات" فهي لم تشمل كل أصناف الفنون والآداب فقط وإنما دخلت الى حياتنا اليومية وأصبحت جزءاً من تربيتنا وسلوكنا" أجيال كاملة نشأت على نظرية المؤامرة. أجيال كاملة أصابها العمى الذي يجلب معه بلادة الاعتقاد بوجود مؤامرة. إذ ليس هناك أسهل من إرجاع كل شيء الى سبب خارج عن إدارتنا، ليس هناك أكثر راحة من لعب دور الضحية. ويخطئ من يعتقد أن الصراع عندنا بين مثقفين تقدميين يؤيدون التحديث ومثقفين رجعيين ضد التحديث. كلا إن الأمر أبعد من ذلك، وسنجد جذوره في الأسس التي بُنيت عليها ثقافتنا "التنويرية". لذلك لا نقرأ أي بيان بالتضامن مع سعد الدين ابراهيم مثلاً، بينما قرأنا قبل ذلك بأسابيع، بيانات لمئات الأسماء التي طلعت علينا بعد سبات طويل، تعلن تضامنها في الرد على "فقهاء الظلام" وتكفيرهم لرواية كانت صدرت قبل 18 عاماً. وقليلاً ما قرأنا تضامناً ولو بسيطاً مع أحد، ومن غير المستبعد، أن اتهام الرجل بالعمالة قد هيأ له مثقفو نظرية "المؤامرة". فحتى أولئك المثقفون "اليساريون" الذين كانوا يُصنفون في كونهم جزءاً من المؤامرة، يلجأون الى نظرية المؤامرة أيضاً، وكل دعوة الى ليبرالية الثقافة، تُصنف في خانة "المؤامرة"، بل إنهم يؤمنون بأن انهيار الاتحاد السوفياتي وفشل الأنظمة الشمولية هو جزء من المؤامرة. لذلك ليس من الغريب، أن يكون هناك مثقفون يعتقدون أن صمود العراق لمجرد ذكر مثال حي واحد هو تجسيد لإفشال "المؤامرة". "المؤامرة" تلك الكلمة السحرية، تحمل الكثيرين على الاسترخاء والنوم بضمير مرتاح، لأنهم عن طريق ترويجها يعتقدون بإعفاء أنفسهم من كل مسؤولية. لذلك نجد أن المثقفين العراقيين، وخصوصاً الذين خرجوا في السنوات الأخيرة، واشتغلوا في الأجهزة الثقافية الفاعلة، من رؤساء تحرير جرائد، الى مديري مؤسسات إعلامية مهمة، الى ملحقين ثقافيين، وغيرها من المهن الحساسة المرتبطة مباشرة بالحزب الحاكم، أكثر إصراراً على نظرية المؤامرة. ليس من العجيب أن يقرأ المرء جملاً تدور مثل علكة عتيقة تلوكها الألسن، وأصبحت تثير الغثيان لكثرة ترديدها، مثل تلك الجملة التي تدعي أن "هناك مؤامرة لإبادة الشعب العراقي"! "المؤامرة" هي كلمة السر التي سمحت للكثيرين من كتبة المثاقفة أن يتبوأوا رئاسة كل هذه الاتحادات الأدبية العربية التي تفعل كل شيء، باستثناء الأدب، والتي تحولت الى فزاعة يريد ابتزازنا بها، كل من هب ودب! لكي يجبرنا على تبني ما يكتبه والاحتفاء به، بغض النظر عن أهميته وقيمته الفنية، معيداً تلك الأسطوانة المشخوطة التي فرضها على البشر ما سطره كتاب "شعراء المقاومة". لكن الأجيال الجديدة ورثت نظرية المؤامرة عن الأجيال التي سبقتها. وفي ديوان المؤامرة يلتقي الجميع، الأديب المخضرم الذي يشكو من القطيعة والتجاهل، على رغم أنه يلحق في كل كتاب له صفحات عدة عن المقالات والدراسات وأطروحات الدكتوراه التي كتبت عنه، بينما زميله المخضرم الآخر يشكو من "مؤامرة" أنه ظلم مع جيله، على رغم فوزه بجائزة العويس، وهو لم يكتب أكثر من روايتين لأن ما يعتقده رواية ثالثة هو قصة طويلة. هكذا تصبح "المؤامرة" هي مصدر رزق للمشتغلين بالثقافة عندنا! في هذا المكان أحصى أحد الزملاء الاتحادات الأدبية الرسمية، وهو يحاول أن يُجلسها مع بعض في قطار "ثقافي" وهمي على غرار القطار الأوروبي، وهو مصيب في أن قطاراً كهذا لن يوجد ليس بسبب الحدود وشك العرب بعضهم ببعض فقط، وإنما وتلك هي الطامة الكبرى، لأن المثقفين أنفسهم، مثقفي كل بلد سيكتبون التقارير عن زملاء لهم، وسيدعون أنهم غير مستعدين للجلوس الى جانب مثقفين "عملاء للإمبريالية والصهيونية"، إن لم يذهب البعض بعيداً ويعتبر القطار "مؤامرة" مدبرة، مثلما اعتبر الزميل القاص الليبي معمر القذافي، الديموقراطية "مؤامرة" صهيونية في خطاب له في جامعة القاهرة، وأمام حشد من أساتذة الجامعة، الذين لو كانوا اكتفوا بصمتهم فقط لهان الأمر، إنما صفقوا له بحماسة. ننام ونصحو، ومعنا المؤامرة. وإذا كان المثقفون الذين يكتبون بالعربية مدمنين على الحديث عن المؤامرة، فكيف بالمواطن "العادي"، الذي يفتقر الى أبسط حقوق المواطنة، بل حتى لو امتلك حقوقه "الإنسانية" البسيطة، فإنه لن يشك بأن ذلك جزء من "المؤامرة". قبل أيام، وأنا أشتري الخضار لدى البائع العربي في المدينة، ويدعى عباس، سألته عن الأحوال، فاشتكى لي من الألمان، ومرارة العيش، وعندما سألته مندهشاً، كيف يشكو هو صاحب المتجر الكبير، الذي يزدحم بالزبائن دائماً، وماذا سيقول إذاً أخوه المواطن الذي يعيش هناك، في البلاد؟ فقال لي "يا أخي، كل شيء مؤامرة، ضد العرب والإسلام، لماذا نحن هنا؟ إنها مؤامرة علينا، لكي يبقى اقتصادنا راكداً. وعندما فكرت بالإجابة عليه، قلت لماذا أرد عليه هو، وكنت قرأت قبل لحظات في "الحياة" التي في يدي، أن شاعراً كبيراً يجيب على الروائية التي شكت له مدعية أنه هو الذي كتب لها الرواية، جواباً سوريالياً "فجاً"، إذ تكتب الروائية "أجابني باكياً، أن هناك مؤامرة لتحطيم صموده الإنساني النبيل!!!" ألا تذكرنا هذه الصيغة بصيغة البيانات الرسمية للحكومة العراقية التي تتحدث بخرف عن صمودها الأبدي؟ والآن ماذا عن كلمة "التحديث" التي اختارها الألمان؟ بالتأكيد سيصنفها الكثير من "عمداء" الأدب المكتوب بالعربية وهم كثر بأنها "مؤامرة"، ألم ينعت الروائي العراقي "الواعد"، صدام حسين، مستخدمي الكومبيوتر ب"عبيد الكومبيوتر"، وأنه سيكتب روايته في الواقعية "الخرافية"، "أم الروايات"، بخط يده. ولكن لمَ لا، ألم يدخل العراق "العظيم!!!" القرن الحادي والعشرين وما زال امتلاك آلة الطابعة فيه يقود الى الإعدام؟ ولكن "مؤامرة" الكومبيوتر التي يحذر منها صاحب القصور، يكتب عنها جيش من الكتبة والشعراء، ولا يهم أنهم يكتبون مقالاتهم ويطبعون جرائدهم على الكومبيوتر، فقد اعتدنا في بلداننا "العظيمة!!!" السماح لأنفسنا بما لا نسمح به للآخرين. ترى متى تنتهي المؤامرة؟ أليس لكل مؤامرة نهاية، وخصوصاً بعدما دخل العالم القرن الجديد من دوننا طبعاً!!؟ عميد الأدب العربي، العقاد، لم يتنبأ لنا بتاريخ معين، هل نسأل الشاعر "الكبير"، حفيد العقاد، على أساس أن الشعراء هم صفوة الأمة؟ أم من الأفضل أن نسأل بائع الخضار. أما أنا فاخترت الجواب سلفاً: سأسأل عباس.