بعدما نالت الروائية الانكليزية ليندا غرانت جائزة "أورانج" قبل أسابيع أثار النقاد ما يشبه الفضيحة، لأنها أخذت معظم المعلومات لروايتها من كتاب عن الانكليز في فلسطين. وحصل ما يشبه القلق لامكانية دمج التاريخ الفعلي بالتخييل الروائي، خصوصاً أن بطلة رواية ليندا غرانت شابة يهودية انكليزية سافرت الى فلسطين حيث سكنت وعملت مزينة للنساء والتقت شخصيات يهودية متنوعة كما أقامت علاقة حب مع يهودي ارهابي أقنعها بالتجسس لمصلحة منظمة "أرغون". ليس الانكليز الذين أقاموا في فلسطين أثناء فترة الانتداب البريطاني مشابهين لبطلة رواية ليندا غرانت، فمن بينهم "مستعربون" صادقوا سكان فلسطين العرب واستمرت صداقتهم الى ما بعد النكبة وانشاء اسرائيل. وسمعت عن انكليزي رومانسي غادر فلسطين بصحبة لاجئين عام 1948 وأقام معهم في بيروت طوال عمره، وكان ينصح ابناءهم بعدم السفر الى بريطانيا، إذ كيف لانسان، في نظره، أن يغادر الشرق المشمس الجميل الحيّ الى غرب عابس مرتب ولكن بلا روح ولا حيوية. لم يكتب عربي عن مثل هذا الانكليزي الاستثنائي، كما لم يصور معظم الروائيين العرب في أعمالهم شخصية رئيسية من المجموعة العسكرية أو المدنية التي كانت تستعمر بلادهم، وهذه الظاهرة ليست عربية فقط بقدر ما هي عالمية. والحال ان روائيي الامبراطوريات التي استعمرت بلاداً كثيرة في العالم كتبوا بدورهم روايات كثيرة عن هذه البلاد، يصح أن توصف أنها أدب للاستعمار يركز على جمالات الطبيعة وغرائبها كما على قصص حب في اطار مغامرات السفر والاكتشاف والتعرف على الآخر الغامض أو "المتوحش"، نعني السكان الأصليين. وفي الجهة الأخرى لا نجد لدى أدباء البلاد الواقعة تحت الاستعمار عناية كافية بشخص المستعمر الفرد، بل هو يحضر كظل أو كموضوع للنضال أو ككائن سلبي معتدٍ ملعون، أي أنه يحضر اجمالاً، كنمط لا كفرد. وبعيداً من الاستعمار فالرواية ذات الشخصيات المتعددة الثقافات والأعراق التي تنشط حالياً مع الجيل الثاني للمهاجرين في العالم تلقى رواجاً لدى القرّاء، وهي باعتراف النقاد متقدمة على أدب الاستعمار فنياً وانسانياً. وثمة حالياً في أوساط المثقفين، والمبدعين خصوصاً، حنين الى المدن الكوسموبوليتية التي صارت الآن مدناً وطنية، كالاسكندرية وبيروت ومرسيليا وعدن والبصرة. وتصدر كتب كثيرة وأعداد خاصة من مجلات عن هذه المدن وعيشها المتنوع الحيوي. والمؤسف أن عرباً قليلين يساهمون في الكتابة عن هذه المدن فيما الأكثرون من أدباء أوروبا. يكتبون عنا ولا نكتب عنهم، يرسموننا من معطيات خيالهم المريض أو الصحيح، ولا نبادر الى رسمهم سوى في مختصر صورة الآخر المختلف وغالباً العدو. هذه هي حال عدم التبادل، ولكن، ثمة استثناءات عربية قليلة نذكر منها أحمد فارس الشدياق الذي كتب عن المجتمع الانكليزي في أواسط القرن التاسع عشر في كتابه "الساق على الساق في ما هو الفارياق"، وعبدالرحمن منيف الذي كتب عن اميركيين في منطقة الخليج، وعلي الدوعاجي وبيرم التونسي في مذكراتهما عن مرسيليا، ومحمود أحمد السيد الذي كتب عن الهند في روايتيه "جلال خالد" و"في سبيل الزواج". وإذا كنا أغفلنا استثناءات اخرى فإن الرواية العربية، اجمالاً، لا تزال رواية "وطنية" لا تهتم بالأجنبي إلا كظل ثقيل أو كعنصر يثير البطل المحلي وينبهه الى هويته. هكذا، فيما الرواية العالمية سائرة الى التنوع مع التبادل السكاني وأمواج الهجرات وانتشار اللغة الانكليزية كوسيلة تفاهم بين البشر، لا يزال معظم روائيينا يحفرون في الذات المحلية المفترضة كأنهم يهدفون الى تأكيد الذات لا الى تقديم عمل فني. ولكن، من يحفر في الذات، أيّ ذات، ويجيد الحفر، سيجد بالضرورة عالماً متنوعاً متعدد الأعراق والثقافات والأمزجة...