في أوائل الثمانينات إبان دراستي في الولاياتالمتحدة، بادرتُ بالاتصال بألفريد ليلينثال الكاتب اليهودي صاحب الدراسة الموسوعية القيمة "الحلقة الصهيونية" التي أرّخت لنشوء إسرائيل واللوبي اليهودي الاميركي، ودفعت - مع كتاباته الأخرى المناهضة للصهيونية - حاخامية نيويورك إلى إصدار فتوى بطرده من الملة اليهودية. اقترحتُ في الاتصال على الكاتب أن يلقي محاضرة عن الصراع العربي - الإسرائيلي في جامعة بنسلفانيا بدعوة من اتحاد الطلبة المسلمين فيها، فوافق شاكراً. غير أني بمجرد عرض الأمر على الزملاء في مجلس الاتحاد فوجئت برفض مطلق من جميع الحاضرين الذين تخوفوا من أن ينطق الرجل بما يناقض قناعاتهم. وبسبب هذا الرفض ساهم الاتحاد في حجب حقائق الصراع عن الرأي العام الاميركي، واستمر هو كمنظمة مجهولاً لا نشاط له بينما كانت الجامعة تعج بنشاطات اليهود والشذاذ جنسياً. بعد عقدين من الزمان مررتُ بتجربة مشابهة عندما تلقيت في بريدي الالكتروني عريضة من "مجلس استعادة الحقوق الفلسطينية في العودة والملكية" تدعو المتعاطفين مع اللاجئين الفلسطينيين إلى التوقيع عليها تأييداً لحق كل فلسطيني في العودة واستعادة أملاكه. عندما عرضتُ فكرة تبني هذه العريضة على عدد من الأصدقاء المناهضين لعملية أوسلو، فوجئت برفضهم الفكرة، ولأسباب واهية تثير الدهشة. هذا الإفراط من جانب البعض في التخوف من أي مبادرة - تخدم القضية الفلسطينية - لا يكونون هم أو من يعرفون طرفاً فيها، والتشكيك في من لا يتفقون معهم، لا نتيجة لهما سوى شل الحركة أو تضييق مجالها، فضلاً عن الإضرار بالقضية التي يترافعون عنها. تماماً كما أدى التنفيس الأهوج عن الانفعالات في جريدة "الشعب" المصرية في ما يتعلق برواية "الوليمة"، إلى الإساءة للجريدة وقضيتها وقف تفسخ "الابداع الثقافي"، قبل إغلاقها وتشريد العاملين فيها. تدلل الأمثلة الثلاثة السابقة أولاً على أن العاطفة التي لا يحكمها عقل واع متفتح، ويعبر عنها خطاب موضوعي وسلوك منضبط، لا تكفي وحدها لنصرة القضايا بل قد تعود بالوبال على أصحابها وصدقيتهم وأحياناً بالخسارة على قضاياهم. وثانياً على التباين الشاسع في السلظوك بين معسكرين يجمعهما انتماء فكري واحد إسلامي قومي وتفرق بينهما ثقافتان متناقضتان: الوسط والشطط. لقد كان انضباط مقاومة "حزب الله" خير تجسيد لثقافة الوسط بنجاحها في لجم انفعالاتها قبل وبعد التحرير. لم تسمح المقاومة لنفسها بالانجرار وراء استفزازات إسرائيل، فكانت تصبر عليها تارة وترد بحساب تارة أخرى، ولا هي استسلمت لنزعات الثأر، وكان تواصل "حزب الله" مع قطاعات المجتمع اللبناني - وهو أهم الأسباب التي ساهمت في انتصاره على إسرائيل - صورة أخرى معبرة عن الوسطية التي تقوم على تحري نقاط الاتفاق مع الآخر حتى يكون التواصل معه أساساً لأرضية مشتركة - مهما ضاقت مساحتها - تفتح للجميع مجالا أرحب للحركة. في المقابل نرى أن القطيعة وتشتيت الجهود هما أخطر مساوىء ثقافة الشطط التي تقوم على تصيد الأخطاء ونقاط الاختلاف لتبرير التشكيك في نيات الآخر أو تكفيره أو تخوينه أو تحريض السلطة عليه لاستئصاله. في هذا الصدد نلاحظ أن الإيمان بقيمة الديموقراطية يزداد قوة كلما زاد الجنوح إلى الوسط، والعكس صحيح بغض النظر عن ماهية الانتماء الفكري إسلامي، قومي، أو علماني "مستنير". تختلف أسباب القطيعة من الخارج الجهل بالآخر ولغته وأفكاره، وما ينجم عن ذلك من خوف وشك عنها مع الداخل الازدراء بالخصم، وما يقود إليه من إهمال لفكره وخطابه. هذا الازدراء نراه مثلاً في تساؤل سمير اليوسف "أفكار" 12/6/2000 عن اخطار التطبيع مع إسرائيل، فيقول "فتشنا في كتابات المدينين للتطبيع فلم نعثر على تعريف بيّن لخطر هذا الأمر. لا أظن أن المهتاجين لأمر التطبيع يمتلكون إجابة واضحة عن هذا السؤال". ولأن الاجابة التي يستفسر عنها اليوسف متوافرة في مقالات لا تحصى حول مسألة التطبيع منشورة في كبريات الصحف العربية وعلى رأسها "الحياة" و"الأهرام" منذ العام 1997 حلف كوبنهاغن وبالذات منذ حزيران يونيو 1998 جمعية السلام، فإن المرء لا بد أن يتساءل في دهشة أين كان الكاتب منقطعاً طوال السنوات الماضية وعن ماذا كان يفتش؟ وكذلك حسن منيمنة ملحق تيارات 11/6/2000 الذي يطالبنا بتغيير خطابنا الفكري والانفتاح على إسرائيل والتخلي "عن فهم الصهيونية كمرادف للشر"، وكأني به لا يطالع سوى خطاب الصحافة الاميركية المفرط في ازدرائه، وتجاهله للخطاب العربي، ويبدو وكأنه لا يدري شيئاً عن الخلفيات التي تشكل على أساسها الخطاب الفكري العربي والتي دفعت مثلاً الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى مساواة الصهيونية بالعنصرية العام 1975. تشكل قطيعة الازدراء أحد أهم الأسس التي يستند إليها فكر نسبة غير قليلة من منظري التطبيع. فالمرء لا يستشعر اهتماماً أو غيره من جانب هؤلاء على كرامة العرب، ولا دفاعاً عن حقهم في ممارسة الديموقراطية، وإنما يراهم مشجعين للسلطة الفلسطينية على التزام الدونية بضرب المقاومة من دون ربط ذلك بوقف الاستيطان، وملتزمين بالتبعية للحكومات بحصر خيارات المثقف في إطار ضروراتها وصفقاتها "السلمية"، ومتسولين للعون من أي طرف خارجي الولاياتالمتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي و"معسكر السلام الإسرائيلي" انطلاقا من رفضهم الاعتماد على الذات واطلاق الطاقات الكامنة في الشعوب. نراهم أيضاً ممارسين الشطط في الترويج لمجموعة أوهام من قبيل: "السلام العادل" الذي هو تسوية مجحفة تستند إلى معيار القوة وليس العدل "الأراضي المحررة" التي هي في الحقيقة معتقلة بمن عليها، "الحاجز النفسي" الذي يزعمون أن على العرب تجاوزه حتى تطمئن إليهم إسرائيل فتتصدق عليهم ببعض فتاتها، بينما الحاجز النفسي الحقيقي هو الحاجز الإيماني الذي كلما نجح العرب في تجاوزه - كما في حرب رمضان والانتفاضة وجنوب لبنان - كتبت لهم العزة واهتزت أمامهم موازين القوى. بالإضافة إلى الانضباط مع الذات والتواصل مع الآخر، ترتبط الوسطية أيضاً بالأمل في المستقبل والصبر على المكاره والثبات على الحقوق، من خلال الأمل في تغيير الأمر الواقع وتعديل توازناته لمصلحتنا، صبر "حزب الله" ومن ورائه شعب لبنان على الضغوط داخلياً وخارجياً. ولا يعني انتصار المقاومة انتهاء مهمتها. كل ما في الأمر أنها انتقلت من الساحة الصغرى ضد احتلال الأرض إلى الساحة الكبرى ضد محاولات احتلال الوعي وزرع الفتن والتآمر على سلام واستقرار الداخل. بتعبير آخر، فإن مهمة المقاومة اللبنانية المقبلة هي النجاح في ما فشل فيه مجاهدو أفغانستان. * كاتب مصري.