هناك حكمة مأثورة تقول: "انك لا تستطيع التنبؤ بالمستقبل، لكن تستطيع التهيؤ له". ويبدو ان السعوديين استحسنوا المقولة الفائتة، فكأن حركتهم الدائبة في الآونة الأخيرة تشير الى تكريس هذا المفهوم وذاك السلوك الذي يحض على التهيؤ للمتسقبل. والمقال هنا ليس بصدد مدح السعودية او ذمها، كما ان الغاية منه لا تهدف الى تصيد الاخطاء او تفخيم وتضخيم الامور الايجابية فيها، بقدر ما هو قراءة محايدة، وتقويم موضوعي لما يحدث في السعودية من تحركات وتفاعلات، لم تكن معهودة في الاسلوب السعودي السياسي تحديداً، وان كانت آثارها ستغطي على المحلي داخل المملكة والخارجي العالم. يقول ديفيد لينتش: "... مما يحسب للقيادة السعودية انها ادركت قبل سنوات ضرورة تغيير الدفة، والآن فإن الاسئلة الوحيدة: هل سيتحقق التغيير في الوقت المناسب؟ وان تحقق في الوقت المناسب، فماذا سيطرأ على هذا المجتمع الاسلامي المحافظ؟". ويذهب في القول الى ان السعوديين يغامرون بامكانية السيطرة على التغيير بعد انطلاقه، وهم يدركون ان ليس لهم خيار كبير. والحقيقة ان السعوديين ادركوا تلك الحقيقة، وآمنوا ان التغيير سيحدث شاؤوا ام ابوا، وبالتالي فهم آثروا اخذ المبادرة قبل ان تفرض عليهم، وهذا ينصب في مفهوم العقلانية التي تستند إلى واقع المعطيات وظروف العصر، لا إلى الشعارات الرنانة الحماسية والخطابات العاطفية، التي لا تجدي في وقتنا الراهن، وهذا ما حدا بالأمير سلطان بن سلمان ان يقول عن التغيير القادم؟ "انني اراه كعالم جديد، عالم جديد كلياً، وهو عالم سيقوم رضينا ام ابينا". ولقد وصف احد الغربيين ان ما تفعله السعودية بجذب الاجانب واستثماراتهم يشكل انعطافاً تاريخياً. على ان البعض يعتقد ان معضلات دول العالم الثالث الداخلية، ذات اساس اجتماعي قبل ان تكون المسألة سياسية، بمعنى ان حقيقة المشكلات الداخلية ذات جذور اجتماعية تقود الى هذا القرار السياسي او ذلك. ولا شك ان القرار السياسي يحرص على استقرار المجتمع وثباته، ولذلك فهو يساير الرغبة المجتمع، الا انه في بعض الاحيان يستدعي بل يتطلب من السلطة السياسية ان تفرض وتتدخل سلوكاً معيناً قد لا يرغبه هذا المجتمع او ذاك، وهو سلوك ترى السلطة انه من ضرورات الدولة والمجتمع، على رغم معرفتها معارضة هذا السلوك من فئات معينة فاقدة للنظرة الشمولية ذات العمق. وهنا يكمن سر القيادة ونجاح الدولة التي تفعل ما تراه مناسباً للمصلحة العامة، فالمجاملات واسلوب التعتيم وتمرير المواقف من دون حسم، قد ينجح لحظياً لمدة زمنية معينة ثم لا يلبث ان ينكشف بسقوط مريع الفشل فيفضح المستور والباطن. وعندما نضرب مثلاً على نجاح القيادة السعودية وتفهمها لضرورات الدولة والمجتمع، نذكر الملك الراحل عبرالعزيز مؤسس الدولة السعودية الحديثة وقراره الحاسم بادخال الهاتف على رغم المعارضة الشديدة له، وموقفه الايجابي من الشيعة في القطيف والاحساء على رغم مطالبة بعض رجال الدين السُّنَّة بتدخله لانهاء تلك الممارسات. كان عبدالعزيز بوعيه الثاقب وحنكته السياسية يرى ما لا يرون، فالمشروع هو بناء كيان اجتماعي وسياسي كبير، وليس تلبية رغبات معينة المجاملات. كما ان ابنه الملك فيصل رحمه الله - اتخذ سلوكاً مطابقاً لما اتخذه والده، فكان فيصل حاسماً في قضية تعليم المرأة وادخال التلفزيون على رغم ما واجهه من معارضة. هنا يتضح سر القيادة، فالحزم ومعرفة ضرورات الدولة والمجتمع من دون اعتبار للمواقف اللحظية وتمريرها من اجل كسب تيار من دون آخر، او منظومة من دون اخرى، هي ما تميز زعيماً عن آخر، وبمعنى اشمل، ما يجعل تجربة تنجح عن سواها. على ان الشهور الماضية، شهدت تحولات وتطورات في السعودية، لم نألفها من قبل، حيث اعتادت السعودية على نهج معين يميل الى الهدوء وعدم الصخب، وعلى الاسلوب التدريجي في معالجة الامور، والنفس الطويل في اتخاذ القرارات المصيرية، وهو اسلوب - لا شك - نجحت فيه السعودية لكون الظروف والمعطيات آنذاك ساهمت في نجاح وبقاء مثل ذاك السلوك، الا انها - كما قلنا آنفاً - ادركت ان الزمن قد تغير، ولذا جاء اعلانها عن سلسلة من الخطوات الرامية الى اجتذاب الاستثمارات وتحديث انظمة الضرائب والكفيل، وفتح قنوات استثمارية عبر السياحة وسماحها للاجانب بالتملك العقاري، والشروع في تخصيص مؤسساتها ك"الخطوط السعودية"، و"الاتصالات" وغيرها... ويقول الامير سلطان بن سلمان "السعودية تمر الآن بفترة انتقالية، فالحكومة تنسحب بالتدريج من كونها بقرة حلوباً، وهي تمنح القطاع الخاص بصورة متزايدة دوراً في تدبير الشؤون الاقتصادية، فهناك ادراك أن الزمن تغير". وكان الملك فهد شدد في كلمته الاخيرة امام مجلس الشورى على ان السعودية ماضية للانضمام الى منظمة التجارة العالمية، ويبدو ان السعودية جاهدة لتحقيق ذلك، على رغم ان امامها شوطاً طويلاً كي تقطعه - كما يعتقد بعض الخبراء - فخلال الفترة بين 1984 و1997، لم تجتذب السعودية سوى 3،4 بلايين دولار من صافي الاستثمارات الاجنبية في حين ان سنغافورة مثلاً اجتذبت 51 بلايين دولار مع ان عدد سكانها لا يزيد عن سدس سكان المملكة. على ان الحقيقة الماثلة ان السعوديين يحاولون، ولديهم مفكرة تحدد رؤيتهم للمستقبل، وربما لو ادرك السعوديون حقيقة التغيير مبكراً لكانوا في وضع افضل. يقول غريغوري غوز: "كان في وسع السعوديين ابتداء من الفورة النفطية في السبعينات، ان ينفتحوا على العالم الخارجي بشروطهم هم. وقد كان الاقتصاد السعودي دوماً متكاملاً مع الاقتصاد العالمي بسبب صناعة النفط، وبالتالي كان بمقدور السعوديين الانتقاء والاختيار، اما التحول الجديد الآن فيتطلب الاندماج وفقاً لشروط الاقتصاد الكوني". على ان التحليل الموضوعي لطرح كهذا، يفتقد الدقة والنظرة البراغماتية، لسبب وجيه يكمن في ان المعطيات التي تواترت على هذا الكوكب في لحظات من الزمن، لم يتوافر لها من الارهاصات ما يجعل شخصاً ما قادراً على ان يتنبأ بها... وكما ألمحت تلك المقولة في بداية المقال، من اشارة الى التهيؤ للمستقبل، لا التنبؤ به. وهذا ما تقوم به السعودية الآن جاهدة على رغم الصعوبات والمحاذير. كما انه من الملاحظ، وضمن ذلك التوجه الجديد، انفتاح اعلامي في التعامل مع الاحداث والظروف الداخلية عجز الميزانية، جرائم قام بها مواطنون او اجانب وما الى ذلك من امثلة، تقودنا الى النتيجة الماثلة أن اسلوب التعتيم الذي مارسته فترة من الزمن كما مارسته دول المنطقة، قد ولى زمانه، وايقنت انه في العصر الذي نعيش فيه اصبح من المستحيل اخفاء اي حدث، ولم يعد من الممكن حجب المعلومة بعدما اصبح الوصول اليها متيسراً، ولذلك اصبحت الشفافية هي الطريقة الوحيدة لكسب الآخر، ولتفنيد الشائعات، وهذا مما يؤدي في نهاية المطاف الى تفويت الفرصة على اية جهة مستفيدة من الاصطياد في الماء العكر. وعلى رغم ان السعودية واجهت هجمة شنيعة من قبل بعض منظمات حقوق الانسان، الا ان اسلوب تعاملها اثار اعجاب الكثيرين، فقد رحبت بزيارة المفوض لحقوق الانسان لهيئة الأممالمتحدة، حتى انها رحبت بزيارة "امنستي" لجنة العفو الدولية على لسان وزير الخارجية السعودي الذي اشترط الجدية في الرغبة، وهذا سلوك جد مختلف لم تعرفه "امنستي" من قبل، كما ان السعودية بصدد انشاء منظمتين واحدة حكومية واخرى مستقلة لحماية حقوق الانسان في السعودية، وهذا ما يدل الى تفاعل السعودية مع عالمها الخارجي بصورة مدروسة وبتوجه بعيد النظر، لا يعتمد على الرغبة في الظهور، ولا الانفعالية الآنية الاحداث، المجاملات.... يقول الملك فهد: "ليس لدينا ما نخجل منه او نخفيه وان ابوابنا مفتوحة، وقلوبنا نظيفة ومناهجنا راسخة، وان قضاءنا منصف اولاً واخيراً لا يتغير". والسعودية، وهي في حركتها الدائبة هذه المليئة بورش العمل، تعلم ان امامها تحديات جسيمة سواء من الداخل او الخارج، وقد اعترفت السعودية ان ابرز التحديات التي تواجهها يتمثل في نقل التقنية، واعلنت عن استضافتها لمؤتمر عالمي يعالج هذه القضية، غير انه في اعتقادي، ان التحدي الابرز يتمثل في تفعيل دور المرأة التي لا تزيد نسبة مشاركتها في قوة العمل بنسبة تتجاوز 6 في المئة من القوى العاملة على رغم انها تمثل نصف المجتمع عدداً، ومحاولة تنمية الاقتناع بزيادة مشاركة المرأة في عمليات التنمية باعتبارها مورداً من الموارد البشرية، واتاحة الفرصة امامها للاشتراك في المواقع القيادية الادارية، وفي عملية اتخاذ القرارات الخاصة بها على اقل تقدير. وقد يبدو المجتمع السعودي بطيء الحركة - على حد تعبير البعض - حين يأتي الامر على القضايا الاجتماعية والثقافية، ولا بد من قبول ذلك باعتباره مسألة تراث واسلوباً في آن واحد، غير ان المسألة الفعلية المطروحة حقاً هي ان كان بمقدور المجتمع السعودي ان يصلح نفسه ام لا حيثما واينما وجب ذلك بحكم الضرورة. ويعتقد الكاتب، ان تجربة العقود القليلة الماضية تبين ان بمقدور المجتمع السعودي ان ينجز ذلك في غالب الاحوال. ومن الامور المهمة التي اعلنتها السعودية اخيراً، تشكيل مجلس للعائلة المالكة، وهذا في حد ذاته تدعيم مؤسسي للوضع السياسي، فالاسرة السعودية المالكة ليست مجرد اسرة اجتماعية، شاء لها القدر ان تتولى مقاليد الامور في شبه الجزيرة العربية، بل هي - كما يرى المحللون - مؤسسة سياسية، بل اقوى المؤسسات السياسية السعودية المرجعية. وبتشكيل مجلس للعائلة، لوحظ اختياره بعناية فائقة، وبمجرد اعلانه كمجلس وكأعضاء فإنه يعطي الثقة بتدعيم الوحدة الوطنية والقضاء على ما يمكن ان تحمله الايام من احداث، وذلك بالحوار الايجابي داخل البيت. وفي هذا تأسيس سياسي جديد يعطي الثقة والامان في الداخل والخارج. ما تقوم به السعودية الآن يثير الاعجاب والتأمل في آن واحد... وتحسب للسعودية محاولتها، وفي المحاولة - كما يقال - يكمن سر الحركة. * كاتب سعودي.