يستشهد الانتروبولوجي اشلي مونتاغيو بمقولة غوته في "فاوست": "عندما تعوزنا الفكرة نستعيض عنها دائماً بكلمة تحل محلها". ويضيف مونتاغيو: "ولا يصح هذا القول عندما تشح الأفكار فقط، بل يصح أكثر عندما ترتبك وتُربك، إذ تصبح الكلمة عندئذ كالعصا المتينة، نتكئ عليها تعويضاً عن عدم الامان الذي قد يجلبه اتكاؤنا على أفكار فارغة كالقصب الهش الذي يستحيل الاستناد عليه...". وعلى ضوء هاتين الملاحظتين يكون بوسع المرء أن يرى دلالات معينة في هذه المجانية الشائعة عندنا في امتهان اللغة أو استعمالها كمادة تعويضية، وتحويلها إلى رطانة واستخدامها في التضليل في الخطاب السياسي مثلاً أو في سياق توهم قول الشعر، وكذلك في شيوع اللاجدية والمجاملات في تقييم الأدب عموماً أو ما يُتوهم أنه أدب! وكل هذا هو، في خلفياته، من نتائج نسق التخلف، وهو نوع من عصاب بلدي لاطفاء اللغة ذاتها، وتفتيت الوعي وتفريغه من أي معنى أو جدوى، وذلك بسبب الخوف، الخوف من اللغة والخوف من الحقيقة! إن للنسق الاجتماعي السائد في بلداننا العربية، تأثيراً حاسماً على شيوع مثل هذه الظواهر. فإذا انتبهنا للتفاصيل، وجدنا أن هبوط مستوى المعيشة إلى جانب الحرمان يجعل المواطن أمام مشكلة أخرى، وهي ماذا يفعل بكل هذا الوقت الكثير الفائض في ظل البطالة والبطالة المُقنعة، حيث لا عمل مجدياً ولا تسلية حقيقية! لكن في المجتمعات الديموقراطية، يندر وجود مثل هذه الظواهر، يندر وجود اناس لديهم وقت فائض من النوع الذي يسمح لهم بكتابة أشياء بائسة لنشرها لاحقاً بصفتها شعراً. بينما يخلق تفشي البطالة وهبوط مستوى المعيشة عندنا، مع غياب نظام الضمان الاجتماعي والحريات العامة، مزيدا من المشاكل الاجتماعية والنفسية، كالقلق والتوتر النفسي والشعور بالإحباط كما هو معروف. وبسبب كل ذلك وغيره تبرز أزمة تأكيد الذات، وهي حاجة إنسانية أساسية تظهر بشكل خاص عند الأشخاص الحساسين وأولئك الذين يتمتعون بدرجات معينة من الذكاء. وجراء معاناة سايكولوجية ومعنوية كهذه، وضمن سياق السبب والنتيجة تزداد الرغبة في التعبير أو تأكيد الذات عبر الكتابة الأدبية عموماً، حيث يزداد اللجوء إلى الخيال كلما شح الواقع واضطرب، لا سيما مع غياب حرية التفكير والتعبير عن القضايا الحساسة والأساسية في حياة الناس، الأمر الذي أضعف وتيرة الانتاج الفكري الجاد، لكن ظروفاً كالتي نعيشها لم تسمح بعد بظهور قيم وتقاليد ثقافية تجعلنا نميز الضروري من الزائف. لذلك اختلط لدينا الحابل بالنابل، فأصبحت رغبة تأكيد الذات عبر الكتابة الأدبية مشاعة بعيداً عن الموهبة والكفاءة! وليس أدل على ذلك من ظهور عشرات الأسماء في كل جيل أدبي، لكن سرعان ما تختفي وتنساها الأجيال اللاحقة لتظهر اسماء جديدة تؤدي الدور البائس نفسه وهلمجرا! ومقابل غياب التقاليد والقيم النقدية والمعرفية، سيظهر الكثير من المفارقات في ما يتعلق بوعينا للأدب وحيثياته، وبالمفاهيم السائدة التي تسهّل على البعض مسألة أن يصبح أدبياً بسعبة أيام ومن دون معلم أحياناً! وما أكثر هذه النماذج، بل ما أكثر أبواب الوهم التي تؤدي الى مثل هذه الحالات. فهناك على سبيل المثال مقولة ما يزال يرددها الكثيرون: "احفظ ألف بيت من الشعر تصبح شاعراً"، وهي من المقولات التراثية المتداولة، لكن لو تأملناها بشيء من الدقة لوجدنا أنها تنطوي على الخطأ والصواب معاً، فحين يمتلك الشخص المعني موهبة حقيقية، فهو يحتاج، كثقافة أن يحفظ ويطّلع على المزيد من الأدب، بالإضافة إلى أمور كثيرة تصب في الغرض نفسه. لكن هل تصح هذه المقولة على كل من له قدرة على حفظ ألف بيت من الشعر؟! إنها في هذه الحالة تغري، بل تورط الكثيرين بأوهام الأدب. فحفظ المزيد من القصائد يخلق لديهم قدرة لا على ابتكار نصوص جديدة طبعاً، بل على إعادة انتاج ما يقرأون بأشكال معينة، وهكذا تزداد باستمرار أعداد المتورطين في أوهام الكتابة ومطباتها، وتتناسب هذه الظواهر طردياً مع استمرار تردي الأوضاع في حياتنا العربية. فهؤلاء في الغالب، وبعضهم أصبح يجيد الصنعة، هم "الاحتياطي الثقافي" للسياسي الفاقد الكفاءة الذي يجدهم دائماً مهيئين لتقديم مواهبهم الخدمية عند الحاجة وحسب الطلب.