إن المقاربات النسقية للفكر والفلسفة والأدب والنقد هي امتداد للتأثير الشكلاني للبنيوية وما بعد البنيوية، وقد تطورت النظرة إلى الأدب بناء على جعل الأدب يمثل نسقاً اجتماعياً بين عدة أنساق اجتماعية أخرى، ولأن النسق الواحد لا يمكن من الإحاطة بالظاهرة الأدبية تولد مفهوم تعدد الأنساق الذي يهتم بالعلاقات بين الأنساق والوظائف المبنية على تلك العلاقات بناء على أن النسق الأدبي كما يقول إيتمار إيفن زوهار يمثل: «شبكة من العلاقات التي تحصل بين النصوص بما في ذلك النصوص الممكنة أي النماذج يتم بموجبها الاعتقاد بأنها (تنتمي إلى) و(تكون) في نفس الوقت كلاً واحداً يسمى عادة أدب». ولأن مقولة النسق هي مقولة بينوية تزامنية لاتهتم في أساسها بالتأريخي فقد تم إدخال التحولات المتعاقبة على النص للنظر إليها كنسق تعاقبي، لنصل إلى عدم التجانس بالنظر إلى النسق لا كتزامن ساكن، ولكن كتعدد أزمنة دينامية، وتعدد هذه الأزمنة الدينامية وتداخلها ينبني على مراعاة الأنساق المعرفية المختلفة مما يسمح بإدخال الظواهر الهامشية أو ما كان منها على مبعدة من اهتمامات الباحث، ويؤيد الناقد المغربي أحمد بوحسن ما يذهب إليه الناقد الفرنسي إيتمار إيفن زوهار من أن مفهوم تعدد الأنساق يكشف عن التوتر القائم بين المستوى الثقافي الرسمي وغير الرسمي بحيث يمكن أن ينظر إليه على أنه يمثل تعارضاً بين الأدب المشرع / المقنن والأدب غير المشروع / المقنن، ويترتب على ذلك الاهتمام بمفاهيم من قبيل الأدب الأولي والثانوي، والمركزي والهامشي، والأساسي وغير الأساسي. تم بسط هذه المقدمة للنظر في الأوضاع النسقية بين المركزي والهامشي للأدب في المملكة العربية السعودية، إن الناظر في المشهد الفعلي للنسق الثقافي وليس المفترض يرى أن الأدب الشعبي يمثل في حقيقة الأمر النسق المركزي بشقيه الشعر الشعبي وحكاية الرواية الشعبية ونجد أن هذا الأدب بدأ يولد تجديدات نسقه الخاص، وبدأ أكثر قوة من السابق، فالناس في مجالسهم لا يستمعون بحكم الثقافة الشفاهية إلا إليه، وقد تفاعل مع وسائل الإعلام الحديثة بدءاً من الرسالة النصية، إلى «البلوتوثات»، ومقاطع الفيديو، وخصصت له البرامج الجماهيرية، واقترن بالأغنية العربية، والآن أصبحت له القنوات الفضائية الخاصة، بل تتنافس بعض القنوات الدينية في استقطاب رموز الشعر الشعبي والحكاية الشعبية، ولا شك أنه تطور في الألفاظ والأساليب والموضوعات عن العصور السابقة، ولكن بحكم طبيعته الشفاهية تحكمت فيه القوالب الصياغية التي اكتشفها جيمس مونرو في الشعر الجاهلي بناء على نظرية باري ولورد في شعر هوميرس، ولا شك أن الحكاية الشعبية تسير وفقاً لقوالب حكائية تقليدية كذلك... وهنا نشير إلى أن الأدب الفصيح بقسميه الكبيرين الشعر والرواية يتخذ في حقيقة الأمر وضع الأدب الهامشي، وهو أدب مجتلب من بيئات أخرى يمثل فيها أنساقاً مركزية، ولأجل ذلك فإن الشعر العربي الفصيح وهذا من المفارقات يبعث على السخرية في بلد يمثل منبع اللغة العربية الفصحى، بل يبعث على ازدراء صاحبه، أما الرواية فمهتمة بأنها وسيلة لإشاعة الفحشاء والمنكر لاغير، ما أثر هذا الوضع النسقي القوي في الذهنية وفي المخيال الجمعي للمتلقي بصفة الإنسان كائن أدبي بامتياز أي في المستطاع تعريف الإنسان بأنه الكائن الوحيد الذي ينتج الأدب أو يستقبل الأدب؟ وكيف تكون هذا الوضع، ولماذا استمر بقوة حتى الآن؟ وهل من حل يعيد الطاولة على أقدامها؟ أما أثر هذا الوضع النسقي، فيمكن مطالعة كتاب الدكتور مرزوق بن تنباك حول الفصحى والفكر العامي، وقد ألفه قبل أكثر من 30 سنة، وللأسف فإن الأدب الشعبي ازدادت قوته أضعاف المرات. إن الأدب الشعبي يرسخ ذهنية الفكر المرتبط بالقبيلة، بموجبها وسالبها، هو يدعو إلى سطحية الفكر، والنظر بمنظار قبلي للأمور فما خالف أعراف القبيلة أو قيمها فهو عدو لها وما وافق أعراف القبيلة أو قيمها فهو جزء منها. ولأجل ذلك تشيع فيه المبالغة كطريقة بدائية شفاهية لتصوير الأمور أو للتعامل معها، ويشيع فيه الفخر الكاذب، والعصبية القبلية التي تمثل نوعاً من أنواع العنصرية، في مقابل بعض القيم الموجبة كالكرم والشجاعة والعفة، ولكن أثر القيم السلبية هو الأظهر والأطغى، فضلاً عن ذلك فإنه يقف سداً منيعاً في وجه أي علاقة مع أي فكر آخر لأن القبيلة لا تعترف بالآخر إلا كمجال حيوي تتعامل معه بحذر في التبادل النفعي لا الفكري ولا القيمي. وهنا ترى القبيلة في الجاهلية قبل 1400 سنة هي القبيلة الآن وكأن الزمان قد توقف إلا في اللغة وبعض المتعلقات المادية. وهذه هي جناية الأدب الشعبي الكبرى، ولا ريب أن هنالك بعض القوى الدينية والسياسية والاجتماعية قد شجعت مثل هذا الأدب لأنه يتلاقى ومصالحها، ولكن تمنسق هذا الوضع بين المركزي والهامشي في الأدب العربي، واستمراره بقوة ليس فقط لتشجيع تلك القوى، وإنما لأنه هو بالفعل امتداد للنسق الرسمي منذ الجاهلية حتى الآن إذا نظرنا للنسق بصفته نسقاً شفاهياً لا نسقياً كتابياً، وهذا هو الصواب، أما الأدب الفصيح فهو أدب هامشي، والنقد الذي يقوم عليه هو نقد هامشي، بل حتى الفكر المكتوب الذي تطور بتطور النظرية اللسانية وما بعد النظريات اللسانية، وكل ما كتبه فلاسفة العالم، وكل التأريخ الحضاري للعالم لا قيمة له هو هامشي جداً عند البدوي أو من يتماهى دون وعي أو بوعي مع المخيال الجمعي للأدب الشعبي، ولا غرابة حينئذ في أن يسخر ذلك الأدب الشعبي أحدث وسائل الاتصال من إنترنت وقتوات فضائية لتكون ميداناً قوياً واسعاً لبقائه واستمراره، بينما ينزوي الأدب الفصيح بروائعه وروائع الأدب العالمي في زواية قصية على استيحاء عرضة للنبز وللإهمال، إذ يكفي أن تنظم أمسية للأدب الشعبي بكل ما يحمله من سطحية فنية أو فكرية لترى الازدحام حتى من كبار مثقفي الفصحى، ولكن حينما تنظم أمسية فصيحة لا يحضرها إلا قلة تعد على الأصابع. إنه جبروت النسق الذي لا يمكن الانعتاق منه إلا بتبني النسق الكتابي كنسق اجتماعي للتفكير وللأدب، وللأسف ليس هنالك ما يدل على هذا التبني لا في المدارس الأولية التي تدرس نصوصاً ضعيفة يركز فيها على المحتوى الإيديولوجي، ولا على مستوى الجامعات التي تجد نفسها كمدارس كبيرة لا مناخ فيها للفكر ولا للإبداع ولا للبحث العلمي الصحيح ولأجل كل ذلك فإن تجربة جمعية الثقافة والفنون في الطائف بتأسيس المقهى الشعبي الذي يتم فيه المزج بين الأدب الفصيح والأدب الشعبي، والسينما، والرواية، والأغنية هي تجربة ثرية ومفيدة في كسر هيمنة نسق الأدب الشعبي والولوج إلى منطقة انتقالية للأدب الفصيح الذي يمثل مركزية الأدب العربي الصحيحة المتطورة، المتصلة بالعالم، وبالحضارة وبالكتابة وبالذات البشرية. ناقد وأكاديمي سعودي.