1 انشغلت قراءاتُ "الكوميديا الإلهية" بتأويل هذا العمل الشعري الاستثنائي. منذ البدء كان الملغِزُ في هذا العمل قوياً، هناك شيء ما يلمعُ، يختفي، في الكلمات. الحجيمُ. المطهرُ. الفردوسُ. ثلاثة أعمال في عمل واحد، كلُّها تجمع بين رصد واقعي وبين مرجعيات وأفكار وصور. بهذا لم تكن "الكوميديا الإلهية" تشبه الأناشيد التي سار عليها الشعراء في زمن دانتي، أو في الفترات القريبة من زمنه. بناء العمل. حجمه. الجلال الذي يحيط باللغة والصياغة تشير الى أن الفكرة الشعرية الجديدة تخرج الى المُحال، ما لم تتعود عليه الذائقة الشعرية وما لم يكن يخطر على بال القارئ لذلك العهد. وعندما صنّف بورخيس "الكوميديا الإلهية" ضمن الأعمال الكبرى للقرون الوسطى، كان يلحّ في الوقت ذاته على الخصيصة المشتركة بين هذه الأعمال الدينية أو الأدبية، ويقصد بالمشترك القراءة المتعددة للعمل الواحد. الكتب الدينية، مثلاً، هي ملتقى القراءات ومفترقها. القراءة المتعددة أبرزت فاعلية التأويل، من جماعة الى جماعة، ومن مُفسّر الى مُفسّر. ولنا في القرآن نموذج رفيع لتعدد القراءات، لعل أهمها القراءة الفقهية من ناحية والصوفية من ناحية ثانية. والتعدد ذاته للقراءة لم يكن متداولاً فقط، بل كان واقعاً محايثاً للكتاب - الكُتب، حتى لم يعد هناك من شك في حجة كل قراءة وانفصالها عن سواها، معرفة وعقيدة. ذلك هو شأن "الكوميديا الإلهية"، ومن بين القراءات التي أثارت الانتباه، قراءة راودي إيمباخ الذي تصوّر "الكوميديا الإلهية" عملاً فلسفياً ينتمي الى فلسفة الأخلاق. إن دانتي، بحسب إيمباخ، كان ينظر الى عمله الشعري من حيث هو فلسفة أخلاقية، تتجسد في طريقة توزيع العقاب والجزاء. بهذا المعنى يصبح تقسيم العمل الى ثلاثة أجزاء، متجاوباً على نحو مباشر مع نظرة أخلاقية تستقي أصولها من الخطاب الديني: الجحيم، المطهر، الفردوس، ليست مجرد أمكنة اخترعها الخيال الدين، ولكنها فضاءات تختلف في ما بينها بحسب منطوق الحكم الأخلاقي. فالجحيم فضاء العقاب، والمطهر فضاء العفو، والفردوس فضاء الجزاء، والفضاءات الثلاثة تتحقق دلالتها في اختيار الشخوص والمواقع المحددة لكل واحد منها. وللموقع صلة بالحكم الأخلاقي، حتى لكأننا يمكن أن نصل بين تصميم "الكوميديا الإلهية" والقيم الأخلاقية. 2 تأويل إيمباخ أحد التأويل، وهو فوق ذلك تأويل فلسفي، علينا أن نفصل بين تعدد القراءة والقبول بها وبين الموقف من التأويل الفلسفي. انها كلمة الشعرية النقدية، التي تعيد النظر في قيم القراءة السائدة للشعر. لنقل إننا، هنا، أمام مسألة نظرية، قبل كل شيء، تتمثل في الجواب عن السؤال الأساسي: كيف نقرأ الشعر؟ وهو السؤال نفسه الذي يطرح مسألة التعريف الإبيستمولوجي والأنطولوجي للشعر في آن. طرح السؤال على تأويل فلسفي للشعر، ومنه تأويل إيمباخ، لا ينحصر في "الكوميديا الإلهية" بمفردها، كعمل مُلغز، في كل شعر، قصيدة، شيء من الإلغاز، من التعمية. ذلك هو قانون القصيدة بلا ريب، تجاهل هذا المبدأ هو تجاهل للخصيصة الشعرية. فالتأويل الفلسفي للشعر يُلغي الشعر، ما دام يتملّكه، مصرّاً على حذف الفرق بين التصور والقصيدة، ليست القصيدة تصوراً، ولا القصيدة كلمات معزولة، إنه المُنطلق النظري البدئي الذي هو منطقة الصراع على حدود الشعر، وبالتالي على الفعل الشعري. في الحدود بين التصور والقصيدة نُنصت الى ما لم نتعود على الإنصات اليه في القصيدة، وهو ما يستبدّ بنا ونحن نقرأ "الكوميديا الإلهية"، لا كعمل قريب أو بعيد من الأعمال الكبرى للقرون الوسطى، ولا كعمل يصدر منتجه عن رؤية مخصوصة للإنسان والكون، بل من حيث هو عمل شعري، شعري أساساً، لا توهُّم بعد ذلك في مقاربة العمل الشعري وفي تأويله. موقفان متعارضان، وفي اللغو نضيع الحدود، لغو الفقهاء، الأسلوبيين، الفلاسفة، جميعهم يضعون الملغز في القصيدة جانباً لكي يواصلوا كلامهم عن التعريفات السابقة على الشعري، ما قبل القصيدة. 3 وللشعر مصير مختلف تماماً. إن التفكير في عمل دانتي يجعل من الممكن قراءة الرحلة في العالم الاخروي كاستعارة، يبنيها الخطاب الشعري ذاته، من دون أي واسطة فلسفية. مثلاً، ممكن القراءة هنا هو ما يفتح القراءة على اللانهائي فيها بعد أن أخضعها التأويل الفلسفي الى قانون التماهي مع ما هو سابق على العمل الشعري، التصوّر الفلسفي أو التصوّر الديني، وينعدم الفرق بهذا الشأن. لا شيء في العمل الشعري، خصوصاً ما يمنع عني قراءة "الكوميديا الإلهية" كاستعارة. فهي عمل مكتوب بلغة تخترقها ذات كاتبة في أقصى حالات الكثافة. من هنا تأتي استثنائيتها، الايقاع في "الكوميديا الإلهية" بارز بقوة، وحتى القراءة النبرية لاحظت أن موسيقى الأبيات عمل على غرار شعر شكسبير تتبع الانفعالات، فالتنغيم والتمييز الصوتي واضحان، الى الدرجة التي يصبح فيها من اللازم قراءة هذا العمل، في لغته الأصلية بصوت مرتفع. مظهر من مظاهر الايقاع، تصبح فيه الصورة الشعرية مولدة للحالة بقدر ما هو مولّد للمعنى. ما يثيرنا في "الكوميديا الإلهية" هو أن الايقاع مُولّد لصورة تعيد خلق الروح المتوسطية، أعني روح الحب والجمال. من ثم فإن صور الجحيم والمطهر والفردوس تمثل مقامات بمصطلح المتصوفة العرب، هي أمكنة نتعرف عليها من خلال الصور المتعارضة لكل فضاء من الفضاءات الثلاثة. وهي تحضر في "الكوميديا الإلهية" بما لا نعرفه عنها في الكتب السماوية عن تصميم الآخرة، فالجحيم، فيها، ليس بالضرورة الباب الذي يتوجب عبوره لنقطع عالم الجحيم والمطهر قبل الوصول الى الفردوس. تصميم الآخرة في "الكوميديا الإلهية" هو، إذاً، من طبيعة بنية ذات العناصر المتفاعلة. فلا يمكن بلوغ الفردوس من دون اختراق كل من الجحيم والمطهر، كما لا يمكن بلوغ السعادة الأبدية من غير معاينة طبقات التعذيب والغفران، بهذا تصبح مطابقتها مع المقامات، في عُرف المتصوف، ممكنة. ولا أقصد هنا القول إن "الكوميديا الإلهية" كتابة تجربة صوفية أو وصفٌ لها، على رغم ان قراءة أخرى تستطيع الوصول الى بناء مثل هذا التأويل. 4 هذه المقامات هي المنازل الرمزية التي يتمّ فيها المُقام والعُبور بحثاً عن القصيدة. وبياتريتشي، العشيقة، هي القصيدة، هذا ما يدفعني اليه تأويل يعتمد الشعري. ان الأمكنة مقامات تراتبية نعثر في نهايتها على القصيدة، في صورة بياتريتشي. ولأجل ذلك تتشبث القراءة، هنا، بفطريتها، أي بما هو متعارض مع التصور السابق على الشعري، على القصيدة. يكتب دانتي في الأنشودة الخامسة والعشرين من "الفردوس": "إذا حدث أبداً للقصيدة المباركة، التي مدت لها يداً كل من الأرض والسماء، حتى أنحفت جسمي خلال سنوات طوال إذا حدث أبداً أن ظفرت بالوحوش التي حالت بيني وبين حظيرتي الجميلة حيث نمت مع الحمل عدواً لما هاجمها من ذئاب فسوف أعود اليها بعد شاعراً، بجزّة أخرى وبصوت مغاير وسوف أنال عند حوض معمداني إكليل الغار". ويتضح هذا النزوع نحو القصيدة، كغاية قصوى لكتابة هذا العمل الكبير، في الأنشودة السادسة والعشرين من "الفردوس" دائماً، عندما يكتب دانتي: "هكذا أطارت بياتريتشي من عيني كل قذى، بأشعة عينيها التي أضاءت لأبعد من ألف ميل وبذلك رأيت من بعدُ أفضل من ذي قبل، واستفسرت، كمن أخذه العجب، عن نور ساطع رأيته الى جانبنا". وعلى هذا النحو تستمرّ الأنشودة الثامنة والعشرون، فانعكاس النور الإلهي يظهر في عيني بياتريتشي. وبمجرد ما ينظر دانتي الى الوراء، يرى نقطة بنورها الساطع. 5 هي صور متعاقبة ومتنامية في آن، تذهب بالقراءة التأويلية الى ترجيح أن "الكوميديا الإلهية" استعارة، تعبيراً عن ولادة الذات الرؤيوية وتسمية لزمن جديد، هي قراءة تتجرأ عندما تنصت الى الشعري ناسية ما يُبعدها عن ممكن القراءة. وفي الشخصيّ، يبدأ العمل، ليبدأ.