كان عقد التسعينات بالنسبة إلى الأدب الروسي مرحلة بالغة الصعوبة وبعيدة عن أن تكون الأفضل. فالتحولات الاجتماعية التي عاشتها البلاد إلغاء ايديولوجيا الدولة، التخلي عن الرقابة، إشاعة الليبرالية في العادات والأعراف إجمالاً... وضعت الأدباء أمام حال غير مألوفة إطلاقاً. فمن جهة، اعتاد الكاتب على تلبية طلب اجتماعي معين، أو - في الأقل - لم يكن يبتعد كثيراً عن حدود المسموح به. ومن جهة أخرى، فالكاتب الذي لم يكن مهتماً كثيراً بالسوق كان عليه دائماً أن يخفي السر عميقاً في مؤلفاته ليعثر عليه القارئ بين السطور فتمنحه القراءة فرصة لكونه استطاع مرة أخرى أن يبصق ببساطة على نظام الدولة الآخذ بفقدان الاحترام شيئاً فشيئاً، أكثر مما تمنحه متعة جمالية. أما الآن ففي الإمكان الكشف عن جميع الأسرار علناً. لقد كان الإغواء عظيماً جداً فانهال على الأدب كل ما كان ممنوعاً من قبل ليشكل سيلاً عارماً قوامه الفضح السياسي بما في ذلك المغالاة في السخرية من شخصيات سياسية مهمة والتهتك والفيزيولوجيا السافرة والإمعان في وصف جميع أنواع السفاسف الأخلاقية والجسدية. وشد ما تزعزعت مواقع الأدب الواقعي في هذه الأثناء. فالواقعية الروسية التي تمخضت حقاً عن أدب عظيم في القرن التاسع عشر اعتدات بشكل أو بآخر على التعامل مع أفكار، في حين لم يكن قد تسنى بعد للأفكار الجديدة أن تتبلور كما ينبغي، إذ كان لا بد من زمن لاستيعاب ما يدور. فكثير من مشاهير أدباء العهد السوفياتي لاذوا بالصمت أو راحوا يكتبون مؤلفات لم تستطع أن تحظى باهتمام كبير. وتبين أن الفضخ السياسي والاجتماعي الذي لاقى في البداية رواجاً كبيراً كان مطلباً على قدر من الضآلة أعجزته عن الارتقاء بالعمل الأدبي الى المقام المطلوب. كانت تلك المؤلفات تخلو من شيء جوهري هو استيعاب الحياة على نحو فلسفي، فلا يبقى لها إلا أن تلعب دور أهجوة سياسية تعيش يوماً واحداً، ولكنها لا تصلح للقراءة الجدية. فجأة ازدهر النثر النسائي على أيدي لودميلا بيترو شيفسكايا وتاتيانا تولستايا ومارينا بالي ولودميلا أوليتسكايا اللواتي كشفن عن نظرة الى العالم جديدة، بل وكثيراً ما كانت تهكمية وشديدة القسوة. بتركيز النظر على التفاصيل والتلاعب الماهر بالجزئيات رسمت هذه الأديبات صورة بعيدة عن السعادة لحياة المرأة في المدينة بكل ما تتميز به من مشكلات عصية على الحل تتصدرها مشكلة الرجل بوصفه مجرد نقطة في الكون وعبئاً إضافياً، وليس على الإطلاق سنداً أو طرفاً رائداً كما درجت النظرة التقليدية على تصويره. فالنثر النسائي، في جزئه الأفضل تجاوز حدود "وصف الحياة اليومية" ليلامس أكثر القضايا جدية. يتمثل ذلك في قصة تولستايا "الليل"، وقصة مارينا بالي "نهار وَبَرِ الحور" حيث تكون ممرضة فتية شاهدة على أولى مفارقات الموت فتدرك أن الحياة بكل قذارتها تظل أروع بما لا يقاس من الموت "النظيف" الذي لا يفضي إلا إلى الفراغ والعدم. وتعتبر رواية بيترو شيفسكايا "الوقت ليل" أهم رواية في هذا المجال تلقي الضوء على تشويه وظيفة المرأة وتصديع الأسرة. فالفقر الذي تصوره الكاتبة بدا لكثيرين يوم صدور الرواية 1992 مبالغة في السوداوية فاتهموها بالسعي لإبراز الجوانب المظلمة في الحياة، انطلاقاً من أن العلاقات بين أبطالها كانت خالية من الأمل وعصية على الحل. ولكن إذا كان لتصوير "إظلام" الواقع عند بيترو شيفسكايا طابع وظيفي لأن مهامها الإبداعية أوسع من ذلك بكثير فإن كثيرين توقفوا عند هذا التصوير فصبوا اهتمامهم على ما في الرواية من انحرافات وشذوذ، ولا سيما في مجال الجنس. على أن هذه المواضيع تلاقي تطويراً لها على أيدي أدباء ما بعد الحداثة الذين يهدفون قبل كل شيء الى تدمير أشكال الوعي المكرورة وترسيخ النظرة النسبية الى الواقع. بهذا المعنى يحتل مكانة بالغة الدلالة إبداع فلاديمير سوروكِن الذي يبني جميع نصوصه بطريقة واحدة هي أن يحاكي في البداية ولمدة طويلة أسلوب أدباء معينين ومبادئهم البناءة انطلق من أرض الأدب السوفياتي وانتقل الى الأدب الروسي الكلاسيكي، ثم يقوم بانعطاف حاد الى السرد على الطريقة العبثية محاولاً بذلك الإساءة الى الأصل. إن الإفراط بأحط أنواع تفاصيل القتل والشذوذ الجنسي وأكل البراز... إنما يزيد من الإحساس بالفوضى والعدم. على أن المستوى الفني لهذه النصوص ليس رفيعاً. وقد ظهرت أعمال أدبية كثيرة تقوم على اللعب واستخدام السخرية التهكمية ونفض ثروات الثقافة العالمية ليبني منها المؤلف ما يشبه الفسيفساء أو الكلمات المتقاطعة. أبرز هؤلاء فيكتر بيليفن صاحب المؤلفات المسلية والمضحكة أحياناً، الشديدة السطحية والمخصصة للقراءة "الخفيفة" على الأرجح. وفي الوسط بين سوروكِن وبيليفِن كتاب أمثال بيتسوخ وصلابوفسكي وبوبوف يستخدمون عنصر اللعب ولا يفوّتون على أنفسهم فرصة التعامل مع "القذارة" أيضاً. ويحاول يوري ماليتسكي الجمع بين مبادئ ما بعد الحداثة والمهام الإبداعية الواقعية. فقصته الطويلة "أُحربُ" التسمية منحوتة من فعلي "أُحبُّ" و"أضربُ" بمعنى التعذيب مكرسة لتقصيات الفرد الداخلية المضنية. لقد أضاع البطل انسجامه الروحي وراح يطرح على نفسه أسئلة مستعصية ومؤلمة حول الحياة والحب والحقيقة، ولكنه بتلك الأسئلة لا يكتفي بتعذيب نفسه، بل يعذب بها أيضاً زوجته كأقرب إنسان إليه فلا يعود لها من يحميها منه. إن نص القصة المبني على شكل جمع بين حوار البطل ومناجاته الداخلية يتعقد للغاية نتيجة إثقاله بالاستشهادات والتوازيات، لكن ذلك هنا ليس مجرد طريقة بل هو محاولة للنظر في وعي الإنسان المعاصر وطريقة تفكيره. انتشرت كتابة "المذكرات" فحاز جائزة "انتيبوكر" كتاب "ثقْب الجمجمة" لمؤلفه سيرغي غندليفسكي الشاعر الذي اقتحم عالم النثر فجأة، فرسم بطريقة جارحة وممتعة عالم أصحابه الأدباء، وطرح في الوقت نفسه سؤالاً جدياً حول الحياة والموت، وكان نصه كله نوعاً من الاسترجاع عشية عملية جراحية جدية يتعين على المرء قبل الإقدام عليها أن يوضح لنفسه لماذا وكيف عاش. ومن الغريب ألا نجد في أدب التسعينات انعكاساً مناسباً للحرب الأفغانية. فأدباء الجيل القديم، أمثال غيورغي فلايمف فاز بجائزة بوكر عن روايته "الجنرال وجيشه" وفيكتر استافيف كاتب رواية "ملعونون ومقتولون"، يتابعون التعامل مع أجواء الحرب العالمية الثانية، إلا أن الأدباء اهتموا بالحرب الشيشانية وبالمشكلات المتأتية من انهيار الاتحاد السوفياتي وبالنزاعات الحربية الإقليمية في الجمهوريات السوفياتية سابقاً. لقد فاز فلاديمير ماكانِن بجائزة بوكر عن روايته "طاولة بمخمل أخضر يتوسطها إبريق"، حيث حاول القيام بتحليل نفسي لنماذج من سلوك الإنسان في النظام الشمولي، غير أن الشهرة الأوسع كانت من نصيب قصته "الأسير القوقازي" التي تعرض مشكلة الإنسان في حرب "لا تخصه". ثمة جندي روسي يبدي ميلاً شبه جنسي تجاه الفتى القوقازي الأسير الذي يضطر الى قتله في النهاية. إن العلاقات بين الاثنين تتراوح بين حدود الكره والحب تتيح لنا أن نناقش المسألة من منظور أوسع، أي بوصفها استعارة تمثل العلاقات بين الناس عامة، حيث تكتسب الحرب نفسها ملامح خلفية تعميمية للتاريخ المعاصر. رواية أندريه فولوص "خُرَّم آباد" جائزة انيبوكر تعالج مشكلة الروس المستوطنين في طاجيكستان وقد وجدوا أنفسهم رهائن للنزاعات الدموية بين العشائر المحلية. كذلك كانت الأحداث الدموية في أذربيجان دافعاً ليكتب أفاناسي ماميدف رواية "عجلة الأقدار". إن مركز اهتمام هذه الروايات ليس تصوير الحرب الأهلية، بل المصائر البشرية التي دمرتها تقلبات التاريخ. وتتمثل قيمة الروايات المذكورة قبل كل شيء في روح النزعة الإنسانية التي كان الأدب الواقعي الروسي يذود عنها بطريقة أو بأخرى. على أن أليغ بافلَف يقارب الموضوع من زاوية أخرى إذ يصف الحياة في الجيش كمؤسسة تمارس قمعاً عميقاً على الشخصية وتخلّف في النفس أثراً قاتماً لا يمَّحي. لكن روايات بافلف أحياناً أكثر عمقاً في تناول الظاهرة ولا تكتفي بتسجيل الجوانب السلبية في الحياة. فهو بالدرجة الأولى يستقرئ الفرد وعالمه الداخلي، ويظل الإنسان دائماً أهم من الظروف المحيطة به. ثمة نهوض ما في النثر الروسي أخيراً، إذ تتزايد المواضيع الممتعة كإشكاليات، والمكتوبة بمستوى فنّي جيد. معظم هذه المواضيع يعالج مشكلات الفرد ويحاول النظر في أعماق البطل لاستكناه ما يحركه من أسباب نفسية وتناقضات روحية. ويبدو أن التحولات الاجتماعية التي تولّد عنها اهتمام بوصف الأحداث "من الخارج" فقدت أخيراً دور الحافز الإبداعي الأول، وحان وقت جني الثمار الأولى لذلك الاختمار الروحي الذي كان يعتمل طوال هذا الزمن في الوعي القومي الروسي. وما من إنجازات كبيرة في مجال الكتابة المسرحية أيضاً. فمن مشاهير مسرحيي الجيل القديم لم يتأقلم مع الظروف الجديدة إلا ألكسندر غالن "...Sorry!" و"شذوذ" و"العازف المرافق" الذي يتعامل مع مواضيع تستجيب لقضايا الساعة من دون خجل من "استدرار الدموع" بطريقة ممنوعة إقحام "أحداث واقعية مرعبة" في النص بشكلها الفج من دون إعادة استيعابها وهضمها فنياً مصحوبة بنكات جلية الإسفاف والابتذال. وقد صعد نجم ممثل سابق تحول الى الكتابة المسرحية هو نيقولاي كليدا فاز بجائزة ستانيسلافسكي الذي تلقّف راية "الموجة الجديدة" في الثمانينات فجمع في إبداعه بين الاهتمام المفرط بالجسد وبين التيار العاطفي القوي. وبفضل بناء لغوي خاص تكتسب مسرحيات كليدا تأثيراً إضافياً، فهو يطعّم نصه بمقاطع من لغة "الشارع" بغية خلق إحساس مميز بما يشبه الحياة. أما أليغ بَغايف فيعتمد في مسرحياته على سياق ثقافي واسع يقرّبه من مبادئ ما بعد الحداثة. فمجرد تسمية مسرحيته ب"النفوس الميتة" يعيدنا حتماً الى رواية غوغول، بينما تبدو مسرحيته "البريد الشعبي الروسي" جائزة انتيبوكر وكأنها تكمل كتابة موضوع "فانكا" الذي بدأه تشيكوف الذي نرى بطله الطفل وقد أصبح عند بغايف عجوزاً يستلم الرسالة التي أرسلها قبل نصف قرن "الى جدي في القرية". ثمة فريق آخر يكتب مسرحيات خالية من المشكلات، ولكنها ذات تأثير مليودرامي واضح، هدفه استدعاء رد فعل عاطفي سريع بين المشاهدين، وذلك كما في مسرحيات الكاتبتين الشابتين كسينيا دراغونسكايا "سرّاق التفاح" و"إلى الأبد - الى الأبد" وأولغا موخنا "تانيا- تانيا" و"يو". وشعراء التسعينات ليسوا ظاهرة جديدة بقدر ما هم استمرار صاعد لشعراء الثمانينات ومن قبلهم. لقد تراجعت النبرة الاجتماعية في شعرهم الى حد كبير وأفسحت في المجال للغنائية وردّ الفعل الذاتي والحكمة المتولدة من خبرة الخسائر والممتزجة بنغمة دينية أحياناً. سيرغي غندليفسكي أطلق على طريقته اسم "الواقعية العاطفية" التي تقتبس من الشعر المعاصر وسائل التعبير، ولكنها تعترف بهرمية الشعراء الأسلاف. إنه ذو موهبة كبيرة ولكنها شحيحة للغاية، يتمتع بلغة روسية ممتازة وتفكير جلي مدرَّب على أحسن وجه، وبمقدرة فائقة على توزيع الألفاظ بحيث يحتل كل منها مكانه من دون تزاحم أو تكرار أو تعثّر في رحاب عروض الشعر. إن موضوع غندليفسكي هو الوطن بمعناه الخرافي الأسمى، هو البلاد الآسيوية الفقيرة، الريفية، المألوفة، اللامتناهية، المثيرة للحنين. إن شعره اعتيادي، ولكن موهبته الكبيرة هي سر الكلام المباشر لديه، وتلك ميزة نادرة في الشعر، فهو يسمي الأشياء بأسمائها ويظل مؤثراً بفضل درامية الحال وروعة الإيقاع لا غير. يتمتع شاعر "المفارقة" تيمور كيبيرف بقدرات نظمية بديعة، ولكن طريقته مكرورة، بما فيه الكفاية. إنه بلاغي رائع يتأتى الإحساس "بطزاجة شعره" عبر مراكمة تفاصيل عبثية وشديدة التنافر. إنه يستقي إلهامه من أشياء ثانوية يصقلها ويستوعبها ثقافياً، ومن أشياء مصقولة اجتماعياً مصدرها اللغة المستهلكة بالدرجة الأولى. وقد طالعنا أخيراً بنوع من "الديالكتيك المعكوس"، كقوله: إن الأمور سيئة كلها، فتعالوا نحب الحياة. سوناتا يفغيني بلاجيفسكي "في الطريق الى زاغورسك" أصبحت أغنية مشهورة على المستوى القومي. في أشعاره الأخيرة يذكرنا هذا الشاعر بدراما الناس الذين يشيخون ويغادرون هذا العالم وهم يحاولون، تحت وهم قمر بطيء، أن يكتشفوا فيه آخر واحات الحب. أما شغر إيغر ميلاميد فهو شكوى من هذا العالم وضّاءة ولا نهاية لها، إذ لا غياب ولا نسيان فيها أبداً لوالده الذي مات، ولا لآلام حب لم يتحقق أو حب مات. إنه كالنساء في ضعفه ورقته واهتمامه بالتفاصيل. صوته الذي لا يخطئه السمع ولا يخلو من نبرة عتيقة، غريب تماماً عن التقنية الحداثية المعاصرة وعن التهكم. إيفان جدانف جائزة أبولون غريغوريف 1998 أحد شعراء "الاستعارة الماورائية"، يتمترس وراء ركام كتيم من الكلام فيخفي ما يتميز به الشاعر من حضور مباشر، يخفي روحه و"أنا"ه، ألمه وحبه. وخلافاً لما يفعله الشاعر عادة، لا يعرّي جدانف نفسه في شعره، بل يتحصن خوفاً من اكتشاف سره، متسلحاً ضد العالم باستعارة متجهمة صادمة، مفضّلاً التأويل الأعمق معنى. بطريقة نسائية تتوحد عند الشاعرة سفيتلانا كيكوفا الأحلام الإيروسية والله، وتلوح وراء الحب الجسدي بشارة مقدسة واتحاد غيبي بين الشهوة والمعجزة، حيث تذوب الخطيئة في القداسة، واضح أن الله غفور لأننا نعرب عن ندمنا أمامه ونحن نقترف الذنب، ولأنه من حبه إيانا بارك الخطيئة أيضاً. وفي شعر أولغا بوستنيكوفا يتقاطع الحب الجسدي والملائكة في السماء" فهي تريد أن تجد عند الله أو سافو غفراناً للخطيئة. إن شعرها متّزن، متين، ومفعم بالفكر. لم يتغير الكسندر كوشنر خلال السنوات العشر أو العشرين أو ربما الثلاثين الأخيرة، مثلما لا ينبغي أن يتغيّر البرناسي الأصيل أو الذوّاقة الأدبي. إنه يحجب حزن الحياة المقيم بمنشّة بديعة تتراءى عليها خيالات رائعة للعهود الخالية، ويرقط الرتابة اليومية بشذرات ثقافية ليجرّد تلك الرتابة من سلاحها. وفي الوقت نفسه فإن حزنه - على رغم جميع التخفيات - يظل حقيقياً، باسلاً في هدوئه ونقيّاً في نعمته. * ناقدة أدبية تعمل في القسم الأدبي في جريدة "نيزافيسيمايا".