اختتمت القمة الروسية - الاميركية التي عقدت في موسكو يوم 4 حزيران يونيو الماضي من دون أن تسفر عن أي تقدم يذكر في ما يتصل بالجدل الدائر حالياً بين البلدين بشأن عزم واشنطن على إقامة نظام دفاع مضاد للصواريخ الباليستية ذاتية الدفع، تاركة بذلك الباب مفتوحاً أمام الاجتهادات الروسية الرامية الى الاستعانة بحلفاء أميركا الاوروبيين للتصدي لهذا المشروع. ويهدف المشروع الاميركي لإقامة نظام دفاع ضد الصواريخ البالستية المعروف اختصاراً بN.M.D الى اعتراض الصواريخ البالستية التي يتوقع أن تطلقها الدول المشاغبة - على حد وصف واشنطن - ضد أهداف اميركية سواء في داخل أراضي الولاياتالمتحدة أو خارجها، وهي لا تزال في الجو، وذلك عبر إنشاء منظومة متكاملة تصنع خصيصاً لهذا الغرض على أن تبدأ عملها في العام 2005. وتتكون تلك المنظومة الدفاعية من مجموعة من الأقمار الاصطناعية للإنذار المبكر، وأجهزة رادار، وأجهزة كومبيوتر متطورة لتحديد موقع الصاروخ المهاجم، ثم توجيه الصاروخ المضاد بإتجاهه على الفور. ويتكون الصاروخ المضاد للصواريخ في المعتاد من نظام دفع ومركبة قاتلة خارجة عن الفضاء تعرف اختصاراً بIKF وبحسب تصميمها، فإن هذه المركبة تنفصل عن نظام الدفع لتصطدم برأس الصاروخ المهاجم بسرعة تصل الى 24 ألف كلم/ساعة، كما تتضمن المركبة IKF رأساً باحثاً ونظام دفع ومعدات اتصال وتوجيه تعتمد على أجهزة كومبيوتر للوصول الى الهدف المنشود من دون السقوط في فخ الأهداف الحرارية الوهمية وتستخدم في ذلك جهاز الأشعة تحت الحمراء، بالإضافة إلى جهاز تلسكوب نظري. وكما هو معروف أجريت تجربتان لاختبار هذا النظام الدفاعي المضاد للصواريخ البالستية منذ مطلع العام الجاري، ولم تنجح سوى تجربة واحدة. وفشلت التجربة الثالثة، للتأكد من فاعلية هذا النظام، التي جرت الجمعة الماضي 7/7/2000. ويحظى هذا المشروع باهتمام كبير من جانب الإدارة الاميركية خصوصاً الرئيس كلينتون الذي ينوي إقراره نهاية هذا الصيف، في حين أن هناك معارضة شديدة لهذا المشروع بين الأوساط الأمنية والعسكرية من جهة، وداخل أروقة الكونغرس الاميركي من ناحية أخرى. إذ يرى الخبراء العسكريون الاميركيون أن هذا المشروع باهظ التكاليف يصل إجمالي نفقات إنشائه الى بلايين الدولارت، في حين أنه لا يوجد مبرر استراتيجي لذلك. كما أن المشروع لم تثبت فاعليته بعد، ويحتاج الى معركة حقيقية لاختباره، بينما يرى رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جيسي هيلمز، أن أي محاولة للرئيس كلينتون لإجراء تعديلات على الاتفاق الخاص بالحد من الصواريخ المضادة للصواريخ المعروفة اختصاراً بA.B.M ستواجه بحزم من جانب الكونغرس. وفي حال عرض المشروع الذي يرعاه الرئيس كلينتون على الكونغرس فإن مصيره سيكون الإجهاض. إلى الكونغرس حذر العسكريون من أن إقدام واشنطن على تنفيذ مثل هذا المشروع سيثير عداء دول كثيرة وسيشجعها على حيازة اسلحة الدمار الشامل، ولا يستبعد أن يؤدي الى المزيد من انتشار الصواريخ الباليستية. وعلى الصعيد الأوروبي، لقي المشروع الاميركي هجوماً ملحوظاً اذ اعتبره الحلفاء الأوروبيون محاولة اميركية جديدة للانفراد بتوجيه السياسة الأمنية للناتو وللعالم، الأمر الذي يؤثر سلباً على الوفاق والتفاهم الأوروبي - الاميركي. ويرى الأوروبيون أيضاً في المشروع دعوة صريحة لإثارة سباق التسلح مرة أخرى في ثوب جديد، فضلاً عن استعداء الصين ودول أخرى ضد الغرب، مع الأخذ في الاعتبار الكلفة الباهظة للمشروع الذي لا توجد حاجة ملحة لإقامته. ثم يأتي الموقف الروسي الأكثر أهمية، والأشد خطورة، إذ تتقدم موسكو الدول المعارضة للمشروع الاميركي وتعتبره خرقاًَ صريحاً لمعاهدة ABM الموقعة بين البلدين في العام 1972 للحد من الصواريخ المضادة للصواريخ والأنظمة المعنية بذلك. وخلال القمة التي عقدت حديثاً بين الرئيسين كلينتون وبوتين، حاول الأول إقناع الأخير بإجراء تعديلات على معاهدة ABM من أجل السماح لواشنطن بتنفيذ مشروعها. إلا أن الرئيس الروسي رفض العرض وقام بتقديم مقترحات لإقامة أنظمة دفاعية مشتركة بين واشنطنوموسكو. كما اقترح وزير الخارجية الروسي أن تتعاون كل من روسياوالولاياتالمتحدة من أجل مناهضة انتشار الصواريخ البالستية وأسلحة الدمار الشامل. غير أن واشنطن رفضت تلك العروض واعتبرتها غير كافية. وفي محاولة منها لإقناع روسيا واسترضائها من أجل الموافقة على تعديل المعاهدة، عرضت واشنطن على موسكو الدخول معها في مشاريع للتعاون العسكري والتكنولوجي فضلاً عن مساعدة موسكو في استكمال مشروع إنشاء رادار ضخم ومتطور لرصد الصواريخ المعادية بالقرب من مدينة إيروكوتسك الروسية في سيبيريا، وهو المشروع الذي سيكلف عشرات الملايين من الدولارات... غير أن ذلك لم يغير من الموقف الروسي. وينبعث الموقف الروسي بشأن المشروع الاميركي من بعض المستجدات التي ظهرت مع الرئيس الروسي الجديد فلاديمير بوتين الذي يسعى جاهداً نحو استعادة المكانة العالمية لروسيا، خصوصاً، مع بروز المساعي الاميركية الرامية الى احتواء موسكو، وتحجيم دورها، ثم عزلها عن المشاركة في وضع الترتيبات والتصورات الجديدة لمستقبل النظام العالمي. وهو ما يتضح من الحرص الاميركي على توسيع حلف شمال الاطلسي ناحية الشرق لمحاصرة روسيا أمنياً وعسكرياً، ثم التغلغل الاميركي في وسط آسيا وشرقها للسيطرة على المراكز التجارية والاقتصادية، والموارد الطبيعية الحيوية والاستراتيجية من خلال الدخول في ترتيبات اقتصادية معها بغية محاصرة روسيا اقتصادياً. الى ذلك محاولات الانفراد الاميركي بإدارة القضايا الدولية، وتسوية النزاعات الاقليمية بمنأى عن روسيا، وبمساعدة محدودة في أوقات محددة من حلفائها الأوروبيين. لذلك، اتجهت موسكو الى اتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير التي تساعدها على تعزيز مكانتها الدولية والاقليمية، فشرعت في تقوية نفوذها في منطقتي القوقاز وبحر قزوين، وطالبت بإشراكها في مجمل الترتيبات والمشاريع الاقتصادية المزمع اقامتها في وسط آسيا، كما حرصت على الحفاظ على وحدة أراضيها وإن لزم الأمر أن تلجأ الى الحرب مثلما يحدث في الشيشان حالياً. وفي منحى آخر سعت روسيا الى توثيق علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع الصين، وإيران، والعراق، وكوريا الشمالية، الأمر الذي اضطر واشنطن الى محاولة إشراكها في مشاريعها الاقتصادية في آسيا الوسطى. وفي مسعى منه الى إعادة صوغ نظرية الأمن القومي الروسي، بما يعزز المكانة الدولية لبلاده، قام الرئيس بوتين بتشجيع الحركات والاتجاهات الرامية الى تحديث الجيش الروسي الذي يقوم بإعادة تنظيم صفوفه من جديد مركزاً على الكيف قبل الكم، ومعطياً الأولوية لتطوير التكنولوجيا العسكرية. وبرز اتجاه داخل المؤسسة العسكرية والمؤسسات السياسية الروسية يدعو الى الابقاء على قدرات روسيا اللازمة لتحقيق الردع النووي، وأشارت تقارير عدة الى أن بعض العسكريين الروس، وكبار الضباط في الجيش تقدموا بطلب للقيادة الروسية في مطلع العام 1997، يهدف الى إعادة تسليح بعض الصواريخ النووية الروسية، وتوجيهها نحو أوروبا الشرقية باعتبار ذلك رمزاً وملمحاً لمعارضة روسيا لتوسيع الحلف الاطلسي باتجاه الشرق. واعلن بوتين أنه في حال تجاهل واشنطن لموقف موسكو واقدمت على تنفيذ مشروعها، فإن الكرملين سيتخذ الإجراءات اللازمة للرد على هذه الغطرسة الاميركية وفي مقدمها نسف الاتفاقات الخاصة بالحد من الأسلحة الاستراتيجية والتكتيكية التي سبق وصدقت عليها روسيا، وتجميد اتفاقية سولت -3. ومن جهة أخرى، قام الرئيس بوتين بزيارة رسمية الى ايطاليا عقب زيارة كلينتون لموسكو، واقترح على رئيس الوزراء الايطالي، الذي تعارض بلاده المشروع الاميركي، مشروعاً مضاداً وهو إقامة نظام دفاع ضد الصواريخ البالستية يضم روسيا ودول أوروبا الغربية وحلف شمال الأطلسي، كرد على المشروع. ويمكن تفسير موقف الرئيس كلينتون الذي يصر على قرار مشروع الدفاع ضد الصواريخ البالستية، على رغم المعارضة الشديدة له في بلاده وخارجها، بأنه يسعى الى تحقيق انجاز كبير يذكره له التاريخ بعد خروجه من البيت الأبيض مثلما حدث من قبل مع الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان الذي ارتبط اسمه بمبادرة الدفاع الاستراتيجي أو ما عرف إعلاميا بحرب النجوم. ويبدو أن كلينتون أدرك مدى الخطورة التي ينطوي عليها مثل هذا المشروع، الأمر الذي اضطره الى تأجيل البت فيه الى شهر تشرين الثاني نوفمبر المقبل بعد فشل التجربة الثالثة على النظام المضاد للصواريخ، والتأكد من ضعف فاعليته. ويرجح أن ذلك مجرد إجراء موقت لجأ اليه كلينتون تمهيداً للعزوف تماماً عن المشروع، بعد ان تبيّن أن البيئة الدولية ليست مستعدة لقبوله. * كاتب سياسي مصري