إذا رجع الناس إلى مفاهيم الكتاب والسنة وتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم ثم تطبيقات جيل الراشدين، في مجال حرية الرأي والعقيدة والفكر، سدوا أبواباً كثيرة، من أبواب المغالاة في التكفير والتهاون، وإذا التزموا بأن لا يخوضوا" إلا بما لهم به علم اليقين لا علم التخمين، سدوا أبواب المغالاة والتساهل القليلة الباقية. وهذا وذاك لا يتحققان" إلا إذا كان الباحث على معرفة كافية، بطبيعة العلم أو المجال الذي يخوض فيه، وعلى معرفة كافية بأصول الدين، ومن دون الجمع بين هذا وذلك، يسير الناس في الطريق من دون بوصلة، وقد يكون السائر عالماً كبيراً، في أصول الديني أو فروعه الخاصة، ولكنه يخفق، حين يتصدى للتقويم الدني" إذا جال في مجال لم يطلع عليه اطلاعاً كافياً، كما فعل الذين رفضوا الثقافة الاجنبية، جملة وتفصيلاً، اعتبروا كل دخيل مقتبس" ضد الخصوصية والدين. وقد يكون المتصدي للتقويم" نابغاً في مجال علمي أو أدبي، ولكنه لا يدري حدود الإيمان من الكفر، فيقع في الكفر بغير علم، كما وقع بالأمس" الذين انبهروا بالفلسفة اليونانية، كالفارابي وابن سينا، وكما يقع كثير من الذين يروجون للعلمانية، أصولاً وفروعاً. من الضروري إذاً في الذين يتصدون للتقويم، أن يكونوا على بصيرة بالمجال الذي يتحدثون عنه، فالتقويم الديني للآداب والفنون يحتاج إلى ثقافة أدبية وفنية مكينة، واطلاع على المذاهب وأسسها الفلسفية، وملوناتها المناخية، مع قدر كاف من المعرفة بأصول الدين، وفروعه عموماً، وفي مجال فقه الأدب والفن خصوصاً. والأسلمة في علوم النفس والاجتماع والسياسة، تحتاج إلى ثقافة مكينة في علوم الاجتماع، وحس سياسي واجتماعي. عندما يدرك الباحث طبيعة الشيء ووظيفته، يكون رأيه اجتهاداً مشروعاً، يستحق الأجر والشكر إن أصاب، والأجر والعذر إن أخطأ. وعندما يدخل في مجال لم يدرك طبيعته ولا وظيفته، يصبح رأيه اجتهاداً غير مشروع إن أصاب، ولا هو محمود ولا معذور إن أخطأ. كثيرون كفروا أو بدعوا أو فسقوا، في ميدان حداثة الأدب، أو الاقتصاد أو السياسة. فأشاعوا بلبلة في الفكر والمجتمع، وحاربوا حداثة التنمية والتقنية والمعرفة، التي حض عليها الدين بسلاح الدين. ودفعوا كثيراً من أهل الإبداع والتجديد، إلى الخمول أو التمرد، فضربوا الإبداع والتفكير، اللذين حض عليهما الدين، بسهام التبديع والتكفير، واستعدوا الرأي العام غير المستنير، وساقوه إلى إطفاء بوصلات العقول، بعواصف العواطف. حتى وجدنا من يضلل أو يبدع دعاة الشعر الحر، وكأن الوزن الخليلي من قطعيات الشريعة. ووجدنا من يحرم التمثيلية، لأنها - في زعمه - كذب وسخرية بالآخرين، فلم يدرك طبيعتها ولا وظيفتها. ووجدنا من يكفر الديموقراطية، جملة وتفصيلاً من دون أن يفرز أمرين فيها يحتاجان إلى فرز: الديموقراطية الغربية" بنت العلمانية، وهي فرع لأيديولوجية، ولا يمكن فك ارتباط الغصن بشجرته، هذه الديموقراطية لا يمكن أن تقبلها إلا الأمم التي لا أصل لها، أي اللقيطة على المستوى الحضاري، لأنها تؤدي بطبيعتها إلى العلمانية. أما الديموقراطية بعد فك ارتباطها بالأيديولوجية العلمانية، فهي أداة ضرورية للإدارة الاجتماعية والسياسية. إذاً لا بد من الفرز والتصفية بمصفاة مفاهيم الكتاب والسنة. وهذا يدعوا إلى التركيز على الخط الثالث، الذي يتجاوز الخطين الدراجين: - خط الوقافين أمام كل جديد الذين أعادوا إنتاج الخطاب الديني من دون ميز النص المطهر، من الآراء البشرية، من غير نبذ الخلايا الميتة عن الخلايا الحية، الذين أعادوا إنتاج الفكر الإسلامي العباسي، من دون أن يلاحظوا علائقه الجدلية بالتضاريس والمناخ، ومن دون أن يلاحظوا ما صيغ منه في عهود القوة، حين كانت الحضارة الإسلامية سيدة العالم، وما صيغ منه في عهود شيخوخة الحضارة، وكلا الفكرين لا يناسب مرحلة النهوض التي نتغياها اليوم. - وخط المستوردين الجلابين كل جديد، من غير تصفية الجيد من الرديء أيضاً، من غير نخل العلمانية، ونبذ القيم والأفكار القاتلة. فلم يستبينوا روح الإسلام ومبادئه، في الفلسفة وأصول العلوم، وطبيعتها وأهدافها، وفي قضايا المرأة والاجتماع والسياسة، وفي الآداب والفنون. هؤلاء وأولئك قد يقتصون ويبتسرون، بعض الآيات والأحاديث، لكي يطمئنوا القارئ المسلم، إلى أنهم يقدمون له فكراً لا شبهة فيه، ينسجم ويتسق مع الثقافة الإسلامية، لكي يفتح المظلة لاستقبال القيم القاتلة باسم التحديث، أو لكي يعيد إنتاج القيم المريضة والميتة، باسم الأصالة. وكلا النوعين من ضروب التضليل الواعي والشارد، وليس لأي كاتب أن يزعم لنفسه النجاة، إلا بمزيد من الإصغاء إلى الآخرين والتفكر. هناك تعميمات ومعلومات وآراء" اكتسبت صفة البديهيات، لكثرة دورانها على الألسنة، فامتصتها ثقافتنا الإسلامية، في عهود الركود أو في عهود الشقاق، فالجهل بوظيفة المنطق - أو الخوف منه - حمل قوماً على أن يصكوا مصطلحاً، صار قانوناً في المنهج المعرفي، أو لافتة تحذر من مثلث برمودا الفلسفي، وهو "من تمنطق فقد تزندق". وهو حكم تعميمي جاهز، لم ينبن على تصور علمي صحيح، وكل رأي ينبني على معلومات غير صحيحة" فهو غير صحيح. وهناك تعميمات في ثقافتنا القديمة، في تقييم المنطق والفلسفة والعلوم التطبيقية والبحتة، كالهندسة والكيمياء، والفلك، والرياضيات وعانت هذه المجالات من النبذ والقطيعة، من دون تبين وفرز بين مستويات ثلاثة. الأول: مستوى صالح لكل تفكير، فالمنطق آلة استدلال على صحة الفكر، كما أن العروض آلة استدلال على صحة وزن الشعر، والفلسفة هي الكلام في أصول المعرفة وكلياتها. الثاني: مستوى تجريدي صوري ضمرت فيه الروح العملية ونمذجته سفسطة البلاغة وبلبلة علم الكلام، ولم تسلم منه مدونات أصول الفقه، لإنه كان وباءً معرفياً، بلبل مع الروح البدوية نظرية المعرفة والتربية معاً. ولعل ابن قدامة رحمنا الله وإياه، حين حذف المقدمة المنطقية، من النسخة الأخيرة من كتاب روضة الناظر، كان خائفاً أن يحيق هذا المنطق بكتابه، إما لكلله عن الفرز والتصفية، أو منجاة لنفسه أو لكتابه، أو لهما معاً، من النبذ الثقافي أو الاجتماعي. الثالث: مستوى إلحادي فوضوي، أشاع في الناس تأويل الشريعة، فظن لها مستويين مستوى ظاهراً للعامة، وآخر باطناً للخاصة، وهو نابع من تحقير فلسفي للرأي العام، وبعد عن الروح العملية، روج للحلول فأخرج الإنسان من طبيعته البشرية، إلى طبيعة إلهية، وروج للتناسخ فألغى بهذا وذاك، روح المسؤولية، والتبعة الفردية الشرعية، وابتعد عن الفكر العملي الفعال. وأدخل هذا المستوى قوم باسم التصوف الديني، كابن عربي والحلاج وابن سبعين، وروج له آخرون باسم العقلانية والتحرر الفكري، كابن رشد والفارابي وابن سينا، وهو يفضى - بمنطق منهجه، بصرف النظر عن مقاصد ناشريه - إلى هدم القيم الإنسانية العملية، التي فطر الله الناس عليها، فأكدها سواءُ الطبيعة، ووحي الشريعة. وهم يتمظهرون بالعقلانية والروح الفلسفية، ولكنهم نظروا إليهما بعيون يونانية لا قرآنية. فأنتجوا عقلانية تلفيقية، حاولت الجمع بين العقلانية القرآنية، المبنية على التوحيد والروح العملية، وبين العقلانية اليونانية، المبنية على الشرك والتجريد، ومهما يكن لابن رشد وللرشدية من أثر على فكر النهضة الاوروبي، فإنه متصل بمدى امتزاجه بالروح اليونانية، أي باعتباره شارحاً أو وسيطاً، أما وزنه في الثقافة الإسلامية" فلم يكن ظاهراً لأنه لم يكد يتجاوز الثقافة اليونانية، وإن استوعب قدراً كبيراً منها. وكتابات هؤلاء التي لم تكد تتجاوز لحظة الدهشة، أو مرحلة الاستيعاب" كانت بعيدة عن فهم الشريعة، كما كانت بعيدة عن الفلسفة العملية، أي أنها بعيدة عن العقلانية العملية أيضاً، التي نهض بها الغرب، بعد أن تخلص من وصاية أرسطو وأفلاطون. من أجل ذلك لا عجب إذا ترسخ في الثقافة العربية والإسلامية" اقتران الفلسفة والمنطق" بالانحراف والزندقة. وهذا الفرز بين المستويات الثلاثة ضروري، لكي لا نضرب الابداع والتقنية باسم الدين، وكي لا نضرب الدين باسم الحرية والابداع والتقدم. عانى العلم العمراني، في المجال التطبيقي، وأسسه البحتة النظرية، من التكفير والتبديع، فالبعد عن علم الفلك جر بعض الفقهاء إلى إنكار كروية الأرض، ومعاملة علم الفلك معاملة التنجيم، والبعد عن علم الكيمياء، جر إلى معاملة علم الطبيعة معاملة السحر. من أجل ذلك وجدنا من يرى" أن القول بكروية الأرض بدعة، لا ريب فيها ولا نظر، ويستسهل بعض الناس تبديع المبدعين، على أساس أن هذه وجهة نظر، فلا يلاحظ ما يترتب عليها، عند أغلب الفرق الإسلامية، إذ يترتب عليها أمران الأول: جواز قتل دعاة البدع، وبناءً على ذلك يمكن أن يعد أي عالم يؤلف رسالة في كروية الأرض" من دعاة البدع، ويمكن أن يسفك دمه، تحت شعار حراسة الدين. الثاني: لعل من المناسب التفريق بين أمرين: نقض علم أو رأي، بدليل علمي، مسألة صواب وخطأ، أما نقض نظرية علمية بسلاح ديني" فذلك يعني جعلها مسألة كفر أو إيمان، أو مسألة سنة أو ابتداع، وهذا أمر يفضي الخطأ فيه، إلى نصب الدين، راية لمحاربة الإبداع، باسم الابتداع، ووأد فريضة التفكير بمرزبة التكفير، ويؤدي إلى قمع الأفكار العلمية، والاكتشافات والاختراعات. ولا عجب بعد أن عرف السبب، أن تبدأ الكيمياء، وتكاد تنتهي بجابر بن حيان، وأن لا يجيء عمل يوازي عمل الخوارزمي في الجبر، وأن لا يتقدم علم البصريات تقدماً يذكر، بعد ابن الهيثم. فهذه النظرة الدونية للعلوم التطبيقية والبحتة، من أسباب السقوط. لأن سيوف التكفير والتبديع، لمعت أحياناً فوق رؤوس هذه العلوم، من دون فرز بين الضار والنافع، وبين ما هو رأي علمي، يخطأ ويصوب، ولكنه لا يبدع ولا يكفر، وما هو بدعة لا تكفير فيها، وما هو كفر لا يجوز السكوت عليه. ويمكن تبرير مواقف التعميم، على المستوى الفردي. لأن بعض المبدعين جمع بين السحر والكيمياء، أو بين الفلك والتنجيم. وهذه حقيقة تاريخية، فلم يكن ابن تيمية واهماً ولا متجنياً، عندما أشار إلى الخلط. ومثله ابن خلدون عندما وصف جابر بن حيان بقوله: "ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان" كبير السحرة في هذه الملة"، فابن حيان كبير السحرة، وهو أيضاً - في الكيمياء - "إمام المدونين"، كما أن مسلمة المجريطي ورثه في الأندلس، فألف في السحر غاية الحكيم، وفي الكيمياء رتبة الحكيم، كما في فصلي السحر والكيمياء من المقدمة. وفي ذلك تساؤلان: الأول: لم لم يصف علماء الطبيعة هذه العلوم من الخرافات؟ ولم لم يصف علماء أصول الدين هذه العلوم من الشركيات؟ الثاني: لم لم نجد هذا الفرز مستقراً في الثقافة العامة؟ لأن البعد الذي ينبغي أن نتوقف عنده ملياً، هو الموقف الثقافي المعرفي العام، من هذه العلوم، الذي بني على اطلاع غير كاف، على هذه العلوم وطبيعتها ووظيفتها، وعلى عجز عن غربلتها يفضي إلى تصفية لبابها عن قشورها، ونبذ خرافاتها عن حقائقها، واشتيار إيمانها من ضلالها. ومن أجل ذلك لا عجب أن تسقط أمة، لا تفرز بين مجال الخرافة والتضليل والشعوذة ومجال الإبداع والإنجاز، في حقول الصناعة والاقتصاد والعمران. إنها إذاً ازدواجية ثقافية حادة، جعلت لسان الميزان مضطرباً، إما أن يطيش فيه الإيمان، أو أن يطيش فيه العلم التطبيقي والبحث والعمران. لقد ارجحن ميزان التكفير، بين الإفراط والتفريط، حتى توسع فيه أو جازف، بعض العلماء والفقهاء المتقدمين، من دون ضوابطه الشرعية، ومن دون رؤية منهجية، تفرز السحر عن الكيمياء، أو علم الفلك عن التنجيم، أو رؤية تربوية، لأسباب الخلل وطرق العلاج. النقد الموضوعي كان غائباً لعلماء الطبيعة والرياضيات، والعلم التقني، فضل وإبداع، يذكر فيشكر، ولا ينبغي نكران أثره الحضاري، في تقدم الأمة، ولا يجوز في الشريعة التقليل من قدره، ولا التحذير من مواصلته. ولكن لهم أخطاءً صغرى وكبرى، في مجال الإلاهيات والغيبيات، بل وفي النظريات الاجتماعية، ينبغي نقضها بميزان العقل القرآني. ولعلماء الدين فضل وجهاد، وإمامة في العلم والعمل، وهم جزء مهم من مكونات ثقافتنا، وينبغي أن نحترمهم، وأن لا نشكك في فضلهم، ولكن ينبغي أن لا نضعهم فوق مستوى الكتاب والسنة، ولا فوق مستوى الحقيقة العلمية، وأن نزن أقوالهم بميزان الشريعة، التي حرصوا عليها. أي إن الأسلوب الذي نحتاج إلى التركيز عليه اليوم، أن نسلك المنهج التعذيري في مجال الحكم على النيات والدوافع، وتقدير البيئات التي عاشوا فيها، والتحديات التي واجهوها، ومستوى الثقافة الاجتماعية، وأفق الرؤية المعرفية، التي شكلت روح عصرهم، وفرضت عليهم أولويات وخيارات، قد لا نستطيع فهمها، إلا إذا عشنا فيها، لكي لا نسقط الأسوة الحسنة، التي نقتدي بشوقها وروحها. أما في مجال الحكم على النتائج، وتقييم المواقف والأفكار والأحداث" فليس أمامنا إلا أن ننصب الميزان القرآني، أي النقد المنهجي التحليلي، الذي على لسانه، تتم العلاقة الموضوعية، بالأشخاص والمواقف، والمبادئ والأشياء. من أجل النهوض بواقعنا، والتخطيط لمستقبلنا. القول بكروية الأرض نظرية قديمة، منذ بطليموس العالم المصري اليوناني، صاحب كتاب المجسطي، ومنذ أرسطو، والأدلة التي ساقها البيروني - على أهميتها - أدلة حسية بسيطة. أليس من المؤسف أن يكون البيروني، عند أحد مفكري الغرب، أعظم عقلية علمية عرفها التاريخ، وأن تقدمه لنا الثقافة الدينية الشائعة، داعي بدعة، ومعروفة عقوبة دعاة البدع، في الفقه الإسلامي/ العباسي وأن تعتبر بعض جداوله الرياضية، بدعة وانحرافاً دينياً؟ أوليس من المؤسف أن يكون - من وجهة نظر غربية - "لجابر بن حيان في الكيمياء" ما لأرسطو في المنطق"، كما يرى برتلو وأن يختزل صورته ابن خلدون مؤرخ الحضارة، ب"كبير السحرة في هذه الملة؟". حتى الكنيسة التي رفضت العقلانية العلمية، لم تخل من أمثال كوبر نيكس الذي وجه ضربة قاضية، لنظرية مركزية الأرض، أليس من المؤسف أن تستقر في الغرب نظرية كروية الأرض منذ قرون؟ على حين تستمر فينا ثقافة تحقير العلوم والتقنية، فلا تسترد اعتبارها الديني، كروية الأرض وأمثالها من الأفكار الجريئة الثاقبة، في مجال الكون والأرض والإنسان، إلا بعد عشرة قرون، حين اكتشف بعض الناس، بالدليل الحسي، أن القول بكروية الأرض، ليس بدعة ولا انحرافاً، إنما هو حقيقة علمية، وأن فهمهم لآيات القرآن الكريم، قد أجاد شكل منهج الاستدلال بالقرآن، ولكنه أخفق عن إدراك روح المنهج، لأن القرآن ليس نصوصاً سائبة، منفلتة، بلا منهج ولا قطب ولا مدار. التاريخ تذكرة وعبرة مآسي الأمس عبر اليوم، فما الدروس التي يمكن استخلاصها من الماضي؟ الأول: مدى الحاجة المتجددة الى الغربلة والتصفية، في ما تلقيه الحضارة الغربية علينا، وإن لا عانينا من الانشطار القديم، بين تيارين: تيار يأخذ من دون احتياط، فيشيع الإلحاد والزندقة وانهيار الأخلاق. وتيار آخر يرفض من دون فحص، فيؤدي الى رفض التقدم والحضارة، ويعيد إنتاج أسباب تلاشي الإبداع التقني، بتأويل الخطاب الديني، لكي يخوف من خطر الإبداع من دون فحص ولا برهان. الثاني: أهمية المنهج النقدي، في دراسة آراء العلماء السابقين، بصفتها معرضة للخطأ والصواب، وأنه لا ينبغي أخذها مسلمة، إلا بعد وزنها بميزان الكتاب والسنة، ولا ينبغي قبولها إذا خاضت في العلوم التطبيقية أو البحتة أو الإنسانية، إلا بعد عرضها على الحقائق العلمية في تلك الميادين. وأنه لا ينبغي أيضاً أخذ آراء العلماء السابقين ومواقفهم، على أنها نصوص أو مواقف فكرية، موضوعية محايدة، ولا أن نفترض أنها منفلتة عن مدارها البيئي، أو منبتة من إطارها، سواء النفسي أو الاجتماعي، فضلاً عن أن نظنها محلقة فوق سقف نظام الثقافة والمعرفة القديمة. الثالث: من أجل ذلك ينبغي الحذر، من السير في هذا الطريق الوعر، من غير بوصلة دقيقة، يجلوها الإنصاف واحترام الحقيقة، والورع العلمي، الذي ينجي من المجازفة، التي تعتمد على أنصاف المعلومات، أو على الأراجيف وروايات الخصوم، أو على روايات الذين يلونون الروايات بمشاعرهم، التي تجر إلى ترك التبين في التبديع والتكفير، فيغرق الناس في بحر لم يسبروا غوره. فهل يظل صاحب الرأي العلمي أو الأدبي، متهماً في عقيدته، أو معرضاً للقمع، أو للقتل، بسيف التبديع والتكفير، حتى تصبح آراؤه وفروضه قطعية الثبوت، لدى الرأي العام، ولو بعد عشرة قرون؟ وهل العلوم تتكون من بيانات يقينية أو متينة؟ أم أنها كما يقول الفيلسوف البريطاني كارل بوبر "تزخر بتوقعات ونقلات متسرعة" وتمتلئ بالفروض التي تختلط فيها الحقائق بالأوهام، التي لا يمكن فرزها" إلا بتواصل البحوث والتجارب، والتفكر والحوار. وكيف يستطيع الباحث أن يبدع، إذا كانت سيوف القمع والتشويه والتسفيه، تحاصر ملاحظاته وفروضه وتجاربه؟ وكيف يتصرف أمام مواقف قمعية، ناتجة عن عدم فهم المجال الذي يشتغل فيه؟ الرابع: هذا يؤكد على أننا بحاجة الى فهم صحيح للدين، وإدراك متين، لسعة أفق الإسلام، وبوصلتنا هي مفاهيم القرآن الكريم والسنة النبوية، لاكتشاف العقلانية الإسلامية العملية والحرية الشرعية معاً، وإن لا فإن البحث والعلم والابتكار والإبداع بل والهوية، ستهوي بها رياح التخلف في واد سحيق. * كاتب سعودي.