وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    أمين الشرقية يدشن مجسم ميدان ذاكرة الخبر في الواجهة البحرية    برعاية وزير النقل انطلاق المؤتمر السعودي البحري اللوجستي 2024    جمعية إسناد تنفذ مبادرة نسمعهم لمستفيديها ذوي الاعاقة السمعية    المراكز الصحية بالقطيف تدعو لتحسين التشخيص لضمان سلامه المرضى    نائب الشرقية يتفقد مركز القيادة الميداني للاحتفالات اليوم الوطني    جيش إسرائيل يؤكد مقتل الرجل الثاني في حزب الله اللبناني إبراهيم عقيل    المركز الوطني للأرصاد يحذر من المعلومات الفردية غير الرسمية عن مناخ المملكة    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    إسرائيل - حزب الله.. هل هي الحرب الشاملة؟    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قراءة في الخطاب الملكي    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    التزامات المقاولين    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحرير جنوب لبنان : الحدود القلقة والمقلقة بين المناورة والمغامرة
نشر في الحياة يوم 10 - 07 - 2000

المناورة عامة، وفي السياسة خاصة، هي ان تطلق موقفاً أو تقوم بإجراء أو حركة ميدانية، ويفهم الآخر المقصود - الخصم أو الصديق أو الحليف - انك تريد امراً بعينه، فيذهب الى تفادي ما يترتب عليه من آثار تطاوله، أو يجهز نفسه باللازم للمواجهة، أي يفاوض او يقبل التحدي، في حين انك قد تكون قاصداً غير ما أعلنت أو ما فهم مما أعلنت، مع غيره أو من دون غيره... ولكنك تلتف على مقصدك من طريق آخر، فتصعِّد مثلاً، كأنك تريد ان تقول للخصم أو للآخر، استعد للمواجهة، في حين انك تقصد ان يتنازل الخصم، المتقدم أو المتراجع عن بعض مكاسبه أو يقبل بهزيمته أو بمقدار اضافي من التراجع.
من دون ان يكون ذلك مانعاً من ان تنفذ ما تعد به او تتوعد، ان عاند الخصم... وقد تخسر وقد تربح، تخسر اذا كانت قد أخذتك نشوة النصر الى نزوة المنتصر، فتتحول من النصر الكبير أو الصغير، الى المبالغة في قدراتك، أو المبالغة في التقليل من قوة الخصم الثابتة أو المتبقية له بعد انتصارك المحدود عليه، أو الذي قد يكون كبيراً من دون ان تكون الهزيمة الفعلية مساوية له - حال اسرائيل وهزيمتها الأقل اطلاقاً بالنسبة الى النصر المتحقق للطرف المقاوم والذي هو، على محدوديته أقرب الى الاطلاق وليس مطلقاً-.
وما ان يكتشف الخصم المناور عليه، عدم قدرة المناور على تحقيق الهدف أو عدم نيته في ذلك، ويرتب أوضاعه ويحتاط للأمر، يفاجئك، وقد تربح اذا ما كان تقديرك دقيقاً، أو كانت حسابات التراجع في موقفك مأخوذة في الاعتبار، فتتراجع في اللحظة المناسبة، محتفظاً بمكاسبك اذا ما تبين لك صعوبة او استحالة او ارتفاع كلفة تحقيق المزيد، أو اذا بلغت بعض مطالبك بشكل مجز. وهذا كله مشروط بالتناسب بين قدراتك الموضوعية والذاتية، وبين الموقف الذي تعلنه والهدف الذي تسعى اليه او تناور من اجله. فإن كان الهدف اكبر بكثير من هذه القدرات، أو كان بحجمها أو اقل مع وجود موانع من تحقيقه، كأن يكون موعده أبعد مما ترى، أو لأنه يترتب على تحقيقه انقلاب في الواقع يجعلك في موقع المغامر أو المقامر بذاتك أو بمن حولك من المتصلين بك عن قرب أو "بعد، بموجب انماط العلائق السائدة، وطنياً أو دينياً أو اجتماعياً، أو انظمة المصالح بين الجماعات المكونة للاجتماع الوطني العام، والتي تلتقي في أمكنة وتتفارق في امكنة اخرى، وحفاظاً على عليها لا بد من مراعاة الحدود الثابتة بينها... كأن يراعي المسلم في لبنان أو المسيحي مصالح الطرف الآخر، لأنها تدخل تحت السقف الوطني في مصلحته الذاتية المشروطة طبيعياً بمصلحة الآخر، ما يعطي للتنازل طابع الربح خصوصاً اذا ما تم من خلاله تلافي العنف.
والى الجماعات الوطنية الشريكة، لا بد من مراعاة مصالح الاصدقاء والجيران والحلفاء، فضلاً عن الأهل المعنيين بالشأن، سياسة واجتماعاً، سلماً وحرباً... وهؤلاء المتصلون بك عن قرب أو عن بعد، قد لا يستشعرون في ذاتهم أو واقعهم وظروفهم وأولوياتهم، أسباباً وامكانات تشجع على تحقيق الغلبة التامة على الخصم المشترك، أو الاستمرار في رفع منسوب الغلبة النسبية المتحققة الى نهايتها المنطقية، لأن هذه النهاية مؤجلة، ومن شأن التوهم بتحقيقها ان يقضي على المتحقق منها، أو قد يكون المتصلون بك على نصاب أو أنصبة من المشاركة والشراكة، يرون ان تراجع الخصم امامك خطوة نوعية او خطوتين لأسباب يعرفونها أو يقدرونها، ولكنهم لا يبالغون في سلبه أسباب الصمود ودواعي التجاوز لواقعه إذا اما استفز ليستنفر احتياطياته، التي قد تكون كبيرة، كالسلاح النووي مثلاً أقصى وأسلحة الدمار الشامل مثلاً أدنى وان لم يكن هيناً في لحظة يكون فيها العدو أو الخصم القوي المهزوم نتيجة قراءته الخاطئة للمشهد واحتمالاته، قد بدأ يرى نفسه مطالباً بما هو أكثر من التراجع التكتيكي او الاستراتيجي، وأكثر من الكف عن العدوان بخوض الأنحاء، أي ان وجوده قد أصبح مهدداً في أصله... من دون ان يعني ذلك اننا نسلم بأن وجوداً كوجود الكيان الاسرائيلي أو الدولة العبرية، هو وجود مطلق وأبدي. وقناعتنا انه وجود مسكون ومحشو حشواً بعوامل الزوال، ولكن الاستعجال في ازالته يؤدي الى اطالة عمره.
وعلى العموم، فإن العقلاء في السياسة والتجارة والحرب وذوي الخبرة والاطلاع والمعرفة بالتاريخ القديم والحديث، يشترطون حتى تستقيم الأمور، أن يكون هناك درجة من التناسب بين المناورة ومؤهلات الطرف المناور والظروف المصاحبة للمناورة، وقلة التناسب أو انعدامه، يؤدي الى الانكشاف وفقدان الصدقية، فضلاً عن انه يثير مخاوف الاصدقاء والشركاء والجيران والحلفاء الذين لا تتطابق تطلعاتهم وتوقعاتهم تماماً مع توقعات وتطلعات شريكهم أو حليفهم المنتصر حزب الله في مثالنا الآن يلاحظ انه المتصدر عن جدارة للمقاومة وانجازها العظيم في التحرير فيطرحون خلافاتهم جانباً.
ويتفقون على منع الخسائر التي تطاولهم جميعاً وان بتفاوت لا يسوِّغ الافتراق، وينقلب التحالف أو الشراكة أو الاختلاف على التفاصيل بعد الاجماع على الأصول المقاومة الى عداوة أو عدوان، فينفجر الصراع الداخلي، خصوصاً اذا كان الداخل لا يزال موصولاً بذاكرة الحرب وبالخارج كما في لبنان ويحبط ما تحقق من نصر على العدو، فضلاً عن تأثيره في ابعاد الهدف المناوَر عليه، والبعيد نسبياً تحرير فلسطين الى مدى أبعد، او الى مدى غير منظور، بعدما كان بالامكان ان يكون منظوراً وان كان بعيداً.
وهو تحرير فلسطين وان كان هدفاً أو مشروعاً اسلامياً او قومياً، الا ان له شروطاً وطنية فلسطينية وعربية، وهذه الشروط مشروطة ايضاً بخصوصيات الاجتماع الوطني العربي والدولة الوطنية العربية، هذه الخصوصيات التي تمنع التكرار، تكرار المقاومة والنصر الملائم لها في لحظة ما، كاللحظة اللبنانية. من دون ان يكون المانع مطلقاً، أو يكون التكرار مختلفاً في آلياته ومظاهره وتعبيراته عن المثال الخاص اللبناني مثلاً.
وقد يخضع المناور، اذا كان مناوراً حقاً، لأنه اذا لم يكن مناوراً في بعض الحالات كحالنا في لبنان الآن فإن المسألة تصبح بحجم الوعد بالكارثة. وهنا يكمن الفاصل المنهجي بين الايديولوجيا التكليف الشرعي في التعبير اليومي والسياسة التي يجب الاّ تكون بالضرورة منزلة على المراوغة.
ولكنها لا بد من ان تبقى محكومة بذرائعية مشروعة ومضبوطة بالايمان ونظام القيم الدينية، اذا كان المتصدي لها دينياً، وان كانت العمومية الدينية لا تسوغ اهمال الوقائع الطائفية أو المذهبية أو الوطنية، بل هي تؤكدها الا اذا كنا شباباً مثاليين تأخذنا الحماسة الى سوريالية نضالية حافلة بالمخاطر. اذاً فالمناور قد يخضع، أو لا بد من ان يخضع من قبل الشركاء المعنيين والملحين على المشاركة، للمساءلة عما اذا كان المتوافر من الاسباب كافياً لتحقيق الهدف الكلي تحرير فلسطين المعلن في منطوق المناورة فضلاً عما تحقق من هدف جزئي كبير في جزئيته ويستأهل ان يعتبر محطة على الطريق الطويل جداً نحو الهدف الابعد والكلي في موعده لا خلال عشر سنوات مثلاً - وان كان الموعد هذا لا يشكل استحالة وللقائد الذي يطلق موقفاً ناوياً أو مناوراً ناظراً الى امكان تحقيق هدف المناورة بالسياسة بدلاً من الحرب التي قتضيها ظاهر الخطاب المناور، وسواءً كان هذا القائد متديناً أو غير متدين، مادياً محضاً أو علمانياً عاماً، ان يستحضر غيباً ما، اي امداداً أو مدداً غيبياً كما في الأدبيات الثورية الاسلامية الايرانية المستنبطة من النص القرآني أساساً، وهذا شأن كل من لا يصل في المقارنة بين المشهد وخلفياته، الى اكتشاف أو كشف التطابق بين الاسباب الظاهرة والمسببات، فيرى الأسباب في مستوى دون مسبباتها، أي ناقصة حجماً عنها، فيفترض ان هناك سراً اكملها فاستكملت تأثيرها، غاية الأمر ان هذا السر في المنطوق الديني هو سر الهي، غيب، مدد، وفي الفكر الوصفي، هو سبب غير منظور ولكنه قابل للنظر والادراك الموضوعي.. وبعضهم، حتى الأكثر عتواً في ماديته من القادة التاريخيين - ستالين مثلاً - لم يكن يهمل أو يستهتر بالبعد الغيبي تماماً... في رؤية انطوان تشيخوف نقاتل معاً لننتصر والتي ترجمها المرحوم الياس عبود في الخمسينات، وطبعت مرة واحدة لأن اليساريين العرب كانوا اكثر ستالينية ومادية من ستالين، كان - بحسب الرواية - على الجنود الروس في جبهة البلطيق ان يسلكوا الموانع المائية المتجمدة سيراً مواجهين احتمال انكسار الجليد والغرق، وتشاور القادة الميدانيون الشيوعيون فاتفقوا على ان أفضل وسيلة لإزالة الخوف من نفوس الجنود الشيوعيين، هو الغيب، أي استدعاء عدد من كهنة الكنيسة ليحثوا الجنود على العبور ويمنوهم بآخرة طيبة ان هم استشهدوا، ولكن القادة خافوا ان ينكشف لستالين آن في عقولهم بقايا من فكر غيبي فيعاقبهم عليه، ولكن احدهم كان اكثر جرأة ومعرفة بعقله وعقل ستالين فأبرق له بالأمر فأجابه ستالين بسرعة نموذجية موافقاً ومشجعاً على الاجراء، وعبر الجنود وحاربوا النازي وانتصروا. غير ان الغيب قد يكون كامناً كثيفاً أثيراً أو مستأثراً، في تكوين المحارب، كما في حال الغالبية الساحقة من مجاهدينا وجنودنا العرب والمسلمين عموماً، وفي حال مجاهدينا الذين تربوا ميدانياً على المثال الايراني في الثقة بالله والنزوع الى الشهادة، وهم في الأ صل مولودون ومرتضعون وشابون وقاطنون وعائشون في مناخات من الروح والمعنى والروحانية الموصولة بجغرافية وتاريخ ورياح وروائح النبوات والشهادات، ولكن هذا الكمون العميق للغيب، لا يصل به الى حد ان ترتب عليه أهداف استراتيجية مستقبلية، وعليه بالمعنى الحصري... وهل يجوز القياس على مثال تاريخي في هذا الشأن؟
هناك نص قرآني على المدد الغيبي في موقعة بدر الكبرى معروف، ولكن قراءة هادئة لمقدمات المعركة ومجرياتها تؤكد ان الرسول الأكرم ص والمسلمين معه، كانوا على عناية شديدة بالأسباب الموضوعية! وقد توقف الرسول ص ملياً عندما لاحظ عدم التناسب في العدد والعدة، بين المسلمين ومشركي قريش 330 تقريباً الى 950 تقريباً فأراد ان يستكشف الأسباب أو الحوافز الذاتية التي من شأنها ان تعدل في التعاون الموضوعي، ملتمساً لأصحابه العذر ان احجموا، بكون العهد بينه وبينهم على حماية المدينة لا القتال خارجها، وهم لم يخرجوا للحرب وانما لاعتراض قافلة قريش العائدة من تجارتها طموحاً الى استرداد بعض حقوقهم المسلوبة من قريش، وسمع الرسول ص من المهاجرين كلاماً يؤكد عزمهم على القتال اذا ما اختاره الرسول ص ولكنه ألح على معرفة موقف الانصار، لأنهم معنيون أكثر بالنتائج ولأنهم بالتالي سياج القاعدة الآمنة للمشروع والمهاجرين من أجله، فلما أطمأن الى قرار الأنصار أخذ قراره... وناوروا عندما طلبوا الى الرسول ان يقود المعركة من بعد نسبي، من خيمة نصبوها له حيث يشرف على الميدان، حتى يسلم اذا انتصروا ويكمل معهم، ويسلم اذا انهزموا ويكمل مع المنتظرين في المدينة الذين لم يتقاعسوا لو أنهم علموا ان معركة هي في انتظارهم، وناوروا عندما سألوه عن الموقع الذي اختاره لعسكره ان كان وحياً أو خدعة، فقال: انه خدعة فطلبوا تغييره الى موقع البئر حيث نُميه ولا يُميهون.. وكان النصر الذي تحقق بالغيب والشهود، بالملائكة وبقدرة القلة على ان تتحول الى كثرة من حيث تأثيرها اذا ضمنت شرط الايمان والهدف الواحد والقيادة الواحدة وعدالة قضيتها.. وبعد بدر كانت احد. وكانت الظروف الموضوعية قد تقدمت لمصلحة المسلمين، كما كانت الظروف الذاتية والمعنويات قد ارتفعت بعدما ذاقوا حلاوة النصر في بدر.. ولكن الحساب لم يكن دقيقاً، أو لم يستمر على دقته حتى النهاية، وبقي اكتمال النصر مشروطاً، وعند تم التراخي أو المخالفة استجمع المنهزمون اسبابهم ولطفوا هزيمتهم وكادوا ان يحولوا النصر الى هزيمة لولا لطف الله وحكمة الرسول ص.
ومعلوم ان اليهود قد استغلوا النكسة في احد في سبيل تقويض المشروع الأعظم الرسالة ولم يفلحوا الا جزئياً ولدى عدد ضئيل من ضعاف النفوس وبمساعدة المنافقين، الذين يؤمنون ظاهراً مع النصر ويكفرون علناً مع الهزيمة. ولا أحد ينفي الغيب عن أحد وفيها، لأن الموجبات فيها كالموجبات في بدر، غير ان الغيب ليس هو النصاب الكامل والوحيد، وانما يدخل في نصاب مركب من الشهود المتعدد المستويات، والا تحول التاريخ الى سياق جبري يبطل السببية الطبيعية والسنن التاريخية ويحبط الأجر والثواب، والقرآن صريح في التشديد عليها في بعديها الموضوعي المادي "وأعدوا لهم ما استطعتم" والموضوعي الأقرب الى الذاتي أو الذاتي الأقرب الى الموضوعي "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" و"إن تنصروا الله ينصركم".
وفي حنين كاد الاغترار بالكثرة ان يفسد الأمر لولا الاحالة الضرورية على الغيب وجعله - جعلاً - مرجحاً أو مصوباً أو مسدداً أو مفعلاً حقيقياً للأسباب الموضوعية. الى ذلك فإن هذه المراحل والمحطات من بدر الى احد الى الأحزاب الى الفتح مروراً بمؤتة والمعارك الصغرى والكبرى والسرايا والبعوث والغزوات، أعقبتها وعلى الفاصل بينها وبين الفتح عملية صلح الحديبية التي كانت مناورة بالمعنى الكامل، والتي صححت مفهوم المناورة من حيث احتمالها للخلو من المعنى أو الضابط الأخلاقي، فكان فيها تنازل ظاهري من طرف الرسول "ص" مع التزام حقيقي بمقتضاه حتى بالشروط القاسية ومن دون تدقيق كثير في مدى التزام قريش بموجبات الصلح حتى كان ذلك كله من اسانيد اعتبار الصلح من أهم العوامل والمقدمات الموصلة الى نصرالله والفتح.
قياساً على ذلك، مع تأكيد الفارق أو الفوارق، استئناساً لا استدلالاً، قد نكون مدعوين الى استنفاد اطروحة التسوية او السلام العادل والشامل، أو قليل نسبة العدل والشمول بمقتضى التناقض الذي يحكم معادلة الصراع مع اسرائيل، ونستنفد الأطروحة بتحقيقها أو باليأس المبرر منها، وقد يتيح لنا تحقيقها فرصة اخرى من موقع الاضرار لا الاختيار، بعدما ضيعنا فرصاً كثيرة، وبعدما شكل النصر في جنوب لبنان تعويضاً جزئياً كبيراً من شأنه ان يكون معداً لمسار مختلف من دون مبالغة أو تفريط، ويمكن لتحقيق التسوية ان يفجر تناقضات العدو ويساعد على حل تناقضاتنا عندما يضعنا امام خيار أو تحدٍ في اطلاق عملية تنمية جادة على معطيات ورؤية واضحة وانكشافات لا مجال لسترها، واطلاق العملية السياسية والاجتماعية والثقافية الى مداها، واطلاق المخزونة والمكبوتة والمختزلة في دول وأنظمة تستهلك نفسها وتستهلكنا بالاختزال والمصادرة والمراوغة.
الى ذلك فإن هناك ضرورات للأنظمة هذه، هي مسؤولة عن ايصالها الى مستوى الضرورة، من دون ان يكون ذلك اعفاء للأمة أو للشعوب من مسؤوليتها، وهناك خيارات للأمة أو للشعوب، وضرورات الأنظمة آنية وخيارات الأمة استراتيجية، ولكن هناك مساحة للقاء الضرورة بالخيار وللآني بالمستقبلي، أي انه يمكن ان تصبح بعض ضرورات الأنظمة ضرورات شعبية وبعض خيارات الأمة أو الشعوب العربية خيارات للأنظمة، أي اننا قد نكون على أول الطريق في اعادة انتاج نظام عربي مختلف اذا ما احسنا السجال أو الحوار بين الأنظمة واجتماعاتنا العامة على مقتضيات التسوية أو السلام... وهذا ليس استيعاداً للغيب، ولكن الغيب الذي حضر في الكثير الكثير من محطات حياتنا وتاريخنا، لا يجوز ان يكون استقالة أو يكون خلطاً بين التوكل والتواكل، والغيب يبقى متوقعاً كعامل غير عادي ضمن منظومات الاسباب، وعندما يتحول الى واقعة فإن من شأنه ان يزيد عزيمتنا على تهيئة الأسباب الموضوعية للمرحلة التالية مزودين بالايمان المكثف بتثبيت الأقدام من قبل المولى عز وجل.
لم يكن الامام الخميني يشكو من كثافة الغيب في رهانه على النصر، ولا الشعب الايراني في حربه مع العراق كان قليل اليقين بالنصر، وقد تحققت على مدى سنوات من هذه الحرب انتصارات عظمى، ولكنها لم تكتمل. وفي كلام الامام أثناء قبوله لقرار مجلس الأمن اشارات الى أسباب موضوعية أجبرته على قبول القرار احتياطاً من تراكم الخسائر.
وفي المعلومات ان فتوراً اصاب ادارة الحرب الايرانية في اعدادها للظروف والمستلزمات الموضوعية للحرب، في حين كان العراق يضاعف من جهوده في الاعداد، وان كانت ايران أثناء الحرب قد أفادت افادات ما زالت آثارها باقية في بناء الدولة وتحشيد المجتمع حولها، واكتساب لياقات في السياسة والادارة والعلاقات الدولية ملحوظة حتى الآن، أما العراق فقد غره خروجه من الحرب على شبهة انتصار دفعته الى المقامرة بالعراق والكويت والأمة من ورائهما، فتحول اصدقاء العراق بفعل حكامه الى اعداء، واستكمل تدمير الكويت بدمار العراق، ثم أعيد بناء الكويت على جراح لا تندمل وخسائر لا تعوض، من دون ان يلوح في الأفق ما يعوض الأمة والعراق عن العراق، ولعله يخطئ من لا يقرأ مفاصل ضعف العرب في عملية التسوية منذ مدريد الى اوسلو، في نتائج حرب الخليج الثانية... وانه لشديد الوضوح كم ان النصر الذي تحقق في جنوب لبنان مؤهل لأن يترك آثاراً ايجابية حاسمة على عملية التسوية وشروطها، شرط التواضع المسؤول، والخيلاء على العدو لا على الذات، وشرط الكف عن التعميم والاطلاق والمساواة بين الظروف والمعطيات غير المتساوية وترتيب نتائج متناظرة ومتوازية على معطيات متفاوتة، وشرط الكف عن التفسير الغيبي الصرف والحصري لما حدث، لأن الدين في الأساس شهود وغيب لا يلغي احدهما الآخر.
ان الدهشة العربية المحكومة بالشوق العربي المحبط تاريخياً، الى نصرا، بحجم النصر الذي تحقق في جنوب لبنان، والحب العربي والاسلامي للمقاومة وفعلها وانجازها، أمور يجب الحفاظ عليها والاحتفاظ بها، ومن شروط هذا الحفاظ نرتب عليها مشروعاً قومياً، هو ممكن من دون شك، ولكن لم يصبح ناضجاً بعد، ولا بد من انضاجه، وتشكل المقاومة بنموذجها اللبناني احدى روافعه، أهم روافعه، ولكنها ليست رافعته الوحيدة. ولدي تساؤل اختم به... هل كان الرسول ص قابلاً للقبول بمسارات وسياقات الفتح بكل تفاصيلها بعد العهد الراشدي، أم انه كان سيغلب الانجاز الحضاري المترتب على تحرير الجزيرة والطوق الذي حولها باعتباره سياجاً لها، من ايران الى مصر مروراً بالشام، كركيزة للدعوة الى التحرر والانعتاق والعدل على أساس الايمان؟
آن للمنتصر ان يناور على العدو والمنهزم، ولكن المناورة ليست مقدمة للمغامرة، وهذا يقتضي مزيداً من الاحتياط والحذر والحساب الدقيق. واذا كان كلام قيادة المقاومة الاسلامية عن المشروع القومي العابر للوطن اللبناني والدولة اللبنانية والاطار الطائفي المعهود للمقاومة، والذي لم يعد موضع اعتراض بعد الانجاز الكبير، كلاماً جاداً، اي برنامجاً يقتضي ابقاء السلاح في يد المقاومة بصرف النظر عن مشروع الدولة اللبنانية ومستلزماته ومستلزمات ترسيخ السلم الأهلي في لبنان والوحدة الوطنية التي كانت المقاومة من أهم اسبابها الموجبة والفاعلة... اي اذا لم يكن الكلام مناورة عظيمة ومفهومة ومدروسة، فإنه يتحول الى منعطف سلبي لا تخفى مخاطره.
* كاتب ورجل دين لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.