«الاحتلال» يصعد جرائمه في جنين.. مقتل مدنيين وإصابة مسن في هجوم إسرائيلي    ولي العهد يتلقى اتصالًا هاتفيًا من وزير الخارجية الأمريكي    فرص تطوعية إسعافية لخدمة زوار المسجد النبوي    وصول الطائرة الإغاثية السعودية الثانية عشرة لمساعدة الشعب السوري    بعد إعادة تصنيف ترمب للحوثيين «إرهابية».. الحكومة اليمنية تطالب المجتمع الدولي بإجراء مماثل    تجمع القصيم الصحي يستعرض برامجه التدريبية والتأهيلية في ملتقى فرصتي 4    نمو قطاع خدمات الإقامة والطعام بالمملكة 10٪    رابطةُ العالَم الإسلامي تُدين هجومَ قوات الاحتلال الإسرائيلي على مدينة "جنين" في الضفّة الغربية    هطول أمطار متفاوتة الغزارة على معظم مناطق المملكة.. ابتداءً من اليوم وحتى الاثنين    استراتيجية جديدة ونقلة نوعية قادمة لاتحاد التايكوندو    «أكاديمية الإعلام» تبحث تطوير الكفاءات الوطنية    «عكاظ» تكشف تفاصيل السياسة الوطنية للقضاء على العمل الجبري    ولي العهد للرئيس الأمريكي: توسيع استثمارات السعودية مع الولايات المتحدة ب 600 مليار دولار    اتحاد بنزيما «شباب وعميد»    بين «الجوادي» و«الحاتمي».. أحلامُ خيطٍ رفيع    حرائق أمريكا.. هل من مُدَّكِر؟!    الفيصلي يستقبل الجبلين.. وجدة ضيفًا على الجندل    مهرجان الخرج للتمور    اعتماد 1250 مخططًا للمشاريع السكنية خلال 2024    أفراح آل حسين والجحدلي بزواج ريان    الزميل رابع سليمان يجري عملية جراحية    عاصم يحتفل بقدوم عمر    السعودية تستعرض ثمار رؤيتها 2030    أمير الشرقية يستقبل الفائزين من "ثقافة وفنون" الدمام    مدير الأمن العام يستقبل نظيره الجزائري    1000 معتمر وزائر من 66 دولة هذا العام.. ضيوف» برنامج خادم الحرمين» يتوافدون إلى المدينة المنورة    رئاسة الحرمين تفعّل مبادرة «توعية قاصدينا شرف لمنسوبينا»    أمانة الشرقية تنجز مشروعات تطوير الطرق    البازعي ل«عكاظ»: الجيل الحالي نشأ في فضاء أكثر انفتاحاً ووعياً بأهمية الحوار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالسويدي ينهي معاناة مراجع مع مضاعفات عملية تحويل المسار بجراحة تصحيحية نادرة ومعقدة    3587 عملية قلب مفتوح وقسطرة في صحي جازان    مستشفى الرين يحقق قفزة نوعية في «2024»    مختل «يذبح» جاره في مصر.. مصدر أمني ل«عكاظ»: القاتل يهذي بكلمات غير مفهومة    تسويق الأندية الرياضية الأربعة الكبار    سعود بن نايف يكرم الداعمين لسباق الشرقية الدولي للجري    قرعة كأس آسيا تحت 17 عاماً تسحب اليوم    القيادة تعزي الرئيس التركي في ضحايا حريق منتجع بولو    شهقة ممصولة    سليمان المنديل.. أخ عزيز فقدناه    وصية المؤسس لولي عهده    ندوة الإرجاف    المجتمع السعودي والقيم الإنسانية    ثقافة الابتسامة    مسؤولون: الجيش الأميركي يستعد لإرسال 1500 جندي إضافي إلى الحدود    هندسة الحروب بين الشعوب!    وزير العدل يلتقي السفير الصيني    نموذج الرعاية الصحية.. الأثر والرعاية الشاملة !    مستشفى الملك فهد الجامعي يجدد اعتماد «CBAHI» للمرة الرابعة    الفن التشكيلي السعودي في كتاب    "لسان الطير"    اختتام المخيم الكشفي التخصصي على مستوى المملكة بتعليم جازان    "ملتقى القصة" يقدم تجربة إبداعية ويحتضن الكُتّاب    أعمال العنف تؤكد رغبة إسرائيل في تعزيز الاستيطان    رابطة العالم الإسلامي تعزي تركيا في ضحايا الحريق بمنتجع بولاية بولو    حسام بن سعود: التطوير لمنظومة العمل يحقق التطلعات    بدء أعمال المرحلة الثانية من مشروع تطوير الواجهة البحرية لبحيرة الأربعين    الأمير محمد بن ناصر يدشن المجمع الأكاديمي الشرقي بجامعة جازان    وفد "الشورى" يستعرض دور المجلس في التنمية الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الضحك في زمن البكاء ... أو الشاعر العربي مجروحاً في الحاضر والذاكرة
نشر في الحياة يوم 10 - 07 - 2000

منذ أن أطلق أمل دنقل إشارة عويله النادرة في قصيدته التي نشرها في مجلة الآداب اللبنانية عام 1968، بعنوان "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وطقوس من الحزن تقام في ردهات الثقافة العربية، على امتداد ثلاثين عاماً ونيّف.. ولستُ أدري إذا كان محمد الماغوط، سبق دنقل أو لحقه زمانياً، في ديوانه الجميل الجارح "لا وقت للفرح"، إلا أن من المؤكد أن طقوس الحزن لدى الشاعرين تطلع من مشهد واحد، هو مشهد تاريخي ومعاصر في آن.. فالكائن/ الشاعر/ العربي مجروح أو مغدور من الناحيتين: الذاكرة والحاضر.. وهنا تصبح الهزيمة شبيهة بغيمة سوداء تتحرك في سماء مكفهرة، وتلقي بظلالها على الزهور والأشجار والأنهار والفسحات البيضاء.. فليس الحاضر وحده مدعاةً للأنين، بل التاريخ بأكمله ساحة له وامتداد... ذلك يعني أن مياه نهر التاريخ، تلوّنت بلون اللحظة الراهنة المقهورة للكائن الشاعر، حتى ولو كانت صافية أو زرقاء في منابعها وبعض مراحلها. لقد أصبحت رمادية، لأن لحظة الشاعر رمادية. على هذا يمكن افتراض أن الشعراء يكتبون التواريخ والوقائع، ولهم عليها اقتراحات، كاقتراحات المؤرخين.. إلاّ أنّ افتراضاتهم تنبع من الداخل، دواخلهم، ومن ضغط الأحلام المنتصرة أو المقهورة، أكثر مما تنبع من وقائع الدهور، وتقلبات الأيام، على ما حصلت عليه.
أليس من اللافت، على سبيل المثال، أن يلتقي الشاعران، دنقل والماغوط، في نظرة كلّ منهما، على حدة، الى نهر بلاده العظيم، الرمز: النيل وبردى، نظرة واحدة سوداوية تهكمية بسبب ضغط الهزيمة القديمة على صدر الشاعرين، فيسبق الماغوط دنقل في كتابة قصيدة عن بردى، ... بردى الذي شبَّهه أحمد شوقي بنهر الجنّة أو سادنها رضوان.. يصوره فيها على صورة شيخ هرم ممدد باسترخاء، والذباب يتطاير فوق عينيه، والنمل يكاد يسحب أصابعه وسبحته... ويكاد لا يعرفه، فيسأل المارّة عنه: من هو هذا الشيخ الهشُّ الهرم يا ترى؟0000 يتأثر أمل دنقل بقصيدة الماغوط، ويكاد ينقلها نقلاً حرفياً في قصيدة له نشرها من بعد نشر قصيدة الماغوط بسنوات ولا أعلم حتى هذه اللحظة سبب النقل الحرفي الذي قام به دنقل لقصيدة الماغوط، مغيّراً اسم النهر فقط في القصيدة، مستبدلاً بردى بالنيل، ومضيفاً إيقاعاً خفيفاً على قصيدته... هذا الإيقاع الذي لم يمتثل له الماغوط في قصيدته النثرية... فخطاب الشاعرين للنهرين خطاب واحد، ومع أخذ النقل بالانتباه، قَهْرُ الشاعرين واحد، وسوداويتهما كذلك.
فالنيل وبردى، كلاهما معلم محايد على الأرض، في صدر الأرض، لكنه ليس محايداً في صدر الشاعر. وكذلك معالم التواريخ والأزمنة والأمكنة. ففي لحظة اعتصار الحزن لقلب الشاعر، يكتب نزار قباني أجمل ما كتبه في حياته "أنّ الدمعَ هو الإنسان".. لكنْ، من وراء غشاوة "الدمع"، يرى قباني الى رموزه التاريخية، بل إلى أشخاصه التاريخيين، رؤية مضببة ولاعِنة... حتى أنّ "حاتم الطائي"، في إحدى هجائياته الحادة للعرب، يغدو بمثابة "نصّاب ونهّاب"... هكذا أفسد حسّ الهزيمة الفادح في صدر الشاعر، كل تواريخه.. هو حسّ مَرَضي إبداعي بلا ريب.. وله ما يشبهه لدى آخرين.
نعود فنؤوب الى أمل دنقل من جديد.. ففي قصائد "أوراق الغرفة 8"، وهي قصائده الأخيرة التي كتبها على سرير الموت، ثلاث قصائد في العبث بالتواريخ، يلتقي فيها - في الدافع أو الهاجس - مع الماغوط ويختلف في الصيغة، هي "بكائية لصقر قريش"، ومرثيّة "الخيول"، و"خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين". ف"الصقر" في الأولى يتحوّل الى "زرّ ذهبي" لا يستجيب "للماشين في أنشودة الفقر المسلّح"، والخيول، في القصيدة الثانية... التي كتبت الفتوحات في الأرض، بدمائها "وحدود الممالك/ رسمتها السنابِكْ"... هذه الخيول التي وسّعت مساحة الجزيرة العربية في الماضي تركض الآن "كالسلاحف/ نحو زوايا المتاحف".
الشاعر يعبث بالتاريخ "المُتْحفي"، وينتبه للواقع الحيّ، فينغمس في عويله.
وفي القصيدة الثالثة تزداد لذعة السخرية لدى أمل دنقل، وكرسّام كاريكاتور، يتناول شخصية تاريخية "فذّة" من التاريخ العربي والاسلامي، هي شخصية صلاح الدين الأيوبي، فيرسمها، بالأسود والأبيض، بعد هزيمة 67 على الصورة التالية، التي لا مزيد عليها في التعبير الشعري المرّ:
"ها أنتَ تسترخي أخيراً
فوداعاً
يا صلاحَ الدين
يا أيُّها الطبلُ البدائيُّ
الذي تراقص الموتى على إيقاعه المجنونْ
يا قارب الفلّين
للعرب الغرقى
الذين شتَّتتهم سفن القراصنة
وأدركتهم لعنة الفراعنهْ...".
لا ننسَ، على سبيل المقارنة، بل استطراداً، أنّ الشاعر اللبناني الياس لحّود، في إحدى قصائده الساخرة، يجذب انتباه القارئ، من "صلاح الدين" إلى جاره "صلاح اللّحام"، مع ما للمفارقة من أثر. فهذه الانزياحات، وما يماثلها، تجاه رموز ذات "ثبات" تاريخي، أو طبيعي، أو لغوي، هي من سمات الحداثة التعبيرية الجديدة.. يحوّر أمل دنقل أحياناً المعنى ويزيحه عن أصله، بتغيير كلمة في بيت مشهور من الشعر، أو إضافة مقطع جديد، لمقطع سابق، فتتحصل من جرّاء ذلك، تلك المفارقة، التي سبق إليها السرياليون، وبالغوا فيها من أجل عبث الفنّ وهوس التغيير، وقوّة النقد وطرافته...
يقول أمل دنقل في قصيدة "خطاب غير تاريخي.." مولعاً بالوقع السياسي للّعبة:
"جَبَلَ التوبادِ حيّاكَ الحيا
وسقى الله ثرانا الأجنبي"..
وفي القصيدة عينها:
"وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني لمجلس الأمن نفسي".
من الواضح أنّ هذه التعديلات، الكليّة أو الطفيفة، التي يقوم بها شعراء على بعض الصُوَر، تصدر بمعظمها عن مصدر المرارة... وهي تعديلات تنطوي على قوّة نقديّة للشعر، متجهة غالباً في اتجاهات أو اندفاعات سياسية واجتماعية وتاريخية.. في حين أن التعديلات السريالية الغربية، وإن لم تنفصل عن الواقع المعاش والتاريخي،،، إلا أنها سَلَكتْ مسالك فنية وتجريبية كثيرة وموغلة في اللعبة، تجلت في الاهتمامات الأسلوبية واللغوية والشكلية.. ومصدر المرارة، لا يعني دائماً الحزن أو الاكتئاب، فربما تلطّف بالصورة، وأثار السخرية، أو، حتى... الضحك.
يقول الشاعر التونسي المنصف المزغني، بعبارة مختصرة، تنتقد مظهر "الديموقراطية" العربية:
"خروفٌ دَخَلَ البرلمانْ
قالَ: ماعْ
فجاء الصدى:
إجماعْ"...
إن السخرية في الشعر، صعبة جداً، بل نادرة، في زمن الأحزان العالية أو "الطويلة كشجر الحور" كما يقول الماغوط. والبحث عن بعض ملامحها، في قصائد عربية لشعراء محدثين، يستدعي حَذَراً... من الطريف، على سبيل المثال، قول حسن عبدالله واصفاً "قيس بن الملوّح":
"وما بين فخذي و فخذي غرابٌ
وليلى طلل".
ووجدت أن لدى الشاعر اليمني عبدالكريم الرازحي، في مجموعته الشعرية "نساء وغبار"، وفي مجموعته القصصية "موت البقرة البيضاء"، هذا الوخز الجميل والخطير معاً، في الصورة والعبارة والفكرة.. وهو وخز يطال المجتمع مجتمعه اليمني، والسياسة، وربما وصل لما هو أبعد من ذلك.. ما استدعى أن يهاجمه خطباء المساجد في صنعاء.. فيطلب اللجوء السياسي الى إحدى الدول الأوروبية...
فقصة "موت البقرة البيضاء" قصة رمزية، عن بقرة بيضاء وما كانت تقدمه لأهالي قرية النجد اليمنية من خدمات حتى كأنها أمهم، وعجلها "نجيم" أخوهم.. ثم ماتت البقرة، فتيتمت القرية، وحولتها العمّة جدولة المجنونة الى أسطورة وتميمة ورمز ومقام، تحكم القرية من خلالها من وراء الغيب "صدقوني: البقرة البيضاء هي التي أرسلتني إليكم وأمرتني أن أبلغكم رسالتها... الويل لمن يعصي شريعة البقرة البيضاء.. وكانت "العمة جودلة" قد أشاعت أن بقرتها تخرج من قبرها في الليل وتذهب الى من سمتهم "بأحباب البقرة البيضاء ليحلبوا لبنها"، وغالباً ما كانت تلوذ بقبر البقرة البيضاء، وتشيع بين أهالي القرية أن البقرة لم تمت "لا تحسبوا أنها ميتة... البقرة البيضاء حيّة ستخرج لتنتقم للمظلومين وتدوس على رقاب الظالمين".
والقصة طافحة بتأويلاتها، ولعلها تمسّ أسس تكوّن الأفكار الغيبية لدى الناس، واختلاط الفكر الديني بمعتقدات الناس البدائيين التي تلامس الخرافة... بأسلوب رمزي ساخر.
ولسعة السخرية الاجتماعية تظهر أيضاً في قصة "الأعمى وعصاه".. حيث عصا الأعمى عينه. لكنه، كان يرى الناس في المدينة، على أنهم هم العميان. وتوطدت أواصر صداقة خاصة بينه وبين عصاه. "قال الأعمى الذي تشبّث بعصاه وقد كاد يجرفه سيل البشر المنحدر من أعلى الرصيف: هل الناس هنا عميان؟ قالت العصا وهي تسحبه بعيداً عن سيل المارة المندفع: إنهم أكثر من عميان. قال الأعمى: ألا يوجد هنا من يقودهم؟ أجابت العصا وهي تغوص في الزحام: بل توجد عصا غليظة تسوقهم"... وينتهي الحوار بين الأعمى وعصاه الى أن الناس في هذه المدينة هم العميان حقيقة، على رغم أن لهم عيوناً واسعة من زجاج، لا يبصرون بها.
وفي "نساء وغبار" تبدو السخرية لدى الرازحي أكثر وجودية وتبتعد بمقدار عن تصويبها السياسي والاجتماعي.
يقول إن "الغبار صاحبه" و"ذبابة الكتابة خطيئته". ويرسم حنجرته وهي تقذف "بلؤلؤ السعال".. ويرى الى الأشجار، وهي "تنظر إليه شزراً كأنه الفأس"، وفي حبه للينا الروسية يكتب "لينا امرأة عظمى/ وأنا رجل من طين"، وفي الوصية يقول: "يا أولادي؟ أوصيكم أن تلعبوا بالنار/ ولا تلعبوا بالحبر/ أن تحرقوا مكتبتي/ وتصونوا أحذيتي" وفي البحر يقول: "صاحبي البحر/ جاء ينام في غرفتي/ في الصباح استحمّ/ واستعار منشفتي...". أما في حذائه، فله هذا المديح الطريف: "لي حذاء قديم/ خبير بوحل الأزقّة/ حذاء بدون ثقوب/ له فكره المستنير/ عيون ترى في الظلام/ وعقل كحدّ الحسام/ يضيء جميع الجهات، ويؤمن أنّ الحوار/ يغيّر شكل الطريق/ ويرفع وعي الجدارْ/... نمتُ نومَ الحمارْ/ وبعد ثوانٍ/ وحين تعالى دويُّ شخيري/ ظننتُ الشوارع تحت سريري/ تهتف عاش الحذاء... فأيقظني في الصباح مواء الأزقّة".
فالسخرية في الشعر مادة خطرة، بل هي أشدّ خطورة من تأجيج الأحزان. الضحك صعب كالبكاء. بل الشعر هو الصعب.
* شاعر لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.