يُقال لا تكتمل الحكمة بالحياة بل باستبصار الموت، كذلك هو الوفاء بين الكائنات الإنسانية الوديعة كطيور النورس أو كزهرة اللوز لا يكتمل ولا نصبح شاهدين عليه نحن والوجود إلا حين يَفقد من يحب حبيبه حتى عندما يُدفن تحت الأرض في عُمقٍ يتكفل بأن لا يعود الجسد مرة أخرى لنا مستقيماً كشجرة وواقفاً كلوحةٍ جميلة على جدارٍ أنيق! أفلم يقل باولو كويلو في إحدى رواياته:"العاشق الحقيقي هو من مات نصفه الآخر ولا يزال ينتظره ولا يبحث عن بديلٍ له فليس للحب الصادق أجلٌ!" بلقيس الراوي محمد الماغوط سنية صالح ورغم أن الحُب ضربٌ من الجنون ومعركة بأسلحة ناعمة كما يقول أوفيد؛ إلا أن حربهُ ومعركته ذات شتاءٍ لذيذ وكل الأطراف فيه منتصرة، فهذا الخدر المنسكب في أوردتنا بفعل الحب موتٌ جميل يغير كل شيء، كل شيء يغيره الحب والوفاء، يجعل من الحياة بسوءاتها ورتابتها ومخازيها الكبيرة شيئا يمكن لنا أن نتحمله، إنه يقلب القوانين والمسلمات على طاولة الحياة، هذا الكائن هو الشيء الوحيد تقريباً الذي يمكن لنا أن نجعل منه قصيدة أو غنية أو لوحة نقدمها حين اللقاء لمن يملك في قلبه قلباً آخر هو لنا بمحض إرادتنا؛ لكن يبقى السؤال المثير ليس للجدل وإنما للتشبث بالحياة الذي يستنطق هو بنفسه عن الإجابات المقنعة هل هناك أوفى من الشاعر عندما يحب وعندما يموت الشيء الوحيد الذي كان يغريه على الكتابة والغِناء والبقاء؟ هل هناك أصدق من الدفاتر التي غمس فيها الكاتب أصابعه كي يكتب شيئاً ناعماً له رائحة عطر أنثى في أواخر الليل؟ بالتأكيد لا! لا هنا ليست النافية أو الناهية وإنما لا المطلقة بكامل اتجاهاتها التي لن تصطدم بشيءٍ ليقلبها لنعم! *الماغوط.. وحيدا من أجل الوصية! رغم الكآبة في الشاعر محمود الماغوط السمين من الحزن والبكاء إلا أن قصة وفائه مع الشعراء ومع زوجته سنية صالح قبل كل شيء تعد نموذجاً رغم سيرة الوجع التي تحيط بحياته منذ أن كان صغيراً، حيث ولد لعائلة فقيرة جداً مما جعله لا يكمل تعليمه المتقدم واقعاً في فترة شبابة في حالة تمرد على الواقع العربي والسوري مسجوناً بتهمة الحقيقة ممارساً كتابة الشعر على لفائف السجائر وهو في المعتقل كما يقول في مذكراته ليهاجر إلى لبنان بعد ذلك ويتعرف على بدر شاكر السياب الذي حين مات ترك ثقباً واسعاً في حياته ويتضح ذلك من رثائيته التي كتبها عنه، قائلاً فيها: تشبث بموتك أيها المغفل دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب فما الذي تريد أن تراه؟ كتبك تباع على الأرصفة وعكازك أصبح بيد الوطن! وقد ارتبط الماغوط بزوجته سنية صالح بعد أن تعرف عليها في بيت الشاعر أدونيس لتنشأ بينهما علاقة حب ووفاء ممتدة ذات نهاية مأساوية ففي فترة الثمانيات التي كانت قاسية وحزينة في سياق عمره، حيث بدأت هذه القسوة والمأساة بوفاة شقيقته ليلى بمرض خبيث ثم والده بعد أقل من عام من وفاة شقيقته ليعقب ذلك وفاة زوجته في نفس العام أيضاً حيث صارعت الألم والجوع والخوف لعشرة أشهر في مشفى بباريس قائلاً الماغوط عن تلك الفترة: حين كانت مريضة، جلست بقربها وهي على فراش الموت، كنتُ أقبّل قدميها المثقوبتين من كثرة الإبر، فقالت لي عبارة لن أنساها: "أنت أنبل إنسان في العالم" حيث أوصته بدقائق قليلة قبل موتها بعدم الزواج من بعدها وأن يكرس الباقي من عمره في تربية ابنتيهما شام وسلافة، ليفعل ذلك بإخلاص حتى بلغوا وتزوجوا وفارقوا البلاد ليفارق هو الحياة كذلك بعد صراع مع المرض دون أن يحضرا جنازته! *منير رمزي: أنا هارب يا حبيبتي! رغم جهل الكثير بهذا الشاعر الشاب الذي مات وهو لم يتجاوز العشرين عاماً جرّاء وفائه لحبيبته التي أراد من الحياة فقط أن تكون زوجته إلا أن حلمه لم يتحقق في قصة حبه المحاطة بالكثير من الحزن والانكسارات؛ يكتب على قصاصة ورق صغيرة جداً بحجم الفرح بداخله أنا هارب!" منتحراً بعدها بطلقة رصاص تاركاً مجوعة شعرية واحدة فقط عنوانها بريق الرماد" إذ يعتبر من أول الأشخاص الذين كتبوا الشعر الحر، ذلك يتبين من قصيدته"حطام" الرثائية الجميلة التي وجهها لحبيبته قبل أن يموت اختياراً والمليئة بالسريالية: وجدت الطريق بلا نهاية فأدرت ظهري وعدت أبحث عن قيثارتي التي تركتها في بدء الطريق عدتُ إليها فوجدت منها حطاماً لكنه: حِطاماً ملتهب ضممته إلى صدر المرتعد ورحت أناجية أناجيه يا حبيبتي بألحان الموت!. *علبة الرويني: يا أمل قاوم! بما أننا في سيرة وفاء الشعراء مع زوجاتهم فإن الزوجات كذلك كن غارقات في الوفاء ولعل من أبرز الشواهد على ذلك هي الناقدة عبلة الرويني زوجة الشاعر أمل دنقل ولا أصدق من وصفٍ لرحلة أمل دنقل الأخيرة من الحياة إلا ما قالته زوجته عن هذا المشهد المؤثر والذي تستذكره كثيراً ليبقى ميراث الحزن بداخلها، لقد احترمت الناقدة عبلة الرويني رغبة أمل دنقل في اختياره لطريقة موته حيث قال لها وبإصرار قبل موته بساعات قليلة: حين ترينني عاجزاً، تمني لي الموت.. فهو رحمتي الوحيدة! بهذه الجملة أطلق أمل رغبته في الموت رغم أنه الشاعر الذي كان يحلم بالمقاومة ويمارسها بكافة اتجاهاتها وفي يوم السبت21 مايو الثامنة صباحاً كان وجه الشاعر الجنوني أمل دنقل هادئاً وهم يغلقون عينيه إلا أن زوجته كان هدؤوها مستحيلاً أمام قسوة هذا الرحيل المؤلم في الغرفة رقم (8) التي قضى فيها أشهراً طويلة.. ليكتب فيها - أيضاً - أشهر قصائده: في غُرَفِ العمليات كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ لونُ المعاطفِ أبيض تاجُ الحكيماتِ أبيضَ أرديةُ الراهبات، الملاءاتُ لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ كوبُ اللَّبن، كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ! فلماذا إذا متُّ.. يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ.. بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟ هل لأنَّ السوادْ.. هو لونُ النجاة من الموتِ لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ ضِدُّ منْ..؟ ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ - اطْمأَنْ بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء الذينَ يرون سريريَ قبرا وحياتيَ.. دهرا وأرى في العيونِ العَميقةِ لونَ الحقيقةِ لونَ تُرابِ الوطنْ! * يا بلقيس: الغمامةٍ تبكي عليك. لا يمكن الحديث عن الوفاء مع الحبيبة والزوجة دون المرور والوقوف طويلاً على الشاعر نزار قباني، الذي علمنا ونحن صغار كيف نكتب كلاماً موجعاً وجميلاً يثير شهوتنا نحو الحياة ويزرع في قلوبنا الجافة زهور وحدائق وفراشات، فقد تزوج نزار مرتين في حياته الأولى من ابنة عمه والثانية هي العراقية بلقيس الراوي إلا أنها في عام 1982 قُتلت في انفجار السفارة العراقية ببيروت، وترك رحيلها أثراً بليغاً وعميقاً بداخله دون أن يجرب النسيان ويتزوج بامرأة أخرى، مكرساً نفسه في محاربة كل الأشياء التي تسببت في قتلها باللغة والشعر وحدهما: بلقيس .. يا وجعي.. ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل هل يا ترى.. من بعد شَعرك سوف ترتفع السنابل؟ بلقيس لا تتغيبي عني فإن الشمس بعدك لا تضيء على السواحل بلقيس.. مذبوحون حتى العظم والأولاد لا يدرون ما يجري ولا أدري أنا.. ماذا أقول؟ هل تقرعين الباب بعد دقائقٍ؟ هل تخلعين المعطف الشتوي؟ هل تأتين باسمةً.. وناضرةً.. ومشرقةً كأزهار الحقول؟