لبنان. بعض صور. مواطنة لبنانية شابة. صحافية بالمناسبة. ترددت صورتها حول العالم نقلاً عن وكالة الانباء الفرنسية. المواطنة الشابة جرى تحريرها للتو من سجن "الخيام" الإسرائيلي الشهير مع 143 آخرين. بمجرد فرار الاحتلال الإسرائيلي لحق به عملاؤه من ميليشيا انطوان لحد تاركين أسلحتهم وما رخص من ملابسهم. لقد قام خمسمئة مواطن لبناني باقتحام السجن وتكسير أبوابه وسط زغاريد النساء. المعتقلون رأوا ضوء الشمس للمرة الأولى فبعضهم معتقل بلا محاكمة وتحت التعذيب منذ نحو 15 سنة. الصورة هنا لهذه المواطنة اللبنانية الشابة حاملة في يدها اليسرى زجاجة ماء. أما يدها اليمنى فتلوح بها عالياً بعلامة النصر. ربما سنعرف لاحقاً الأهوال التي عاشتها داخل السجن. أما في اللحظة الراهنة فوجهها المبتسم يقول كل شيء. وبيدها إلى أعلى والصليب يتدلى من سلسلة بسيطة في عنقها وإلى جوارها سيدة لبنانية مغطاة الرأس عريضة الابتسامة، في الخلفية شبان لبنانيون مسلحون ومرفوعو الرؤوس. ملفت تماماً انهم جميعاً مرفوعو الرؤوس. ملفت ايضاً ان المواطنة مسيحية. لبنان "بعض صور" في خط الحدود مباشرة بين اسرائيل ولبنان هذه ثلاث مدافع اسرائيلية - برواية وكالة رويترز - هجرها جنود الاحتلال نجاة بجلودهم، في قلب الصورة خمس نساء، احداهن تحمل رضيعاً الى صدرها بيدها اليسرى بينما تمسك بيدها اليمنى طفلتين لها في سن اقل من العاشرة، الاب الناقص في الصورة ربما كان من شهداء الاحتلال او يقوم في تلك اللحظة بمهمة اخرى لتطهير الارض المحررة. لكن الصورة امامنا لنساء واطفال يريدون التأكد باعينهم من مصير احتلال ونهاية كابوس. لبنان "بعض صور" في خط الحدود مباشرة بين اسرائيل ولبنان يقف جندي اسرائيلي متمترس بسلاحه الاوتوماتيكي الموجه الى اسفل، على مسافة مترين او ثلاثة يوجد السياج الفاصل وبعده مباشرة مواطنون لبنانيون متحمسون، بعضهم يرفع علم لبنان، بعضهم راية "حزب الله" وسطهم شيخ يحمل طفلة فوق كتفيه حتى يملأ الطفل عينيه بالمشهد فيتذكره مستقبلاً لو حاول احد "ترويعه او ارهابه بكابوس آخر". لبنان "بعض صور" امرأة لبنانية عائدة لتوها من اسرائيل - عبر الناقورة. قبل الصورة كانت ترتعد خوفاً لأنها أصلاً فرت الى اسرائيل رعباً وخوفاً. المرأة لها زوج يعمل في ميليشيا جيش لبنان العميل لاسرائيل، وغائب منذ أيام في مهمة باسرائيل لا تعرفها هي. في تشوش الانسحاب الاسرائيلي وفراره كادت المرأة تفقد رشدها ففرت من بيتها في بنت جبيل مع طفليها. في اسرائيل وجدت نفسها مع آخرين تنتظر بالساعات "في خيمة ببلد غريب" لا تعرف فيه أحداً ولا يهتم بها أحد - على حد قولها. هكذا انسحبت في هدوء عائدة مع طفليها الى الحدود سيراً على الأقدام محاولة التغلب على الرعب الآخر في داخلها من المصير الذي قيل لها أنها ستواجهه. عند الحدود نقلتها سيارة تابعة للأمم المتحدة الى قريتها. بمجرد أن نزلت من السيارة مع طفليها احاط بها الشباب مقدمين لها زجاجة مياه قائلين لها: لا تخافي فلن يصيبك مكروه. بعد دقائق اصبحت في منزلها وسط اقربائها واحضانهم ودموعهم. اسرائيل "بعض صور" الصحف تنشر البيان الرسمي بانسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان. مع البيان صورة بعرض الصفحة الاولى لجنود اسرائيليين يغمر الفرح وجوههم بينما أحدهم يتحدث في هاتف نقال "العنوان فوق الصورة هو "ماما: غادرنا لبنان". اسرائيل. بعض صور. الجنرال اللبناني انطوان لحد يتحدث بمرارة الى صحيفة اسرائيلية عن خديعة اسرائيلية له: "قلتم لنا دائماً أننا حلفاؤكم، لكنني فجأة ادركت أن اسرائيل لا تبحث إلا عن نفسها" هو سافر الى بيته الآخر في باريس مطمئناً الى أن الوقت متسع. من باريس استمر يتصل هاتفياً برؤسائه في اسرائيل. كله تمام. حتى وهو في مطار باريس عائداً الى اسرائيل. كله تمام. ثم هبط في اسرائيل ليفاجأ بالانهيار - أو هكذا يقول. يقول أيضاً: "لقد ترتكتم الشريط الحدودي من دون وضعي في الأجواء وتركتمونا خلفكم مثل الحيوانات، الآن كل شيء انتهى، الآن لا تنادوني بالجنرال"... له حق، اسمه العميل وليس الجنرال. الصور كثيرة والمفارقات أكثر. اسرائيل لم تتغير. لكن الذي تغير هو لبنان. لبنان في طبعته الجديدة مفاجىء ومدهش للجميع: اصدقاء وخصوم. مدهش حتى لمواطنيه. لا أحد يتوهم للحظة أن لبنان في قوة اسرائيل عسكرياً، أو حتى قادر على منعها من غزوه مرة أخرى كلما ناسبها ذلك. الذي تغير هو المواطن اللبناني نفسه. مواطن سنة 2000 هذا أكثر ثقة بنفسه وبشعبه وببلده. هو لم يحارب اسرائيل رأساً برأس. حاربها رأساً بدبابة. لقد تصرف بسلاح محدود في مواجهة القوة العسكرية الضاربة في الشرق الاوسط بكفالة اميركية. لم يكن مشوار المقاومة مجانياً ولا كان نزهة. كان مشواراً من التضحيات والدمار والخراب والحرائق والدموع. حتى أسابيع قليلة كانت اسرائيل تهدد بحرق لبنان. هي فعلاً قادرة لأنها فعلت ذلك بالضبط مرات عدة من قبل. لقد مارست ضد لبنان عقاباً جماعياً حول الشعب اللبناني كله الى رهائن للقصف المستمر من طائراتها. في إحدى الحملات الاسرائيلية الكبرى قالت اسرائيل صراحة وعلناً وبكل تبجح إن هدفها من القصف العشوائي على مدار الساعة هو ارغام نصف مليون لبناني في الجنوب على الهجرة شمالاً الى العاصمة بيروت سعياً الى الضغط على حكومة لبنان، أملاً في الضغط على حكومة سورية، تعجيلاً للضغط على حكومة ايران، وصولاً الى الضغط على "حزب الله" والمقاومة الوطنية في الجنوب اللبناني فيتوقفوا عن مضايقة الاحتلال الاسرائيلي. لم تفكر اسرائيل أبداً في أن أقصر الطرق هو أكثر استقامة. لم تفكر أصلاً في أن لبنان دولة مستقلة. اسرائيل نظرت الى لبنان دائماً باعتباره ورقة في يدها ولحسابها. وفي سنوات غولدا مائير كرئيسة لوزراء اسرائيل كانت تقول دائماً: "لا أعرف - بعد - من تكن الدولة العربية الاولى التي تسعى إلينا صلحاً. لكنني متأكدة أن لبنان سيكون الدولة الثانية. تعني: اذا كانت المسألة هي لبنان فلبنان في جيب اسرائيل. المهم هو الآخرون". لبنان لم ينظر الى نفسه أصلاً على أنه في جيب اسرائيل أو غيرها. لبنان في جيب اللبنانيين. وبصرف النظر عن ان كل ما ساهم في حرب فلسطين الاولى كان مجرد ألف عسكري ببنادق خفيفة، إلا أن لبنان كان هو الدولة العربية الاولى التي اختارت ان تكون في حالها وتترك اسرائيل لحالها. لبنان عربي. طبعاً. لكنها عروبة على الهادي وفي الطراوة ومع المزّات والمشهيّات. واللبنانيون أحبوا الحياة لأنفسهم ولغيرهم. احبوا التفاح والأزياء والموضة والدبكة والتبولة والكبة والمواويل السياسية شعراً وحين ميسرة. أحبوا فيروز وأم كلثوم ووديع الصافي ومحمد عبدالوهاب والمصاري وفرنسا شعراً واميركا نثراً. احبوا في الحياة لونها البمبي والدنيا ربيع الجو بديع و"قفل لي على كل المواضيع". والفتاة اللبنانية حينما تقول "تقبرني" فقد يصاب المواطن العربي الآخر بالخضة والارتباك لأن هذه الفتاة تتكلم بتلك البساطة عن القبر والموت وما أشبه. هي لا علاقة لها بالموت. هي تقول "تقبرني" حباً في الحياة. وغراماً. في تلك الطبعة الاولى من لبنان هو يريد من الآخرين ان يتركوه في حاله ليعيش ويغني ويرقص ويتاجر ويجمع كبوش التوت ليضيع القلب في بيروت ويذهب العقل الى المهجر حى يعود بالمال والنفوذ. الاخرون جميعاً تركوا لبنان في حاله... إلا اسرائيل. فمبكراً تماماً، ومن الدقائق الخمس الاولى لقيام اسرائيل كدولة في سنة 1948 - لم يكن في بال لبناني واحد مطلقاً أن بلده الصغير المسالم هذا بند محوري وجوهري وأساسي في خطط الدولة الوليدة: اسرائيل. مع ذلك، ففي حينها بالضبط كان ديفيد بن غوريون أول رئيس لأول حكومة في اسرائيل يتبادل الأفكار كتابياً مع وزير خارجيته موشى شاريت. أفكار وخطط محورها: علينا أن نبحث عن ضابط ماروني صغير نستأجره لحسابنا في لبنان وندفعه الى اقامة دويلة صغيرة نقوم نحن بدعمها وتمويلها واستخدامها تقسيماً للبنان وضرباً للآخرين. تلك، وغيرها، أسرار اسرائيلية موثقة جرى الكشف عنها بعد سنوات طويلة. حينما تبادل رئيس وزراء اسرائيل رسائله تلك عن لبنان مع وزير خارجيته لم يكن هناك - بعد - جمال عبدالناصر ولا الخميني ولا عرب محيط أو خليج ولا جندي سوري واحد ولا "حزب الله" ولا أيضاً أي وجود سياسي للشيعة ولا نفوذ إيراني ولا حتى طائرة عسكرية لبنانية واحدة يملكها لبنان، ببساطة لأن موارده على قدر الحال ومواطنوه مشغولون بالحياة براً أو بالترحال بحراً الي بلاد الله سعياً الى الرزق. خطط اسرائيل تلك، والسرية تماماً وقتها، لم تكن على بال لبنان مطلقاً. مع ذلك، فخطط الاربعينات والخمسينات حولتها اسرائيل الى برامج للتنفيذ العملي في السبعينات. لقد بدأت الحرب الأهلية في لبنان بفعل فاعل. ثم الغزوة الاسرائيلية الاولى في 1978 والثانية في 1982. وأصبحت اسرائيل في قلب قصر الرئاسة نفسه في العاصمة بيروت. من الدمار والخراب والقتلى بدأ يولد لبنان الجديد. لبنان الذي أعاد اكتشاف معنى الوطن والاسرة والتعايش والمقاومة والتحالفات الصحيحة مواجهة للأخطار المؤكدة. بعد 22 سنة من الاحتلال الاسرائيلي المباشر اكتشفت اسرائيل أيضاً - ولو موقتاً - ان لبنان الضعيف هذا يصبح قوياً بوحدته الوطنية، وبالتمييز بين الحليف والعدو. هي العدو. هكذا لجأت اسرائيل الى الأممالمتحدة بعد طول كراهية واستغاثت بفرنسا بعد طول رفض، وخرجت من لبنان بسرعة، متخلية حتى عن العملاء الذين استأجرتهم هي ضد شعب لبنان. اسرائيل دخلت لبنان بجحة انقاذه فانتهت الى تخريبه. واسرائيل حرضت بعض لبنان ضد بعضه الآخر، ودفعت كل طائفة ضد الأخرى، فانتهت الى توحيد كل لبنان ضدها. واسرائيل عاقبت شعب لبنان جماعياً وأظلمت مدنه فانتهت الى أن تهرب هي في جنح الظلام. واسرائيل هددت بانسحابها في تموز يوليو فإذا بها تضطر صاغرة الى الفرار في آيار مايو. واسرائيل اطلقت على منطقة احتلالها في الجنوب اللبناني اسم "الحزام الأمني" "فأصبحت تلك الأرض تحديداً هي الأقل أمناً بالنسبة الى اسرائيل. لم يكن في القصة لغز ولا سر. كان فيها فقط لبنان جديد يواجه اسرائيل بسلاحه هو وليس بسلاحها. إنها مواجهة بين إرادة القوة في جانب وقوة الإرادة في جانب آخر. القوة تستطيع ان تدمر وتحرق وتحتل. لكنها لا تستطيع أبداً أن تحقق الأمن. لبنان الآن أمامه مهمات جسام للمستقبل. لكن هذا المستقبل يصبح آمناً أكثر إذا استوعب لبنان دروس الماضي. في مقدمها المهمات الملحة الآن اصدار كتاب اسود موثق بالوقائع والصور والأدلة يجب على لبنان ان يذكر العالم به. وأيضاً يذكرّ نفسه به، على مدار الساعة. ملف خلاصته: لبنان ترك اسرائيل في حالها. لكنها اسرائيل هي التي لم - ولن - تتركه أبداً في حاله. فجوهر المسألة من البداية الى النهاية هو أن "الصيغة الاسرائيلية" - حتى اللحظة - لا تزال ترى ان من مستلزماتها الاساسية نفي "الصيغة اللبنانية". تلك قصة أخرى يتظاهر البعض أو يتوهم أنها لم تحدث. لقد حدثت. صوتاً وصورة ووثائق بعد وثائق. لبنان دفع الثمن مرة . لا يجب - مطلقاً - ان يدفعه مرتين. * نائب رئيس تحرير "اخبار اليوم" القاهرية