كان الملك اليمني الأكثر اسطورية الصَعَّب ذو القرنين. يَردُ اسم الصَعّب هذا في قوائم ملوك اليمن كابن للحارث الرائش. وبرهنا في حلقة سابقة أنه كان زعيماً قبلياً صغيراً أو ملكاً من ملوك الطوائف، وتنسب اليه، بالطبع، سلسلة من الأساطير عن غزو الهند وفارس وبابل. حكى صاحب التيجان، ومثله صاحب نشوة الطرب قالا: قال علي بن أبي طالب رض: حدِّثوا عن حمير فإن في أحاديثها عجائب، ومن أعجبها حديث ذو القرنين التيجان: 82، نشوة: 112. وقد نشب نزاع مرير بين العرب قبل الاسلام، ثم استمر معهم مع نزول القرآن، حول شخصية ذو القرنين وهويته ومَنْ يكون؟ افترض بعض الاخباريين المسلمين انه "من العرب" وقيل من العجم ثم اختلف في أيّ العجم كان؟". وعندما سئل ابن عباس رض: مَنْ هو ذو القرنين؟ وهل كان نبياً أم ملكاً من ملوك اليمن كما يزعم اليمنيون؟ أدرك ابن عباس رض بعلمه الغزير وحصافته، نوع المشكلة التي يتنازع فيها المسلمون، إذّ تداخل التاريخي مع الاسطوري فرّد قائلاً: "هو من حمير، وهو الصَعب بن ذي مراثد الذي مكّنه الله في الأرض وأتاه من كل شيء سبباً فبلغ قرني الشمس". وفي هذا المقطع من جواب ابن عباس تداخل واضح بين العنصرين الرئيسيين في المادة الاخبارية: التاريخي والاسطوري. يقع التاريخي في تحديد ابن عباس لشخصية ذو القرنين: فهو الصعب بن ذي مراثد، وقد يكون هذا قيلاً من أقيال اليمن أو ملكاً قبلياً صغيراً من ملوك الطوائف. بينما يقع الاسطوري في تحديد خط حملاته الحربية، فعبارة "مكّنّ الله في الأرض"، لا تنطبق إلاّ على الامبراطور الاسكندر ذي القرنين لا على "شبيهه" الملك اليمني المحلي، المعجب به والمتمثل لنجاحاته الحربية. ولذا يستدرك ابن عباس رض حين يعود احد الفضوليين لسؤاله: فالاسكندر؟ أي: وماذا عن الاسكندر الرومي الذي مكنّه الله، حقاً، في الأرض مشرقها ومغربها؟ قال ابن عباس: "كان رجلاً رومياً صالحاً بنى على البحر مناراً ودوخ المغرب وبنى فيه المدن والمصانع وقد فخرت التبابعة بأن جدَّها ذو القرنين وذكرت ذلك في أشعارها". على هذا النحو أقام ابن عباس رض حدوداً مقبولة بين الشخصيتين: اليونانية واليمنية اللتين حملتا اللقب نفسه. والمثير في جواب ابن عباس اشارته الثمينة الى ان ملوك اليمن، التبابعة، اعتبروا الاسكندر المقدوني جدهم، فهذا يذكرنا بادعاء الأحباش ويهود أثيوبيا أنهم من نسل سليمان ملك اليمن. من الواضح أن هذا الانتساب الى جدّ أعلى، اسطوري، يندرج في إطار البحث عن نسب مقدس. تقول روايات الاخباريين العرب ان ذي القرنين حلم أنه يكتسح الأرض "فلما أفاق رأى جميع الحيوان قد حُشرت له ثم سار فداسَ الأمم" نشوة: 114 وكذلك التيجان: 85، 87. يحيلنا هذا الحلم الى الصورة المؤسطرة لسليمان الملك - النبي. فقد كانت له القدرة على مخاطبة الحيوانات "التي خضعت لسلطانه". إثر الحلم يتحرك ذو القرنين بقواته "يقتل ويسبي فمر على سودان زرق العيون وعلى آخر آخرين آذانهم كآذان الجمال، ثم جاز الأندلس فغلب على اقطارها ثم رام ركوب البحر المحيط". الخ. من المؤكد ان اللقب الذي عُرف به احد ملوك الطوائف في اليمن تيمناً بلقب الاسكندر المقدوني وتمثلاً لانتصاراته، كان مصدر الالتباس والخلط بين الشخصيتين اللتين جرى دمجهما في صورة بطل اسطوري وعجائبي. ويبدو ان المخيال اليمني العجائبي، السحري، والذي أشار اليه علي بن ابي طالب كرم الله وجهه يجسد حقيقة من الحقائق التي كان العرب والمسلمون يدركونها جيداً، إذ امتاز الاخباريون اليمنيون بخيالٍ جامح، وبقدرة مذهلة على توليد صور وأخبار لا نهاية لها مستمدة، اجمالاً، من طاقة دمج خلاقة ينصهر فيها الواقعي- التاريخي بالخيالي والمتصوَّر. وعلى هذا النحو تم دمج صور ملوك الطوائف بابطال الحروب اليونانية - الفارسية. وبالطبع، فقد سحرت انتصارات الاسكندر المقدوني قبائل العرب بشكل عام، ولكنها سحرت اليمنيين بشكل خاص تماماً. فها هو بطل منقذ، مخلص، يأتي من وراء البحار ليزيح مستعبدهم من مسرح التاريخ. لقد كان العرب وقبائل اليمن تحديداً يكنون في اعماقهم مشاعر عداء وكراهية لقسوة الفرس وجبروتهم. ولا شك انهم جدوا في انتصارات الاسكندر المدّوية في الشرق فرصة تاريخية للإفلات من ضغط الامبراطورية الفارسية. وفي هذا الاطار التاريخي تم تخييل مطرد ومتواتر، ومشوق، للانتصارات المحلية في حضرموت وسبأ وريدان وعدن حيث تصارع ملوك الطوائف بعد الحروب اليونانية - الفارسية بوقتٍ طويل أو خلالها فليس هذا أمراً حيوياً. وفي هذا النطاق جرت مطابقة منمقة، ساحرة ومثيرة للفضول بين الانتصار المحلي والانتصار العالمي نجم عنها ظهور مفاجئ لسلالات من الملوك الاسطوريين لا وجود لهم، ومع ذلك يزعم انهم حكموا اليمن وأن أنسابهم تمتد الى سبأ وحمير الأكبر. ولا ريبَ أن تقليداً صلباً من الاخبار الكتابية شق طريقه منذئذٍ، داخل السرد الاخباري العربي، وسوف يطبع بطابعه المؤلفات التاريخية مع الاسلام. وأساسه: رواية مرويات جماعات اخرى، أو أمم مجاورة، أو قبائل منافسة على أنها روايات خاصة تنسب لمن يرويها. مثلاً، تصبح هزيمة الفرس امام اليونانيين، في اطار هذا التقليد الكتابي والشفهي هزيمةً للفرس أمام ملوك اليمن، كما تصبح الحروب مع الفرس حروباً يمنية لا يونانية. إنّ الاندلسي، الاخباري الذكي والدقيق، ينفرد وحده، عن سائر الاجباريين، في اعطاء جواب مقبول للغاية عن "لغز" ذي القرنين اليمني المزعوم، اذ يكتب ما يلي نشوة الطرب: 112: إن الاسكندر المقدوني أدهش العالم بانتصاراته الخاطفة على الفرس و"لعلّو ذكره فقد تجاذبته الأمم كل أمةٍ تدعي أنه منها". لعّل عبارة الاندلسي، الدقيقة والبليغة، كافية بذاتها لتوصيف مغزى الحروب اليونانية - الفارسية وأثرها في تلفيق تاريخ اليمن القديم تكشف ببساطة عن الحدود البعيدة لرجع الصدى العميق الذي كانت تختزنه" والذي استمر طويلاً، داخل تاريخ اليمن، ليعيد روائي، لا بصوت المتحاربين الحقيقيين بل بصوت الذين تمثلوا ادوارهم أو قاموا بمحاكاتها. * كاتب عراقي مقيم في هولندا.