كانت الجامعات الاوروبية والاميركية حتى الأمس القريب هي الحواضر الاكاديمية المفضلة لدى غالبية الطلاب العرب من ابناء الطبقات الغنية والميسورة، وكانت الشهادات التي يحوزون عليها مثار فخر واعتزاز وجوازات مرور تؤهلهم بسهولة لولوج المناصب العليا في قطاعات الدولة العامة والخاصة. تلك مرحلة خلت وجد بعدها العديد من الطلاب انفسهم وجهاً لوجه امام تفاقم الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناشئة عن تداعيات الحروب والثورات الاهلية وارهاصات السلام العربي - الاسرائيلي والتي تزامنت في السنوات الاخيرة مع تشدد الدول الاوروبية في اجراءات الهجرة خلافاً لكندا التي فتحت ابوابها امام هؤلاء لا فارق ان كانوا اغنياء او متوسطي الحال او فقراء، حيث وجدوا في جامعاتها ضالتهم المنشودة سيما وهي التي تختصر ثقافات ولغات العالمين الاوروبي والاميركي من جهة وتتماثل مع انظمتهم العلمية من جهة اخرى. في هذا السياق يبدو ان مونتريال هي التي تستقطب وما تزال القسم الاعظم من الطلاب العرب كونها العاصمة الثقافية لكندا والمدينة الجامعية من الاكثر شهرة في الشمال الأميركي فيها خمس جامعات، ثلاث منها فرانكوفونية واثنتان انغلوفونيتان وتضم جميعها حوالى 7000 طالب عربي. والواقع ان هؤلاء الطلاب والطالبات ينقسمون الى فئتين كبيرتين تضم الاولى منهما افراد البعثات التعليمية الذين توفدهم حكوماتهم على نفقتها الخاصة بما فيها نفقات التعليم والاقامة والسفر وتحدد لهم مجالات التخصص الجامعي وفقاً لجاجات البلاد العلمية والتكنولوجية ووفقاً لمخططاتها الانمائية، وتضمن لهم في المقابل وبموجب عقود قانونية فرص العمل في اجهزتها واداراتها العامة شرط العودة الى أوطانهم الأم بعد التخرج. وهؤلاء هم غالباً من بلدان المغرب العربي: تونس والجزائر والمغرب وليبيا وموريتانيا ويشكلون نسبة تتراوح بين 2 و5 في المئة من مجمل الطلاب المغاربة الذين يربو عددهم في جامعات مونتريال على ثلاثة آلاف طالب وطالبة 22 في المئة اناث و78 في المئة ذكور. وتنتمي الى هذه الفئة ما يسمى "البعثات الدوية" التي ينضوي افرادها تحت برنامج حكومي مشترك اكدي بين دول المغرب العربي من جهة وبين مقاطعة كيبيك من جهة اخرى. ويقضي هذا البرنامج بتخفيض نفقات التعليم الجامعي من 20479 دولاراً الى حوالى 7000 دولار في السنة ويعاملون بموجبه كالكيبيكيين تماما من حيث الضمانات الصحية والاجتماعية، وتصل نسبتهم الى حوالى 8 في المئة من مجموع الطلبة المغاربة. وفي السياق عينه يعتبر الخليجيون طلاب البعثات العلمية بامتياز وهم على قلة اعدادهم نسبياً لا يتجاوزون بضع مئات للدلالة على ذلك تخصص حكومة البحرين قنصلية في مونتريال لرعاية حوالى خمسين طالباً جامعياً، ويتلقون تعليمهم بالكامل على نفقة حكوماتهم، انما يحظر عليهم حيازة الجنسية الكندية، خلافا للبلدان العربية الاخرى، نظراً لأن بلدان الخليج هي بحاجة ماسة الى جميع ابنائها من اجل ملء الوظائف التي تتطلبها النهضة الخليجية المعاصرة من جهة كما تربأ ان تنتاب خريجيها الجامعيين هواجس الفقر والحاجة والهجرة. اما الطلاب العرب الآخرون فهم يتابعون دراساتهم إما بموجب فيزا طالبية حرة، وهؤلاء هم غالباً من ابناء الطبقات الميسورة، وإما بموجب هجرة دائمة فردية او عائلية، ويتوزعون على جامعتي مونتريال واوكام ومعظمهم لبنانيون ومغاربة وعلى جامعتي ماغيل وكونكورديا ومعظمهم من السوريين والفلسطينيين والمصريين. والملاحظ ان شريحة كبرى من الطلاب العرب يقعون احيانا في شرك الاختصاصات التي يجري اختيارها عشوائيا ومن دون حسابات واعية اما ارضاء لتوجهات الاهل واستجابة لرغباتهم وإما لمجرد الحصول على شهادة جامعية، اية شهادة لا فارق، وإما تقليداً لمن تخرج قبلهم. فعلى سبيل المثال يعمد البعض الى دراسة الطب او الهندسة او المحاماة ظناً منهم ان مثل هذه المهن تهيئ لهم، كما كان الأمر لسنوات طويلة خلت، مكانة اجتماعية مرموقة او منصباً سياسياً رفيعاً، الا انهم سرعان ما ينقلبون الى فرع آخر او يفاجأون بعد التخرج بأن اسواق العمل مشبعة بمثل هذه الفروع سواء في كندا او في اوطانهم الام. وما يصيب هؤلاء قد يصيب غيرهم في سائر التخصصات الاخرى ما يجعلهم عاجزين عن فهم حركة الاسواق المعاصرة التي تشهد حمى منافسة شديدة بين المهارات العلمية و الكفاءات التكنولوجية، علماً ان لدى الجامعات الكندية، لا بل في مرحلة ما قبل التعليم الجامعي موجهين تربويين على صلة وثيقة بأسواق العمل المحلية والدولية ويتولون ارشاد الطلاب وتوجيههم كلاً حسب معدلاته العلمية ورغباته الشخصية والمهنية ويزودونهم احصاءات دقيقة عن احوال السوق وحاجاته حاضراً ومستقبلاً. واللافت ان لدى العديد من الطلاب العرب فهماً خاطئاً وجهلاً فادحاً لحقيقة التعليم المهني لا بل ازدراء له واستخفافا به، وهو شعور يعود اساساً الى الترسبات والموروثات العربية البالية، حيث يعتبرون ان التعليم المهني هو حكر على الفاشلين في دراساتهم ومأوى للذين لا يستطيعون متابعة التحصيل الجامعي، علماً ان قطاع التعليم المهني في كندا والدول الصناعية الكبرى هو حجر الرحى في العملية الاقتصادية المعاصرة ومحرك الانتاج العالمي. فهو بحد ذاته تخصص علمي وعلى درجة كبيرة من الاحاطة بدقائق المعارف التكنولوجية المتطورة. فعلى سبيل المثال يغطي التعليم المهني في كندا حوالى 75 في المئة من انتاجها القومي، وعلاوة على ذلك يمنح المؤهلين به سهولة الحصول على فرص العمل لازدياد الطلب عليه، وذلك من دون ان يشكل أي عائق امام متابعتهم للتحصيل الجامعي. وتتعدد النماذج من الطلاب العرب الذين وصلوا بدراساتهم الى الماجستير ولم يفلحوا في الحصول على عمل يتناسب مع شهاداتهم فانكفأوا مجدداً الى متابعة التعليم المهني في الحقل ذاته بعدما ايقنوا ان فرص العمل في أية مؤسسة هي بحوالى75 في المئة للمهنيين مقابل 25 في المئة للجامعيين. وتشير الاحصاءات الكندية التي اجريت في المنشآت الصناعية المتوسطة الى ان حاجة الواحدة منها تصل الى حدود 85 عاملاً مهنياً في حين انها لم تستوعب اكثر من خمسة مهندسين جامعيين. يتبين من ذلك ان العديد من الطلاب العرب يعانون من عضلة البطالة التي تتفشى في صفوفهم عاماً بعد عام ويزيد في حدتها ما يواجهون من تمييز عنصري احياناً كونهم من الاقليات المنظورة. وتشير الاحصاءات الرسمية الكندية الى ان نسبة البطالة لدى الجامعيين العرب تصل الى حوالى 27 في المئة مقابل 7 في المئة لزملائهم الكنديين. هذا التفاوت الهائل في فرص العمل لا يعود الى التفاوت العلمي او الى المهارات الفنية او اللغوية، وانما اساسا، حسب اعتراف وزير الهجرة والعلاقات العامة مع المواطنين روبير بيرو ناشئ عن الفروقات "في اللهجة واللون والاصل" والتي غالبا ما تحول دون وصول الاقليات الانية الى الوظائف المنشودة. وكشف الوزير الكيبيكي ان الحكومة في صدد سن تشريعات جديدة تقضي بتحديد كوتا معينة للاقليات المنظورة قد تصل الى حوالى 25 في المئة في وظائف القطاع العام. امام هذه الاحباطات المتنامية في الاوساط الطلابية لم يعد من خيار امام، الخريجين الجامعيين خاصة، سوى اللجوء مجدداً الى الهجرة، يقيناً منهم ان ما يعانيه اقرانهم في الاوطان الأم هو اشد قسوة وأكثر إذلالاً، وغالباً ما تكون وجهتهم صوب الولاياتالمتحدة الاميركية التي تتجانس فيها انظمة العمل والمناهج التعليمية مع ما هو سائد في كندا. وهكذا يقع العديد من الطلاب العرب في دوامة البحث عن العمل الذي يتلاءم مع كفاءاتهم ومهاراتهم خشية الوقوع في ما آلت اليه حال من سبقهم من حملة الشهادات العليا والذين ارغموا على مزاولة مهن واعمال لا تمت الى علومهم بصلة ولا تتناسب مع مراكزهم الاكاديمية. باختصار ان هذه العينات من الشباب هي في نهاية الامر رسائل احتجاج صارخة الى المسؤولين العرب عن شؤون التربية والعمالة والهجرة علهم يستدركون هدر الطاقات والكفاءات العربية المزودة بأرقى المهارات والقدرات التقنية والتكنولوجية والاستفادة منها في عملية النهوض الوطني. ويكفي ان تقتدي الدول العربية بما انجزته شقيقاتها المغربيات من برامج مشتركة مع الحكومة الكيبيكية والمنظمة الفرانكوفونية بهدف تعزيز التعليم الجامعي وتحديثه وضبط انحرافاته وحسن توجيهه لمواجهة التحولات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية المتسارعة في ما يسمى عصر العولمة. * كاتب لبناني مقيم في كندا.