ليس من المبالغة القول إن المسألة اللغوية المعاصرة القائمة على تنوع وتعدد اللغات تشكل محوراً مهماً في حركة التطور العلمي والفكري والثقافي والاقتصادي، وسمة بارزة من سمات ما يسمى "عصر العولمة" ولبنة أساسية في مدماك "القرية الكونية" الموعودة. فالكثير من الدول المتطورة والنامية قد عمدت ولا تزال الى تعديل سياساتها اللغوية بما يتماشى وحاجات البلاد وضمان مستقبل أبنائها في خضم حمى المنافسة التي تشهدها أسواق العمل المحلية والدولية. بتعبير آخر لقد بات تعلم اللغات الأجنبية واتقانها حاجة وطنية وعالمية ملحة لا تقف عند حدود التثقيف الذاتي أو "البرستيج" الاجتماعي أو الاعتزاز الأكاديمي وحسب وإنما يتعدى ذلك الى الاحاطة الواعية بكل مستلزمات ثورة المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا العالية ونقل انجازاتها بمختلف الألسن الى أسواق الفكر والعمالة والانتاج. ازاء هذه الجدلية القائمة بين العلوم الموصلة اللغات وحركة الأسواق، يقف الشباب العرب ممن هاجروا سعياً الى تحصيل العلم أو بحثاً عن فرص عمل أفضل، أمام واقع مأسوي مرده أساساً الى عقم المناهج التعليمية العربية التي خرجت على مدى أجيال ولا تزال شباناً وشابات هم أشبه بالأميين في ما اكتسبوه من لغات أجنبية حية هي اليوم على ضآلة رصيدها في نفوسهم لا تسمن ولا تغني من جوع.. ففي كندا وعلى سبيل المثال، وفي أول محاولة لدخول هؤلاء الى الجامعات أو الى أسواق العمل، وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام تكوين لغوي هش واعداد أكاديمي هزيل، علماً أنه من المفترض بهم أن يكونوا على درجة كافية من الإلمام بإحدى اللغتين الانكليزية أو الفرنسية كون هذه وتلك معتمدتين رسمياً كلغة ثانية في مناهجهم التربوية. إلا أن وجودهم في كندا، ولحسن حظهم، أتاح لهم أن يتعرفوا الى نظام تعليمي وثقافي يقوم على ثنائية لغوية عريقة قلما يحظى بها أي بلد آخر، تعتمد كندا رسمياً اللغتين الانكليزية والفرنسية في جميع مقاطعاتها الانكلوفونية والفرانكفونية منذ العام 1969 وهي الى ذلك تخصص في اطار سياسة الهجرة والتأقلم، برامج حكومية لتأهيل الوافدين اليها من مختلف الاثنيات تبعاً لحاجتهم الى هذه اللغة أو تلك سواء في نطاق العمل أو الدراسة. برامج التأهيل والواقع أن برامج التأهيل اللغوي في كندا تنقسم الى نوعين: برامج حكومية تنفق عليها الدولة ما يزيد على 100 مليون دولار سنوياً، وهي شبه مجانية، لا تتعدى رسومها السنوية 25 دولاراً وهي مفتوحة أمام البالغين من مختلف الأعمار والجنسيات سواء كانوا مواطنين أو مهاجرين أو لاجئين. ويتوزع هؤلاء حسب رغباتهم وحاجاتهم على مراكز اللغة الفرنسية أو الانكليزية، ويجري التدريس فيها على فترتين صباحية ومسائية، ويمكن للطالب أن يبقى فيها الى أن يبلغ مستوى يؤهله للتأقلم مع المجتمع الكندي أو للانخراط في سوق العمل، الذي يتطلب، حتى في المهن الوضيعة، اجادة استعمال اللغتين الفرنسية والانكليزية معاً إذ على ضوء اتقانهما تتعزز الكفاءات العلمية وتزداد فرص العمل. أما البرامج الخاصة فتكاد تنحصر في الجامعات والمعاهد الفنية العالية حيث يؤهل الطلاب على نفقتهم الخاصة تبلغ رسوم الفصل الواحد حوالى 300 دولار بإحدى اللغتين سواء كانت الجامعة التي ينتسبون اليها فرانكفونية أو انكلوفونية، ذلك أن معظم المراجع والأبحاث والمحاضرات غالباً ما تكون منشورة بالفرنسية أو الانكليزية اللتين من دونهما يستحيل على الطالب أن يستمر في دراسته الجامعية. من هنا تبدو صحة القول السائر في كندا "يولد الطفل الكندي برئتين احداهما فرانكفونية والثانية انكلوفونية". والى جانب هذين البرنامجين، هناك الكثير من المؤسسات والمعاهد اللغوية الخاصة التي تعنى اضافة الى تدريس الانكليزية والفرنسية، بغيرهما من اللغات الأخرى كالايطالية والاسبانية واليونانية والعربية وهي تعتمد أساساً على إحاطة الطالب بالحدود الدنيا التي تتطلبها مستلزمات التنقل والسفر والسياحة الى هذا البلد أو ذاك. ولدى الوقوف على استطلاع آراء بعض الشبان والشابات العرب المقيمين في مونتريال وممن يرتادون مراكز التأهيل اللغوي، يتبين أن الدوافع الرئيسة لتعلم الانكليزية أو الفرنسية تختلف من شخص لآخر تبعاً لاهتماماته وحاجاته ورغباته وهي بمجملها تتراوح بين تثقيف الذات وملء الفراغ بنشاط مفيد، والأمل بالحصول على فرصة عمل في كندا أو خارجها. وهذه نماذج عن تلك العينات: مليكا بلباكي، 27 عاماً، طالبة جزائرية تحضر شهادة الدكتوراه في علوم الكومبيوتر وتتقن اللغة الفرنسية جيداً، وتتابع دروس اللغة الانكليزية في أحد مراكز التأهيل المجانية لأنها لا تستطيع متابعتها في الجامعة نظراً لارتفاع رسومها التي تتعدى 350 دولاراً في الفصل الواحد إذ "لا قدرة لي كطالبة على أن أتحمل مثل هذه الرسوم الباهظة. لذا فإنني أكتفي حالياً بما أحصله ريثما تسنح لي الظروف للانتقال الى مستوى أرقى وأفضل". أما غسان المحمودي، تونسي، 23 عاماً، طالب في كلية Polytechnique التابعة لجامعة مونتريال، فهو يتابع منذ عام دراسة اللغة الانكليزية الى جانب دراسته الجامعية لأنها "ضرورة أكاديمية وحياتية تتيح لي المجال بعد التخرج لأجد عملاً بسهولة في كندا أو في الولاياتالمتحدة أو في غيرهما، لأن اللغة الانكليزية باتت اليوم لغة عالمية ولغة العلم والانترنت والتكنولوجيا". وخلافاً لغيره، يعتبر حاتم يوسف 31 عاماً، يقيم في مونتريال منذ ثلاثة أعوام، وهو على المام باللغة الانكليزية انما يجهل الفرنسية تماماً، لذا فهو مضطر الى المواظبة على تعلمها طالما لا يستطيع أن يجد عملاً من دونها وخصوصاً "أن الجميع هنا في مقاطعة كيبيك يفضلون التعامل بالفرنسية أكثر من الانكليزية ومع ذلك يصرون على أن يكون طالب العمل يجيد اللغتين معاً". وثمة رأي آخر تحدثت عنه سيدة لبنانية - فاديا عيد 27 عاماً وصلت حديثاً الى كندا وهي على إلمام ضئيل بالفرنسية وتتابع حالياً دورة في اللغة الانكليزية ليس بدافع الحصول على عمل لأنها "ميسورة الحال". إنما ما يدفعها لتعلم الانكليزية هو التخلص من "الفراغ الكبير" الذي تعيشه معظم النهار. وعلاوة على ذلك فهي تعتبر "أن اللغتين الانكليزية والفرنسية هما من مستلزمات الهجرة والتأقلم والتعامل اليومي والتسوق أيضاً". أما الشاب ميلود بن عثمان، وهو على مستوى علمي لا يتعدى المرحلة الثانوية، فجاء الى كندا بدافع العمل ولكنه كان يصطدم دوماً بما سماه "اللازمة" التي تتكرر في اعلانات الصحف ومكاتب العمل عبارة Bilingue كشرط أساسي للعثور على عمل، لذا لا مفر من الإلمام باللغتين الانكليزية والفرنسية. هكذا هو شأن الكثير من الشبان والشابات العرب في مونتريال وغيرها من المدن الكندية الأخرى، لا فرق ان كانوا جامعيين أو مثقفين مخضرمين أو عمالاً عاديين أو ربات بيوت، فهو وإن كان خيار الضرورة إلا أنه في نهاية المطاف انجاز كبير ورصيد ثقافي يعزز مؤهلاتهم العلمية والمهنية ويمكن استثماره اذا ما قدر لهم أن يعودوا الى أوطانهم أو أن يبقوا حيث يشاؤون. الى ذلك ترى شريحة واسعة من هؤلاء الشباب أنهم ربما كانوا من المحظوظين في اختيارهم كندا وقبولها لهم إذ انها علاوة على ما تقدمه من ضمانات اجتماعية وصحية وتعليمية وتأهيلات لغوية وثقافية، فهي محطة عالمية لصنع الكفاءات والخبرات وتصديرها الى سائر البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. وفي دراسة لمنظمة الأونيسكو صدرت عام 98 حول السياسات اللغوية العالمية، أشارت الى أن 30 بلداً من أصل 171 تتعامل باللغتين الانكليزية والفرنسية، وأن كندا تحتل فيها مركز الصدارة لأن تجربتها هي "الأكثر نجاحاً في العالم" حيث استطاعت، خلافاً لغيرها من الدول، أن تحول التعددية اللغوية من "معضلة شائكة" الى نموذج خلاق. كندا بابل اللغات - تعتبر اللغتان الانكليزية والفرنسية لغتين رسميتين وهما الأكثر تداولاً في عموم كندا أكثر من 85$ من الشعب الكندي يتكلمون بهما. - صدرت الشرعة اللغوية الكندية عام 1969 وهي منذ ذلك الحين والى اليوم تقوم على ثنائية الفرنسية والانكليزية كما هي صفة قانونية أكثر منها امتيازاً ثقافياً للانكلوفون أو الفرانكفون. - يستعمل المواطن الكندي بحرية مطلقة وحسب رغبته، احدى اللغتين في المؤسسات الرسمية الفيدرالية أو العائدة للمقاطعات ويتلقى خدماته بأي منهما. - اللغات الأخرى العائدة للاثنيات هي غير رسمية وليس لها صفة قانونية في التداول اليومي أو في نطاق العمل، ما خلا بعض البرامج الحكومية التي تتيح للمدارس الرسمية تعليم أي من تلك اللغات اذا توافرت لها الشروط القانونية تقديم طلب الى ادارة المدرسة لا يقل عن 15 توقيعاً. - يصنف القانون الكندي الخارطة اللغوية كالآتي: 1 - الانكلوفون ولغتهم الأم الانكليزية. 2 - الفرانكفون ولغتهم الأم الفرنسية. 3 - الأوتكتون Autochtone أي سكان البلاد الأصليون الهنود ولغتهم خاصة بهم ويشكلون حوالى 190 ألفاً. 4 - الاللوفون Allophone ولغتهم الأم هي غير هذه اللغات جميعاً. - يشكل الفرانكفون أقلية في كندا ولا يمثلون أكثر من 25 في المئة من مجموع سكانها. أما الذين يتكلمون الفرنسية فلا تتجاوز نسبتهم 32 في المئة في حين من يتكلمون الانكليزية تصل نسبتهم الى حوالى 83 في المئة. - تتأرجح نسبة الهبوط بين من يتكلمون الانكليزية والفرنسية. إذ بحسب احصاء 98 انخفضت نسبة المتكلمين بالانكليزية في كيبيك من 14 في المئة الى 9 في المئة في حين أن المتكلمين بالفرنسية تدنت نسبتهم في كندا من 29 في المئة الى 24 في المئة. كما ان الكنديين الذين ليست لغتهم الأم الفرنسية ولا الانكليزية قد تدنت نسبتهم ايضاً بين عامي 1951 و1998 من 19 في المئة الى 15 في المئة أي حوالى 5 ملايين كندي. - في المدن الكندية الكبرى هناك أكثر من 55 في المئة من الكنديين لا يتكلمون في منازلهم أو في محيطهم ولا في نطاق العمل أياً من الفرنسية أو الانكليزية. - تزايد عدد الذين يتكلمون اللغتين منذ العام 91 حوالى 7،1 مليون الى حوالى 4،4 ملايين الى العام 1998 أي بزيادة أكثر من 3 ملايين شخص. - تحول حتى العام 98 أكثر من 36 في المئة من المجموعة اللغوية الفرنسية الى الانكليزية بسبب متطلبات العمل حتى ان الكنديين الفرنسيين يستعملون اللغة الانكليزية أكثر من الانكلوفون في مقاطعاتهم. - تشير الاحصاءات الكندية الرسمية الى أن حظوظ العمل بالنسبة الى من يتكلم اللغتين هي في حدود 6 في المئة منها 4 في المئة للانكليزية و2 في المئة للفرنسية.