انسحبت قوات الاحتلال الصهيوني من لبنان بعد فترة طويلة من التصريحات والخطابات التي تقدم الانسحاب للأمة كأنه كارثة تنذر بأبشع العواقب. ويحمِّل هذا "التهديد" لبنان واللبنانيين مسؤولية وعواقب الانسحاب الصهيوني. وفي يوم الانسحاب، قدمت وكالات الأخبار في العالم الحدث كنصر صهيوني، بل كانت محل استغراب بعضهم أن يفرح اللبنانيون بنصرهم. وقد ردد أصداء هذا المفهوم "للكارثة" بعض الصحافيين والمعلقين الإخباريين الخباريين بحسن أو سوء نية. وقد تبدو "الكارثة" مضحكة للوهلة الأولى، لكن الأمر في الواقع في حاجة الى تحليل. وأرى أن إدراك خلفياته وغاياته الباعثة أمر مفيد للمعنيين من العرب، شعوباً وحكومات. إن ما يخشاه الكيان الصهيوني بعد الانسحاب في رأيي هو حصول العرب على نموذج جديد لهمة وقدرة الأمة العربية. فالانسحاب يشكل خسارة لهدف كبير طالما سهر الصهاينة على تحقيقه. هذا الهدف كان وما زال توليد قناعات راسخة عن العرب "بعجزهم الجوهري"، فإذا قدم الصهاينة انسحابهم من لبنان كتهديد وخيار صهيوني، فإنهم يأملون أن يفوتوا على الأمة العربية فرصة شعورها أنها أمة فاعلة للحدث، وإلا فإن خسارتهم ستكون أكبر بكثير من مجرد طردهم من جنوبلبنان. تشكل هذه الاستراتيجية تطبيقاً مباشراً لنظرية العجز المكتسب، فقد لاحظ علماء النفس أن تكرار الفشل على رغم تكرار المحاولات يؤدي بمعظم الحالات الى الوقوع في العجز "المكتسب أو المتعَلَّم". تترسخ عند الضحايا قناعات بعدم جدوى جهودهم، فيعزفون عن المحاولات والعمل الجاد لتحسين أمورهم وحل مشاكل حياتهم. والكيان الصهيوني له سوابقه في هذا المضمار. إذ خرج علينا بأسطورة جيشه الذي لا يقهر بعد. وللأسف، فقد تبين أن الأمة من خلال وضعيتها التاريخية والفكرية وتركيبتها الاجتماعية والنفسية بعد حرب حزيران 1967 استجابت شعوباً وحكاماً بحساسية مفرطة تجاه هذا الشعور. لكنها ما لبثت أن وضعت حداً للفكر المأسوي وأعادت عام 1973 ونفضت عنها تراكمات هذا الشعور إثر انتصار حرب الثقة من جديد الى الفكر العربي والمواطن العربي. منذ ذلك التاريخ والكيان الصهيوني يحاول جاهداً بكل إمكاناته العسكرية والإعلامية إعادة تركيبة العجز في نفسية المواطن العربي، وإيهامه أن هذا العجز هو عجز عضوي أصيل في الأمة. ولتحقيق ذلك تم اتباع مبدأ تدمير أي إنجاز من الممكن أن يقوم به العرب بشكل عام ولبنان بشكل خاص. في كل يوم يريد هذا الكيان أن يؤكد للعقل العربي أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان وأن أي جهد يقوم به سيكون عبثاً ووبالاً عليه ولعنة. كلما انتصبت قامة لبنان من تحت أنقاض الحرب سارعت الطائرات الصهيونية لتدمير ما تم إنجازه، لتعود القوى خائرة نازفة وتزداد مشاعر الإحباط واليأس. حتى أننا سمعنا من يردد: "ما جدوى العمل إذا كانوا كلما بنينا شيئاً هدموه!". ومن هنا فإن التدمير المتواصل للبنية التحتية في لبنان لم يكن من باب المناوشات العسكرية، وقد لا نكون متشائمين إذا توقعنا استمراره حتى بعد التحرير، لأن دافعه الرئيسي ما هو إلا ترسيخ الشعور بالعجز المكتسب على شعب كامل يراد أن يُسحب منه أي شعور بقدرته على اتخاذ القرار أو على تنفيذه. فمتتبع الأخبار يتولد لديه شعور أن كل مشاريع الأمة العربية فاشلة وأن كل الأهداف التي سعى لها الكيان الصهيوني قد تكللت بالنجاح. ولكن على أرض الواقع" وإذا استثنينا تدمير المفاعل النووي العراقي" لم يستطع العدو الصهيوني أن يحقق هدفاً استراتيجياً واحداً منذ حرب 1973. لقد استطاع أن يتلاعب إعلامياً على المسميات ليحول فشله المتكرر الى شبه إنجازات ولكنه ما أن يبدأ بإنجاز إلا تحول هذا الإنجاز الى كابوس يقض مضجعه. إذا تخلص المواطن العربي من شعوره بالعجز "المكتسب" ونظر لعملية احتلال لبنان من خلال الهدف منها وما تحقق من هذا الهدف فإنه سيجد أن الكيان الصهيوني قد خاب في تحقيق مشروعه منذ اللحظة الأولى وأن انسحابه من الجنوب أتى تكليلاً لفشل هذا المشروع. لقد دخلت القوات الصهيونية لبنانمرات عدة وهدفها تحويل لبنان الى منطقة نفوذ صهيوني وإسكات المقاومة الفلسطينية. ولقد ردد حاملو الفكر العاجز أن المقاومة الفلسطينية قد خرجت مشتتة مثخنة الجراح بين تونس واليمن وغيرها وأن الجنوب قد احتُل فعلاً" ولكن يمكن لنا ببساطة أن نقرأ الواقع قراءة غير هذه" فالمنظمة لم تكن الهدف لذاتها، بل كانت المقاومة هي الهدف. إن استبعاد المنظمة لم يؤد الى استبعاد المقاومة. فسرعان ما اشتعل الجنوب والضفة ضد الاحتلال. لقد أتت الانتفاضة خير بديل عن المنظمة وأتت المقاومة اللبنانية خير دليل على كبرياء لبنان واستقلاله. فإذا نظرنا الى هذا التحرير بعين التفاؤل والفاعلية لوجدناها مناسبة لمراجعة كثير من المفاهيم السلبية عندنا" فتعلم اليأس يحمل في طياته خطراً كبيراً لصاحبه قد يتجاوز شره شرور جيوش العدو الجرارة. ومن المفيد بل والمهم جداً لنا أن نتابع هذا الشعور بالعجز المكتسب ونتائجه في الكيفيات التي تمت بها مباحثات السلام بين العرب والصهاينة حتى الآن. فمنظمة التحرير الفلسطينية على سبيل المثال لا المقاومة الفلسطينية تعلمت اليأس واكتسبته كاملاً بعد خروجها من لبنان. وحتى في اللحظة التاريخية التي كان يمكن لها فيها أن تكلل جهودها بنجاح سياسي وقبول على الصعيد الدولي ممثلة بمباحثات مدريد" دفعها يأسها الى قبول التباحث سراً في أوسلو والتوقيع على ما لا يرضى عنه كثر من أبناء فلسطين وأبناء المنظمة نفسها. اليوم يقف لبنان، كما وقف أطفال الحجارة أمس واليوم، ليؤكدوا جميعاً أن هذا الشعور بالعجز مرفوض، وكما رفض الصهاينة بالأمس التفاوض مع الانتفاضة وقرروا التفاوض مع من تبنى هذا العجز" أرادوا اليوم أن يتفاوضوا مع لبنان على الأساس نفسه فحاولوا التفريق بين انتفاضة الجنوب بشقيها الإسلامي والوطني وبين لبنان حكومة وشعباً. ومن جديد يؤكد لبنان أن هذا التفريق لن يمر، وأنه كلما حلقت طائرات العدو الغادرة فما هي إلا فرصة جديدة لإعلان استقلال الأمة وشموخها. إن نصر لبنان اليوم هو أكبر فرحة تكلل الأمة العربية منذ سنوات خلت، واحتفالنا بالتحرير منطقي ومبرر مثلما أن مقاومة المحتل نفسها منطقية ومبررة. فالتحرير تأكيد لإباء الأمة وحياتها، وفي خضم الإعلام الغاشم الذي يريد أن يفرض علينا رؤاه نحن في أشد الحاجة لأن ننفض عنا كل شعور بالعجز، فالعدو لم يمت بعد وها هو يطالبنا بالتطبيع، وما يخشاه أن لا يتبنى لبنان وجهة نظره بهذا التطبيع. فهو يرى تدميره لزراعة القطن المصرية جزءاً من التطبيع، وسرقة الأراضي الفلسطينية أمراً طبيعياً في إطار التطبيع، وإرسال عناصر مخابراته ومجرميه يغتالون في شوارع عمان جزءاً أساسياً من التطبيع، وتلويث مياه الشرب في الأردن استمراراً منطقياً للتطبيع، فهل يستطيع أن يسرق مياه الجنوب والجولان باسم التطبيع أيضاً؟ على العرب أن يدركوا أن صمود لبنان وسورية في هذا المرحلة هو نصر لهم وهو معقد آمالهم فلن تكون هناك تنمية تنجح أو عمران يتقدم ما لم تشعر شعوب هذه الأقطار أنها الفاعلة للحدث، إن عدداً غير قليل من "أوراق اللعب" هو اليوم بيدها كما هي اليوم بيد لبنان ومقاومته. فإذا استطاع الفكر في الأقطار العربية أن يقدم المثال المحتذى مقاومة وفكراً وسياسة واقتصاداً فإن شعوبنا تتعلم عندها أن جزءاً غير قليل من الحلول بيدها وأن المشكلات ما هي إلا مشكلات طارئة وليست دائمة. وقد يجدها البعض مناسبة للنظر الى انتصار لبنان نظرة جزئية، فيعتبره انتصاراً قطرياً أو مذهبياً أو دينياً أو ما الى هنالك من تقاسيم تتصف بها الفسيفساء العربية، والواقع أن الذي ينظر مثل هذه النظرة فإنه يفقد خيراً كبيراً لنفسه وأهله وبلده. فإذا ردد الأميركيون لأبنائهم طوال السبعينات عبارة شهيرة: "إذا وضعنا رجلاً على القمر ألا تستطيع أن تنجح بهذا الامتحان!!" ولعل ما يخشاه أعداء الأمة أن يردد العرب لأبنائهم لسنوات قادمة: إذا طرد شباب المقاومة الصهاينة من الجنوب ألا تستطيع أن تنجح بهذا الامتحان!!" وأقول لصحافيينا ومفكرينا: "إذا الشباب طردوا الصهاينة من الجنوب فهل تستطيعون أن تروا العالم العربي بعين النضرة والتفاؤل؟" إن الأمة تحمل مشكلاتها غير القليلة، ولكنها حتماً ليست على فراش الموت، وإذا أدركنا أهمية نبذ الشعور بالعجز المكتسب على نتائج أعمالنا علمنا مقدار حاجتنا لكل نجاح وفهمنا دور لبنان في تقديم مثال النجاح للأمة. عندها قد يدرك العرب كم هم في حاجة لنجاح لبنان وسورية في معركتهما القادمة أكثر من حاجة لبنان وسورية للنجاح نفسه.