لم تكد تنقضي غير أيام قليلة على طلب الرئيس المصري جمال عبدالناصر إزاحة القوات الدولية من خليج العقبة وشرم الشيخ وهي التي وُضعت هناك بموجب تسوية حرب 1956، حتى بدأت الطائرات الإسرائيلية هجومها القوي والواسع، المعزز بالقوات البرية، على الجبهات الثلاث: المصرية والسورية والأردنية. ولئن قال الإسرائيليون إن عملهم "دفاعي" لأنه رد على خطوة عبدالناصر، وعلى الإتفاق الدفاعي المصري السوري، فضلاً عن تصاعد بطيء شهدته العمليات العسكرية الفلسطينية عبر الأردن، فالواضح أن النتائج الأخيرة لم تترك مجالاً للشك في طبيعته العدوانية. ففي خلال أيام ستة تم احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، وصارت إسرائيل قوة امبراطورية ذات جيش بالغ الإعتداد والغطرسة. بطبيعة الحال باتت المعلومات المتعلقة بتلك الحرب التي أسماها الإعلام الغربي "حرب الأيام الستة"، وأسماها العرب "حرب حزيران" و"النكسة"، شهيرة ومعروفة. لكن الآثار التي ترتبت عليها لا تزال، في نظر الكثيرين من المحللين والشارحين، تفعل فعلها حتى اليوم في الواقع والفكر العربيين. فقد خسرت ثلاثة بلدان عربية أجزاء أساسية من أراضيها، وباتت فلسطين التاريخية كلها تحت الحكم الإسرائيلي، الشيء الذي جعل الخسارة العربية تعادل، لا بل تفوق، مثيلتها في حرب 1948 التي عُُرفت، هي الأخرى، ب "النكبة". ولئن بدت النتائج الإقتصادية لخسارة هذه الأراضي فادحة، لاسيما في ما يتعلق بالأردن الفقير في موارده والمضغوط في مساحته، فإن النتائج السياسية والفكرية كانت رهيبة أيضاً. فقد تصاعدت قوة ونفوذ المقاومة الفلسطينية، خصوصاً بعد معركة الكرامة في 1968 مع الجيش الإسرائيلي، ونشأ ازدواج سلطوي في الأردن لم يحسمه إلا قتال بشع ومؤسف في 1970 و1971. وكان من نتيجة هذه الحرب أن انتقلت المقاومة إلى لبنان وكان ما كان من مصائب لحقت بها وباللبنانيين سواء بسواء. وبدا كما لو أن الهزيمة التي ضربت مهابة جمال عبدالناصر، قصّرت من عمره كذلك، فما لبث أن توفي بعد سنوات ثلاث، ليحل محله في السلطة نائبه أنور السادات، الذي اتجه بمصر والعالم العربي وجهة تغاير تماماً سياسة الزعيم الراحل. ولم تنج سورية من التغييرات، إذ بُعيد وفاة عبدالناصر بأسابيع، قام وزير الدفاع، آنذاك، اللواء حافظ الأسد بما سمّي "الحركة التصحيحيّة"، التي رأى المراقبون أن هدفها التخلّص من عوارض التطرف الذي ساد المرحلة السابقة، انتقالاً بسورية نحو درجة أرفع من الإعتدال. أما على النطاق الفكري فتسبّبت هزيمة حزيران يونيو في طرح أسئلة لم يسبق للمثقفين العرب أن طرحوا مثلها منذ عصر النهضة: ما سبب الهزيمة؟ ما حجمها؟ كيف العمل لتجاوزها والردّ عليها؟ وإذا كان ثمة من لاحظ أن الإنتصار العربي الجزئي الذي تحقّق بعد ست سنوات على الهزيمة، أي بالتحديد مع حرب تشرين الأول أكتوبر 1973، قد وفّر تعويضاً جزئيّاً، فالواضح والثابت أن خطىً كثيرة ما زال من المطلوب عبورها لبلوغ التعويض الكامل. والمحزن أن معظم الخطى التي نخطوها منذ ذلك الحين، تتجه في طريق معاكس.