السيوفي: اليوم الوطني مناسبة وطنية عظيمة    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    المملكة تتصدر دول «العشرين» في نسبة نمو عدد السياح الدوليين    النفط يسجل مكاسب أسبوعية 4 % مع خفض أسعار الفائدة الأميركية    البنية التحتية الرقمية في المملكة.. تفوق عالمي    279,000 وظيفة مباشرة يخلقها «الطيران» في 2030    "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان" يؤكد على مواصلة العمل الجماعي لإنهاء الأزمة في السودان    فرنسا تعلن تشكيل حكومة يمينية جديدة برئاسة بارنييه وسط انتقادات سياسية حادة    أمريكا: نحذر من انهيار البنوك الفلسطينية    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    ريال مدريد يسحق إسبانيول برباعية ويقترب من صدارة الدوري الإسباني    «ميترو قول» يواصل صدارة هدافي روشن    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    خادم الحرمين لملك البحرين: نعزيكم في وفاة خالد آل خليفة    أمانة القصيم توقع عقداً لنظافة بريدة    "طويق" تحصل على شهادة الآيزو في نظام الجودة    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    مسيرة أمجاد التاريخ    نوابغ المستقبل.. مبرران للفخر    الملك سلمان.. عنوان العمل الإنساني !    هنأت رئيسي مالطا وأرمينيا وحاكم بيليز.. القيادة تعزي ملك البحرين    خيسوس: المستوى الذي وصلنا له صعب على أي فريق أن يتغلب علينا.. والهلال بحاجة ملعب خاص به    ليكن التغيير لإحداث الفرق يا نصر    تعزيز أداء القادة الماليين في القطاع الحكومي    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    فلكياً.. اليوم آخر أيام فصل الصيف    «الخواجات» والاندماج في المجتمع    لعبة الاستعمار الجديد.. !    فأر يجبر طائرة على الهبوط    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    حل لغز الصوت القادم من أعمق خندق بالمحيطات    نسخة سينمائية من «يوتيوب» بأجهزة التلفزيون    يوم مجيد لوطن جميل    أحلامنا مشروع وطن    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    شرطة الشرقية: واقعة الاعتداء على شخص مما أدى إلى وفاته تمت مباشرتها في حينه    بلادنا مضرب المثل في الريادة على مستوى العالم في مختلف المجالات    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    رئاسة اللجان المتخصصة تخلو من «سيدات الشورى»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الامبراطورية العثمانية وعلاقاتها الدولية في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر
نشر في الحياة يوم 26 - 06 - 2000

ضمن سلسلة المشروع القومي للترجمة عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، صدر كتاب "الامبراطورية العثمانية - وعلاقاتها الدولية في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر"، من تأليف الباحثة الروسية نينل الكسندروفنا دولينا، وترجمة أنور محمد ابراهيم.
ويتضح من العنوان أن الكتاب يمتد زمنياً خلال حقبتين فقط، كما أنه يعنى - أساساً - بالجوانب الديبلوماسية العثمانية، التي كانت تشكل طبيعة العلاقات الدولية للامبراطورية. ولقد تمخض ضعف الامبراطورية العثمانية في القرن 19، وتخلفها الاقتصادي عن الدول الأوروبية، وتأزم الاوضاع الداخلية فيها عن عدد من الأحداث: فقد استقلت اليونان العام 1830، وفي العام نفسه احتلت فرنسا الجزائر. وفي عام 1831 خرج محمد علي عن طوع السلطات واستولى على سورية، ثم طالب بالاعتراف بالسلطة الموروثة في مصر وسورية، كما طالب بالاستقلال الذاتي، وبناء على صلح أدرنة ساهمت روسيا في إدخال تغيرات جذرية في بنية ممالك الدون، طبقاً لما كان يعرف بالترتيبات العضوية، مما زاد من حقوق تلك الممالك في طلب الاستقلال الذاتي، وفي الثلاثينات أيضاً بدأت فرنسا صراعها ضد الباب العالي من أجل السيطرة على تونس.
في ذلك الوقت كانت أوروبا الغربية تخشى أن تصبح الدولة اليونانية القوية نصيراً للسياسة الروسية، ولهذا، فإن انكلترا وفرنسا حرصتا على عدم إضعاف الدولة الامبراطورية العثمانية، لأنهما كانتا تريان فيها حاجزاً ضد أي تهديد روسي في المستقبل. وإلى جانب مشكلة اليونان، كانت انتفاضة محمد علي وتمرده، ثم استيلائه على سورية، وهزيمته للقوات العثمانية في قونية 1832. بعد ذلك، بدأ تقدم الجيش المصري باتجاه اسطنبول، لتهديد الأسرة الحاكمة نفسها. وكان من نتيجة ذلك، أن استنجد السلطان محمود الثاني بالعديد من الدول الأوروبية، فلم تجبه سوى روسيا طبقاً لاتفاق الدفاع المشترك بينهما، حيث أرسلت اسطولها وبضعة آلاف من جنودها ليمنعوا تقدم محمد علي الى العاصمة العثمانية. وخوفاً من زيادة النفوذ الروسي، بدأت دول أوروبا الغربية في التحرك، وانتهت المفاوضات بين الباب العالي ومحمد علي بمزيد من المكاسب للأخير.
في ذلك الوقت، ظهر اهتمام انكلترا باستغلال أراضي الامبراطورية العثمانية، باعتبارها طريقاً برياً إلى الهند، منذ نهاية القرن الثامن عشر، لذلك كانت انكلترا تولي الامبراطورية العثمانية أهمية كبرى من الناحية التجارية، فضلاً عن أهميتها الاستراتيجية، وسعت لاستغلالها ضد السياسات الروسية والفرنسية في المنطقة، في الوقت الذي كانت فرنسا تطمح فيه إلى تحويل البحر المتوسط إلى بحيرة فرنسية. وفي تلك الفترة أيضاً، تم دعم توازن القوى في أوروبا من طريق مجموعتين تشكلتا من الدول الخمس الكبرى! إنكلترا وفرنسا في جانب، وروسيا والنمسا وبروسيا في جانب آخر. على أن هاتين المجموعتين لم تصمدا طويلاً، نظراً للتناقضات التي كانت كامنة داخل تحالفاتهما.
والعزلة كاملة للأنظمة الإدارية والعسكرية العثمانية، عن نظيرتها الأوروبية، والتي كانت طورت نفسها بشكل حاسم، زادت من تخلف الانظمة التركية عنها، وسادت العزلة أيضاً مجالات الثقافة والتعليم، وعلى رغم ذلك كانت الامبراطورية العثمانية على ثقة كاملة من تفوقها الذاتي. إلا أنه في بداية ثلاثينات القرن التاسع عشر، بدأ افتتاح المدارس المدنية، حيث يتعلم التلاميذ مبادىء المعارف الأوروبية.
وعلى جانب آخر، فإن ضعف العثمانيين، مقارنة بالنمو المتصاعد لدول أوروبا من الناحية الديبلوماسية والسياسية، أجبر رجال الدولة على اللجوء الى الاصلاحات في هذا المجال، حيث تم إنشاء مؤسسة للعمل الديبلوماسي على غرار تلك القائمة في دول أوروبا الأخرى. ونظراً لأن نشاط السفارات التي افتتحت في الدول الأوروبية، إبان حكم سليم الثالث، لم يحقق فائدة تذكر في نهاية القرن الثامن عشر، فسرعان ما تم إغلاقها، إلا أن إدراك محمود الثاني لضرورة إقامة علاقات أكثر قوة مع الدول الأوروبية، الأمر الذي لم يعد بمقدور الباب العالي تجاهله، ثم البحث عن دعم للعلاقات الدولية من جانب بعض الدول الأوروبية، أدى من جديد إلى إنشاء سفارات عثمانية في العواصم الأوروبية في العام 1834. لقد مثلت ثلاثينات هذا القرن حداً فاصلاً في تاريخ الديبلوماسية الأوروبية، كان يمثل تغيراً جذرياً في اساليب السياسة الخارجية للباب العالي، بما أدى بالديبلوماسية العثمانية لأن تكون أكثر مرونة منذ هذا التاريخ. لذا، فقد نشأت الحاجة لأن يتعلم الديبلوماسيون الأتراك لغات الدول الأوروبية للمرة الاولى في تاريخ الامبراطورية العثمانية، مما لم يكن مستساغاً من قبل. بل إنه في عام 1836 تم إنشاء وزارة الخارجية، وأنشئ فيها قسم خاص للترجمة. وصاحب هذه التغيرات مولد تقاليد جديدة، فللمرة الأولى يقوم السلطان عبدالمجيد، عشية حرب القرم، بالخروج على التقاليد العثمانية العتيقة، ليستقبل بنفسه السفراء الأوروبيين. لقد نجحت الديبلوماسية التركية في شخص مصطفى رشيد باشا، السفير ووزير الخارجية في ما بعد، وتحت تأثير ضعف شخصية السلطان عبدالمجيد، في أن تغير من طبيعة السلطة العليا عن طريق التنظيمات الاصلاحية، لتكون أقل استبداداً، لكنها لم تصبح ليبرالية بشكل نهائي.
إن الخطوط الرئيسية لسياسة الباب العالي في الفترة من 1834 وحتى 1839 تلخصت في: سعي الباب العالي للحفاظ على العلاقات الطيبة مع روسيا، واستغلال المكاسب المترتبة على الاتفاق الثنائي في ما بينهما، ورفض قيام معاهدة جماعية مع الدول الأوروبية، ثم البحث عن حليف أساسي يمكنه أن يقدم للباب العالي مساعدة من شأنها إخضاع محمد علي. وفي المقابل، فإن محمد علي بعد محاولته الأولى للاستقلال، اعتبر أن إنكلترا هي المسؤولة عن رفض جميع الدول الأوروبية لهذا الطلب، ورأى فيها منذ ذلك الحين عدواً له. وانطلاقاً من ذلك، أعلن عام 1835 رفضه لنشاط البعثة الإنكليزية في شمال سورية، التي كان يسيطر عليها، والتي كانت تستهدف إقامة خط ملاحي عبر نهر الفرات، بإذن من الباب العالي. واستثمر مصطفى رشيد ذلك، إذ قام بتقوية العلاقات بين انكلترا والباب العالي، إذ قررت إنكلترا - بشكل نهائي - تأييد السلطان ضد محمد علي، والذي كانت ترى فيه تهديداً لمصالحها بسيطرته على الطريق البري الى الهند.
وعلى امتداد الصراع العثماني - المصري كانت فرنسا تؤيد محمد علي، ولكنها كانت مضطرة لمعارضة إعلان الاستقلال من جانب واحد، حتى لا تعطي لروسيا مبرراً لتدخلها العسكري، والإبقاء على الامبراطورية العثمانية، باعتبارها تشكل عازلاً بين قوة روسيا الناشئة وأوروبا الغربية. في تلك الفترة، كان الرأي العام الأوروبي يبالغ في الانجازات التي حققها محمد علي، ولكن الأوروبيين - في الوقت نفسه - لم يكونوا يعرفون سوى القليل عن الأوضاع في الامبراطورية العثمانية، بما في ذلك الإصلاحات التي قام بها السطان محمود الثاني. لقد انزعج السفير التركي في باريس مصطفى رشيد من تلك الظاهرة، فأرسل في تقاريره التي أرسلها تباعاً بين عامي 1834 و1835، يؤكد أن فرنسا تعد نصيراً لمصر، وأن صحافتها تأتي على ذكر محمد علي بلهجة استحسان. وأشار إلى أن الاشاعات التي روّجها محمد علي عن نفسه تلقاها الناس هنا باعتبارها طموحاً منه الى الحضارة الغربية. وفي المقابل زاد امتناع مصطفى رشيد في إمكان حل الصراع التركي - المصري بمساعدة إنكلترا، فأرسل في آذار مارس 1836 يلفت الباب العالي الى استخفاف القنصل الإنكليزي بمحمد علي. ووصل الى استنتاج مفاده أن سخط إنكلترا على محمد علي ازداد، وأشار على الباب العالي ألا يضّيع تلك الفرصة المواتية. وفي الوقت نفسه حرصت الامبراطورية ألا تستفز روسيا، على رغم عدم ثقتها فيها، إذ أن الباب العالي، رفض دعوة الخبراء العسكريين الإنكليز إلى الامبراطورية العثمانية، خشية اعتراض روسيا على هذه الخطوة.
وعلى رغم تحسن العلاقات بين تركيا وانكلترا، فإن الأخيرة في أربعينات القرن 19، لم يكن لديها مانع في ضم مصر إلى ممتلكاتها، لكنها تعتزم القيام بذلك مستقبلاً.
كانت انكلترا لا ترغب في حدوث تقارب بين تركيا وروسيا من ناحية، وفرنسا من ناحية أخرى. ورأى اللورد بالمرستون أن أي تقارب بين روسيا وفرنسا، سوف يؤدي الى انقسام الامبراطورية العثمانية الى دولتين منفصلتين: الأولى تتكون من مصر وسورية والجزيرة العربية، وهذه ربما تخضع لفرنسا، والثانية تضم تركيا الأوروبية وآسيا الصغرى، وهذه سوف تدور في فلك روسيا. ومن هنا، كان على إنكلترا أن تتريث في مطامعها تجاه أجزاء الامبراطورية العثمانية. وفي الوقت نفسه، فإن إنكلترا قامت بتحذير الباب العالي من أنه في حال استدعاء قوات روسية في أية حرب مع محمد علي، فإن ذلك سيجعل من الدول العربية جبهة واحدة ضد روسيا وتركيا.
وفي مقابل الاتفاقية التي وقعتها تركيا مع روسيا بعد هزيمتها العسكرية، فإن تركيا وقعت اتفاقية أخرى مع إنكلترا، لكنها اقتصادية هذه المرة حتى لا تثير باقي دول أوروبا، وذلك ضمن معاهدة 1838، التي تم فيها إلغاء نظام الاحتكار السائد في الامبراطورية العثمانية، مع إعطاء الضوء الأخضر لبداية ظهور النمط الرأسمالي في العديد من بقاع الامبراطورية، حتى تلتحق بالسوق العالمية، ولكن عبر المنتجات البريطانية.
وفي آيار مايو 1838 واجه محمد علي مقاومة جماعية من جانب الدول الأوروبية، عندما حاول الاستقلال ثانية عن الامبراطورية العثمانية، لكنه عاد في أيلول سبتمبر من العام نفسه ليقابل القناصل العموميين لكل من روسيا والنمسا وفرنسا، داعياً إياهم لتأييده لدى السلطان في طلبه الاعتراف بحق الوراثة في حكم ولايته، وتعمد أن يتجنب الخوض في حدود اقطاعيته المستقلة. وقد دفع التقارب التركي - الإنكليزي روسيا الى أن ترسل في العاشر من نيسان ابريل 1839 بمذكرة إلى محمد علي، تطلب منه وقف تركيز قواته العسكرية في سورية، وسحب جيش إبراهيم باشا الى دمشق. في الوقت نفسه، كان الجيش التركي يقف عند الحدود السورية، ومستعداً لعبورها. وتم ذلك فعلاً في 21 نيسان 1938، حيث عبرت القوات التركية نهر الفرات، لتدخل في عمليات جديدة ضد إبراهيم باشا، وبعد شهرين من بدئها، انهزم جيش السلطان عند نصيبين، في الوقت الذي رفضت روسيا مدَّ يد العون الى السلطان، لأن ذلك كان يعني استفزاز الإنكليز، والدخول معهم في حرب، لم تكن روسيا مستعدة لها.
وبعد بضعة أشهر من الهزيمة، توفي السلطان محمود الثاني في أول تموز يوليو 1839، وفي الرابع من الشهر نفسه قام القبودان باشا أحمد فوزي بخيانة الامبراطورية، وتسليم اسطول السلطان إلى محمد علي. ولقد دفعت انتصاراته الدول الأوروبية الى التدخل على نحو أكثر حماسة، لتسوية النزاع. ووصل الأمر بحكومة السلطان التي فقدت روحها المعنوية الى إعلانها الاستعداد لتلبية مطالب مصر، معتبرة أن الحل الوحيد لإنقاذ البلاد هو عقد صلح معه.
وعلى الجانب الآخر، تمكن مصطفى رشيد وزير الخارجية من إقناع السلطان عبدالمجيد بإجراء العديد من الاصلاحات في أرجاء الامبراطورية، واسفر ذلك عن اعلان خطي شريف جولخانة في تشرين الثاني نوفمبر 1839، الذي وضع عدداً من الشروط الضرورية لحفز النظام الرأسمالي، كما ساعد على نشر التقاليد البرجوازية في حياة المجتمع العثماني. فهذا البيان أكد حرمة حياة وشرف وممتلكات كل الافراد، ومساواتهم امام القانون، مسلمين وغير مسلمين، وسمو القانون المدني على ارادة السلطان، وهكذا، بدأت تركيا تتخلى عن الاستبداد الشرقي، الذي وسم العصور الوسطى. وكان من نتيجة ذلك، ان اتخذت اربع من الدول الخمس الكبرى بعد استبعاد فرنسا، وهي انكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا، ومعها تركيا، في مؤتمر لندن 1840، قراراً باعلان الحرب على محمد علي، إذا رفض شروط الصلح التي املتها عليه القوى الغربية، والتي كانت تستهدف منع إمكان قيام مفاوضات ثنائية بينه وبين الباب العالي مرة اخرى. وكان استبعاد فرنسا عن مؤتمر لندن ضرورياً من وجهة نظر المؤتمرين، لأنها هي التي تدعم محمد علي، وكان من الطبيعي ان تعرقل صدور مثل هذا القرار، وقد أيقن السياسي الانكليزي بالمرستون أنها قد تطلق صيحات الانذار، لكنها لن تدق طبول الحرب ضد التحالف الاوروبي.
في 11 ايلول 1840 قام الاسطول الانكليزي بانزال جنود من انكلترا والنمسا شمالي بيروت، بعد دك العاصمة اللبنانية بمدفعية الاسطول، وفي تشرين الاول اكتوبر لقى جيش محمد علي هزيمة نكراء قرب بيروت، وخوفاً من تصاعد الدور البريطاني في المنطقة، قدم مترنيخ اقتراحآً باعادة حقوق محمد علي في حكم مصر، بشرط اعلانه الطاعة، واعادة اسطول السلطان، وسحب جميع قواته الموجودة خارج مصر. وأيدت روسيا هذا الاقتراح، كما قبل محمد علي به. اما السلطان، فكان يأمل بعزل محمد علي، إلا أن الدول الاوروبية لم تحقق له هذا الامل.
وما أن انتهت الازمة التركية - المصرية، حتى تفجرت الازمة التركية - اليونانية، وانقسمت وجهات نظر الدول الخمس الكبرى في ذلك، طبقاً لمصالحها. فبينما كانت انكلترا وفرنسا تؤيدان اليونان، كانت روسيا وبروسيا والنمسا تؤيد المطالب التركية، وتغلبت الدول الثلاث الاخيرة في فرض وجهة نظرها. لقد اتاح التنافس الدائم بين الدول الخمس، نتيجة تعارض مصالحها، وخصوصاً التوجه السياسي لدول غرب اوروبا المناهض لروسيا، ان تتمكن الديبلوماسية العثمانية من استثمار هذا التناقض، والافادة منه الى اقصى درجة، وهذا راجع بالأساس الى حنكة ومهارة مصطفى رشيد باشا، السفير، واول وزير للخارجية، وبالتالي فرضت تركيا وجهة نظرها في الأزمة التركية - اليونانية.
ولم يكن النزاع مع مصر او اليونان هو ما يشغل الديبلوماسية التركية، ولكن كان هناك بعض المشكلات التي تراجعت بشكل موقت، ربما لأنها لا تمس امن الامبراطورية مباشرة، مثل مشكلة احتلال فرنسا للجزائر العام 1830. لقد كانت هذه المشكلة تثار من وقت إلى آخر، ولكن بشكل غير حاسم. وفي نهاية الثلاثينات دارت مفاوضات مع وزير خارجية فرنسا لحل هذه المشكلة، فوعد بإعادة الجزائر الى مالكها الاصلي، وهو السلطان، وبعد ذلك اضطر لكشف الوجه الحقيقي لسياسة بلاده، حين اعلن ان فرنسا ترى ان الجزائر لا تدخل في نطاق الامبراطورية العثمانية، وإنما كانت دولة مستقلة يحكمها متمردون.
واعترض مصطفى رشيد على هذا الادعاء، واشار الى ان الجنرال غيليمينو سلّم الحكومة التركية مذكرة رسمية بعد احتلال الجزائر، جاء فيها أن الجزائر سوف تعود الى الامبراطورية العثمانية. وفي هذا الوقت كانت روسيا والنمسا تؤيد أن إعادة الجزائر الى الهيمنة العثمانية، وكذلك كان موقف انكلترا، الا انها كانت ترى ان الاعادة في الوقت الحاضر صعبة. ولقد ظل الباب العالي يتحين الفرص التي تصطدم فيها مصالح الدول الاوروبية مع فرنسا لاعادة الجزائر، لكن ذلك لم يتحقق. وفي المقابل ظلت المقاومة الجزائرية محتدمة، تحت قيادة الامير عبدالقادر الجزائري، في الوقت الذي كانت فرنسا تخشى ان تقوم تركيا باستخدام تونس لتكون قاعدة لامداد الثورة الجزائرية، ومن هنا، بدأت تفكر في الاستيلاء عليها، حتى تمنع مثل هذا الاحتمال.
لقد كان بايات تونس يدركون ضرورة تأييد الباب العالي لهم، في ما يتعلق بالادعاءات الاوروبية في تونس، ولهذا فانهم رأوا انه من الضروري الا يقطعوا - بشكل نهائي - تبعيتهم للعثمانيين، على رغم انهم دافعوا عن استقلالهم الذاتي دوماً. لذلك فإنه في حين حصل احمد بك، باي تونس على حماية فرنسا، فإنه اراد - في الوقت نفسه - الاحتفاظ بعلاقاته الاسمية مع الامبراطورية العثمانية، لقد اراد حماية بلاده عبر التوازن الواهي بين الجارتين العظميين: تركيا وفرنسا.
وتصل المؤلفة الى ان الديبلوماسية التركية ابلت بلاءً حسناً في ثلاثينات واربعينات القرن التاسع عشر، من اجل الحفاظ على وحدة الامبراطورية العثمانية، في ظل احتدام النضال الداخلي للشعوب المقهورة، مع سعي دائب للدول الاوروبية للحصول على نصيبها من التركة العثمانية. لقد استطاعت تلك الديبلوماسية، بفضل جهود مصطفى رشيد باشا، ان تفيد من التناقضات القائمة بين الدول الخمس الكبرى، الا انه من الطبيعي ان يظل اي نجاح ديبلوماسي محدوداً في غياب القوة العسكرية التي تدعمه، والتي كانت تفتقدها الامبراطورية العثمانية في تلك الفترة.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.