اسم الكتاب: الأرشيف الإمبراطوري النمسوي العائد للبنان وللشرق الأوسط 1793 - 1918 - الجزء الثاني 1836 - 1840. منشورات الكسليك، لبنان 1998 . المؤلف د. كرم رزق "الأرشيف"، أو المحفوظات مادة دسمة لكتابة التاريخ. فهي من الأصول الأساسية، التي إذا ضاعت، لم يضع معها التاريخ كما يظن البعض، ولكن تضيع أهم مادة من المواد التي يركن اليها المؤرخ لاعادة احياء ذكرى الماضي. ولقد أصبح معلوماً أن كتابة تاريخ أي بلد، ولبنان واحد من هذه البلدان، تقتضي في ما تقتضي، وقبل ولوج باب أي محفوظات كانت، القيام بمسح شامل للمحفوظات المنتشرة داخل الوطن وفي جداره وفي الخارج وفي البلدان التي كان للبلد علاقة بها أو البلدان التي تعنى بجمع تراث حضارات الشعوب وتعتبره كنزاً تزيّن به إطلالتها الثقافية العالمية. وحريّ القول، أنه، كلما استنفدنا النماذج المعنية من المحفوظات جاء تظهير صورة المعلومة التاريخية أدقّ وأغنى. ولما كان يستحيل على المرء بمفرده وضمن امكانياته المادية والجسدية والذهنية أن يدّق أبواب المحفوظات المتعددة والمتنوعة كان لا بدّ لتسهيل عمل الباحثين اما أن تقوم مؤسسات الأرشفة في الدولة المعنية بتصوير واستنساخ ما يمت لتاريخها بصلة وهو موزّع في بلدان شتى" أو أن يقوم أفراد أو مؤسسات بنشر وثائق أرشيف معين مما يسهل عملية الاطلاع عليه بطرق منهجية حديثة، علماً أن هذا النشر لا يلغي ولا يجوز أن يلغي مبادرة الدولة بجمع نصوص وثائق تاريخها المتناثرة في أربعة أقطار الأرض. ولقد دفعت الحميّة ببعض الباحثين اللبنانيين الى نشر وثائق هذا المركز الوثائقي أو ذاك، بنصوص كاملة أو مختارة. ومن بين الذين بدأوا العمل بنشر الوثائق الأب الدكتور كرم رزق الذي يعنى بكل جدّ بنشر المحفوظات الإمبراطورية النمساوية العائدة للبنان وللشرق الأوسط، بعدما حصل على اذن السلطات النمسوية المختصة. وينتظر ان تصدر المجموعة كاملة في 15 جزءاً تغطي الفترة الممتدة من 1793 الى نهاية الحرب العالمية الأولى. ومنذ أيام في شهر تموز يوليو 1998 صدر الجزء الثاني من المجموعة وهو يضم المراسلات والملحوظات والتقارير الديبلوماسية القنصلية الصادرة من والى النمسا خلال الفترة الممتدة من 1835 الى 1840، ووثائق هذه الفترة تلقي أضواء جديدة على العلاقات الدولية التي عرفت حمى صراع كبير بين النمساوفرنسا وإنكلترا وروسيا والمانيا على مصالحها على أرض السلطنة العثمانية المتداعية، والتي كان جبل لبنان خاصة ولبنان عامة البؤرة الأكثر حيوية فيها على الصعيد السياسي كأرضية زئبقية لصراع الدول سياسياً واقتصادياً. عمل المشرف على هذه السلسلة، الدكتور رزق، على نشر الوثائق بلغاتها الأصلية: الألمانية والإيطالية والإنكليزية والتركية والعربية والفرنسية، تنشرها بحذافيرها مع مقدمة موجزة بالفرنسية تختصر كل وثيقة، مما أعّد لوحة بيانية بكل وثيقة وتاريخها والصادر والوارد فيها وعنوان مضمونها. يشتمل الجزء الثاني على مرحلة حساسة من تاريخ المنطقة بعدما استقر حكم محمد علي باشا وابنه ابراهيم وبدأت محاولات الدول الأجنبية والسلطنة العثمانية على زحزحته عن بلاد الشام عامة. فبعدما قام محمد علي بعدة اصلاحات في الإدارة المدنية، بدأ يشعر بالعجز عن المحافظة على الأراضي الشاسعة التي سيطر عليها، فاضطر الى اجراءات غير شعبية أفضت الى مجموعة من حركات العصيان ضدّ الحكم المصري ازدادت شعبيتها وازداد زخمها في جبل لبنان. وعمد محمد علي الى تقسيم اللبنانيين طائفياً مؤلّباً هذه الطائفة على تلك. كما استعملت الدول الأجنبية السلاح الطائفي وكذلك السلطنة ضد محمد علي. وعمدت السلطة العثمانية وانكلترا والنمسا على محاصرة مصالح محمد علي، خصوصاً بعد توقيع انكلترا والسلطنة لمعاهدة "بالطاليمان" في 1838. واندفعت السلطنة العثمانية الى حسم المسألة عسكرياً ولكنها خسرت في معركة نيزيب في 24 حزيران 1839، فاتحة أبواب اسطمبول أمام جيش ابراهيم باشا. ومع موت السلطان في 30 حزيران يونيو 1839، وفي أثر الخسارة الفادحة خسرت السلطنة ورقة الحَكَم التي كانت تقود بها التحالف ضدّ محمد علي، تاركة ذلك للتحالف الأوروبي بعد مداخلة "مترنيخ" وملحوظة حول الحلّ المقترح من قبله في 27 تموز، ولم يتنبه محمد علي الى أن الحلّ للمسألة لم يعد بيد السلطان الجديد، عبدالمجيد، بل أضحى بيد التحالف الأوروبي. وفي داخل هذا الجوّ المتأزم كان الأمير بشير الشهابي الثاني يحاول عبثاً درء أخطار المسألة الشرقية عن امارته، ومحمد علي يزداد تخوفاً من استعمال التناقضات في جبل لبنان لتفجير الموقف من الداخل، فازداد قلقاً وعمد الى نزع السلاح من اللبنانيين، حتى من الذين أخلصوا لمشاريعه. وكانت ردّة الفعل على هذه الإجراءات عامية 1840 التي دفع محمد علي بكل قواه العسكرية للإجهاز عليها. ثورة أهل الجبل عجّلت في ابرام اتفاقية لندن في 15 تموز 1840 التي وافقت عليها السلطنة ودول أوروبا ما عدا فرنسا، لوضع حدّ لوجود محمد علي في سورية ولبنان وفلسطين. وكانت هذه المعاهدة انموذجاً في العلاقات الدولية، وكانت ملهمة لترسيم حدود بعض الدول اثر الحرب العالمية الأولى. رفض محمد علي اتفاقية لندن، فعادت الثورة في لبنان للاشتعال، وأقدمت دول أوروبا على تنفيذ سلسلة اجراءات سياسية وعسكرية لطرد محمد علي من الأراضي التي احتلها وابقاء سلطته فقط على مصر. وهذا ما تتكلم عنه 244 وثيقة تشكّل مادة الجزء الثاني من مجموعة الأرشيف الإمبراطوري النمسوي. ومن نماذج الوثائق المنشورة في الكتاب: - وثائق اقتصادية عن احتكار تجارة الحرير في سورية ولبنان.-وثيقة عن سياسة انكلترا تجاه الباب العالي حول مسائل الشرق مرسلة بالفرنسية من السفير "ستوقر" الى مترنيخ في 20 كانون الثاني يناير 1836. - فرمان سلطاني لمصلحة النمسا يعطيها الاتفاقات التجارية التي كانت حاصلة عليها انكلترا. - الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري في لبنان وسورية تحت حكم محمد علي استناداً الى وثيقة مذكرة بالألمانية من الاسكندرية في حزيران 1836. - عدة وثائق من عام 1837 عن اللاذقية في سورية. - عدة وثائق من عام 1838 بالفرنسية والإيطالية عن ثورة حوران مرسلة الى مترنيخ وسفيره "ستومر" من قبل قناصل النمسا. - وثائق عن الثورة في لبنان في 1838 باللغة الفرنسية والإيطالية وعن انشقاق الجماعات اللبنانية الطائفية عن بعضها البعض. - وثائق عن النصر في "نيزيب". - وثائق عن الملاحظات الأوروبية التي اتفق عليها في 27 تموز 1839، وردّ محمد علي عليها. - وثائق عن الثورات في سورية وفلسطين ولبنان في 1839 ضد الحكم المصري وهي بالفرنسية والألمانية والإيطالية. - وثائق عن تجريد اللبنانيين من سلاحهم في 1840. - دور الأمير بشير الشهابي. - محاولة سحق ثورة الموارنة باللغتين الفرنسية والألمانية. - معاهدة لندن في 15 تموز 1840 بين بريطانياوالنمسا وروسيا وبروسيا والباب العالي. - نصوص محاولات حلّ مسألة الصراع بين الباب العالي ومحمد علي خاصة من قبل فرنسا. - نصوص دخول بريطانيا عبر عملائها لتأجيج الثورة في لبنان. - قرارات وضع حدّ نهائي لوجود محمد علي في سورية ولبنان وفلسطين وإجلائه بالقوة. - قرار السلطان بخلع محمد علي موجّه بالعربية الى سكان سورية في أيلول سبتمبر 1840. - قرارات خلع محمد علي ومحاصرة مرافىء سورية ولبنان بالإنكليزية والفرنسية. هذه عيّنات من بعض الوثائق الواردة في الكتاب، اضافة الى أخرى تختصّ بمسائل أخرى اقتصادية وسياسية وعسكرية ودينية واجتماعية تتعلق بوجود محمد علي في بلاد الشام وعلى أبواب الأناضول منتظراً الفرصة المناسبة للانقضاض على اسطمبول. غنيّ عن القول أن ما يقدمه كرم رزق للباحثين، الجزء الثاني من مجموعة الأرشيف النمسوي، صيد وثائقي مهم للغاية يغني حقل الاستعلامات التاريخية لفترة زمنية كان للنمسا، تحت قيادة مترنيخ، دور قيادي فيها. ولقد أحسن في التقديم للوثائق وفي نشرها ضمن المعايير العلمية المتعارف عليها وفي التقديم للوثائق، ووضع اللوحات البيانية التي تسهل تتبعها