يعتمد صانعو القرار في إسرائيل عند تقديرهم للمواقف السياسية الاستراتيجية على تقارير معلومات وتقديرات وتقويمات أجهزة الاستخبارات - لا سيما الموساد - والتي تعطي اهتماماً بارزاً لدراسة شخصيات متخذي القرار في الدول العربية وعلى رأسهم بالطبع رؤساء الدول، وما يتضمنه ذلك من دراسة لحالاتهم الصحية والنفسية والمعنوية، وتاريخ حياتهم، والظروف البيئية التي أثرت ولا تزال تؤثر فيهم، إلى غير ذلك من العوامل المؤثرة في اتخاذهم للقرارات السياسية في بلدانهم، لا سيما تلك المتعلقة بالنواحي الخارجية والأمنية. وبقدر ما كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد موضع اهتمام الموساد، لا سيما في الآونة الأخيرة بالنظر إلى تدهور حاله الصحية في وقت كانت المفاوضات على المسار السوري تشد الاهتمام. فقد أولت الموساد اهتماماً أكبر لدراسة خليفته الدكتور بشار الأسد، منذ برز اسمه عقب مقتل شقيقه باسل في حادث سيارة العام 1993. وشملت هذه الدراسة مدى تأثره بالايديولوجية السياسية لوالده، وهل ينتمي الى المدرسة السياسية البعثية أم ينتمي الى المدرسة الليبرالية، ومدى تأثره بالحياة الغربية بالنظر إلى الفترة التي قضاها للدراسة في بريطانيا، وما هي أولويات العمل الوطني عنده: هل الملفات الخارجية أم الداخلية وهي متعددة؟ وتوصلت الاستخبارات الإسرائيلية الى بعض القناعات حول شخصية بشار الأسد، أبرزها أنه وإن كان لا ينتمي الى الجيل المسؤول عن هزيمة حزيران يونيو 1967، إلا أنه يسير على درب والده في ما أرساه من مبادئ إزاء قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، أبرزها عدم التفريط في أي جزء من الجولان، مع الاستعداد في المقابل للقبول بترتيبات أمنية وتطبيع في العلاقات مع إسرائيل، كما أنه لا يفضل تجزئة المفاوضات أو اسلوب الخطوة خطوة، ويحبذ حل القضية مرة واحدة وكحزمة واحدة. وأنه ليس في عجلة من أمره للاندفاع في المفاوضات مع إسرائيل للوصول الى التسوية بأي ثمن، خصوصاً أن الملفات الداخلية التي تركها والده مفتوحة كثيرة، وقد باشر هو بنفسه الكثير منها في حياة والده وبتوجيه منه، وأبرزها محاربة الفساد، وتحديث الدولة بأجيال شابة، والاصلاح الاقتصادي، وتغيير بعض القوانين أو إلغاؤها، وكلها ستستحوذ على معظم اهتمامه وجهده، لا سيما أنه سيكون في حاجة ماسة لترسيخ قواعد وركائز حكمه. ومن دراسة اهتمامات بشار الأسد بتحديث سورية لا سيما في مجال المعلومات والكومبيوتر، وحضوره المكثف للجمعية العلمية السورية للمعلوماتية التي يترأسها، وتشجيعه للبرامج المتسارعة لتعليم الكومبيوتر في سورية، والندوات التي تعقدها الجمعية حول السياحة والصحة والتعليم، وغيرها، توصلت الموساد إلى أنه شخصية فاعلة، وقادر على تنفيذ ما يريد، ولا تثنيه العقبات والعراقيل عن تحقيق أهدافه السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، مستفيداً من رصيد والده في دوائر الحزب والحكومة والشعب، ومن التفاف المؤسسات العسكرية والدستورية حوله. كما أدركت الموساد أن شخصيته تحكم سورية بهذه الخلفية العقائدية والسياسية والعلمية ستعتبر إسرائيل عدوها الأول، وأن محاربتها ينبغي أن تتم بالأسلحة نفسها التي أوصلت الدولة العبرية إلى هذه الدرجة من القوة والتفوق، أي من خلال العلم والتطوير التكنولوجي وتحديث مؤسسات الدولة في مختلف المجالات، وتقوية الاقتصاد السوري، والانفتاح على العالم الخارجي، وإخراج سورية من عزلتها، والاعتماد على البعد القومي الذي تميزت به سياسة والده الراحل في توسيع علاقات بلاده السياسية والاقتصادية مع الدول العربية كافة، إلى جانب روابط سورية التقليدية مع عدد من الدول الكبرى أبرزها فرنسا وروسيا، وذلك من أجل تحقيق أهداف التنمية في المجالين الانتاجي والخدماتي، وبما يرفع من مستوى معيشة الشعب السوري الذي يعتبره بشار السند الرئيسي له في تدعيم ركائز حكمه. ولا تنسى الاستخبارات الإسرائيلية في هذا الصدد مغزى تصريح أطلقه بشار مرة قال فيه: "إن إسرائيل تسعى الى الاستفادة من مرحلة السلام المقبلة بحيث تصبح قوة الاستقطاب الوحيدة في المنطقة معتمدة في ذلك على التطور التكنولوجي الذي وصلت إليه، بينما تبقى بقية المنطقة في ظل التبعية. وأورد مثالاً على ذلك أن إسرائيل سبقت العرب أنفسهم في صياغة البرامج المعربة، كما حدد رؤيته لأولويات إسرائيل في المياه أولاً ثم الأمن لأنها لا تخشى عدواناً عليها لجهة أن موازين القوة العسكرية دائماً في مصلحتها، وبعد ذلك تأتي الأرض لتحقيق أهدافها بعيدة المدى في استيعاب 10 ملايين يهودي موجودين في مناطق مختلفة من العالم تسعى إسرائيل لهجرتهم إليها. وهو ما يفرض على الدول العربية - في رأيه - أن تسعى هي الأخرى في المقابل لإزالة الخلل في الميزان الاستراتيجي القائم لمصلحة إسرائيل، وهو ليس خللاً عسكرياً فقط ولكنه خلل استراتيجي يشمل أبعاداً سياسية واقتصادية وأيديولوجية واجتماعية الى جانب البعد العسكري والبعد الجيوبوليتيكي الذي تتميز فيه الدول العربية كثيراً على إسرائيل. لذلك لم يكن غريباً أن يحذر شمعون بيريز قومه من التفاؤل بمقدم بشار الأسد، لأنه سيكون، على درب أبيه، ليس على استعداد للتفريط في شيء من الجولان، فهو يريدها كاملة، ويدرك تماماً بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان أن الورقة الباقية في يد سورية هي الاعتراف بإسرائيل وتوقيع معاهدة سلام معها على نمط المعاهدة المصرية وليس المعاهدة الأردنية التي سمحت لإسرائيل باستئجار بعض الأراضي الأردنية، كما يدرك بشار أيضاً مدى تلهف باراك على تحقيق هدفه في وضع نهاية للصراع العربي - الإسرائيلي بالاتفاق مع سورية، وما يستتبع ذلك من تطبيع علاقات إسرائيل مع باقي الدول العربية، بما يسمح للدولة العبرية بالنفاذ إلى العالم العربي من أبوابه الشرعية لتحقيق الغايات والأهداف القومية الإسرائيلية، ولكن ليس من خلال الحرب وضم الأراضي بالقوة وعمليات الاستيطان، ولكن من خلال السيطرة الاقتصادية واستغلال العولمة واتفاقية التجارة الحرة والانفتاح الثقافي والسياحة، إلى آخر ما تضمنه مشروع الشرق الأوسطية الذي طرحه شمعون بيريز، الرئيس المقبل لدولة إسرائيل. ففي ملحق نهاية الأسبوع لصحيفة "معاريف" نشر - قبل رحيل الأسد - مقال تحت عنوان "معجزات السلام مع سورية" وتحته وردت بعض التفاصيل: ستصل المياه من تركيا عبر سورية، وسنتنزه ونتجول في دمشق، وستختصر الخدمة العسكرية، وستصبح العراق منعزلة وسيسقط صدام حسين. وتأسس المقال على رؤية ثلاثة خبراء في شؤون سورية هم: موشيه ماعون عميد احتياط، وأوري ساغور، وايتمار رابينوفيتش، ثم علق المقال على ذلك بطرح سؤال مهم هو: إذا وقعنا سلاماً مع الأسد وفرضه على شعبه، فمن يضمن أن يستمر السلام من بعده؟ وردّ الخبراء على هذا السؤال بأن المقبل من بعد الأسد سيكون مكشوفاً أكثر أمام الضغوط الأيديولوجية، والدليل الى ذلك فشل التطبيع مع مصر على رغم معاهدة السلام معها. أما صحيفة "هاآرتس" فذكرت في مقال كتبه موشى أرينز وزير الدفاع السابق أنه إذا كان باراك يتطلع من وراء الإسراع بالاتفاق مع سورية للحصول على 70 بليون دولار من الولاياتالمتحدة، فإن سورية بالتالي لن توقع أي اتفاق قبل أن تضمن جزءاً من هذه الغنيمة لا يقل عن 6 إلى 10 بلايين دولار، وهو ما دفع شاؤول زيف لكتابة مقال في صحيفة "هاتسوفيه" تحت عنوان "علينا أن ننتظر الوريث" ويشير زيف في مقاله الى تحليل كتبه موردخاي كيدار الذي خدم 24 سنة في الاستخبارات الإسرائيلية ومتخصص في الشؤون السورية، يوضح فيه أن على باراك أن ينتظر صعود الوريث الجديد الى الحكم في سورية، لأن هذا الوريث لا ينتمي الى الجيل المسؤول عن هزيمة حزيران يونيو 1967، ومن ثم فليست لديه عقدة ضرورة إزالة كل آثار الهزيمة، ومن الممكن أن يكون أكثر انفتاحاً للقبول بحلول وسط ترضي الطرفين. ثم يؤكد كيدار أن الأسد - وبالتالي من سيخلفه - يفهم جيداً أهمية السلام بالنسبة إلى إسرائيل، وكلما يمر الوقت يتأكد الأسد أنه سيحصل على كامل الثمن الذي حدده للسلام، وهذا الثمن هو الجولان بالكامل. فإذا كان هذا هو موقف المسؤول عن هزيمة 1967 واحتلال إسرائيل للجولان، فهل نتوقع أن يكون موقف خليفته غير المسؤول عن ذلك أقل تمسكاً من سلفه بضرورة الحصول على الثمن كاملاً، أو أن يكون في عجلة من أمره لتوقيع أي معاهدة سلام بأي ثمن؟ أما يعقوب حسداني فيناقش هذه المسألة من زاوية أخرى في مقال له في "معاريف" تحت عنوان "منتج سيئ في غلاف جميل" فيقول إنه "كلما تشدد باراك في الترتيبات الأمنية فسيحصل على تطبيع أقل، لأن الأمور مرتبطة ببعضها"، وبالتالي فإن السؤال الذي لا يزال مطروحاً في الساحة الإسرائيلية هو: أيهما أهم لإسرائيل بعد استعادة سورية للجولان، وهو أمر حتمي ينبغي التسليم به، السلام أم الأمن ومن دون الجولان؟ أما تعليقات الخبراء الإسرائيليين بعد رحيل الرئيس الأسد، فأجمعت على أن إسرائيل ينبغي أن تعيد حساباتها إزاء المقبل الجديد في دمشق، ونيته في استئناف المفاوضات، لا سيما أن الطاقم المحيط به - والمتمثل في عبدالحليم خدام، وفاروق الشرع، ومصطفى طلاس، ورئيس الوزراء الجديد مصطفى ميرو - هو الطاقم نفسه الذي كان يحيط بوالده الراحل، والمسؤول عن ملف المفاوضات هو الطاقم نفسه الذي سيعتمد عليه بشار في التعامل مع إسرائيل والولاياتالمتحدة مستقبلاً. لذلك فإن هؤلاء الخبراء الإسرائيليين يتوقعون أن يعطي بشار الأسد أولوية في الاهتمام بنزع الفتيل من كل المواقع التي يمكن أن تعطي إسرائيل المبرر أو الذريعة لقياس قوته من خلال عمل عسكري حتى ولو كان محدداً. بدءاً من الموقع اللبناني باعتبار أن الوجود السوري هناك هو الذي يثير اعتراض إسرائيل والقوى المؤيدة لها في لبنان - لا سيما بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجولان - كما يثير أيضاً اعتراض الولاياتالمتحدة ودول كبرى صديقة لسورية مثل فرنسا وروسيا، لذلك سيسعى بشار إلى تقليص هذا الوجود إلى أدنى حد، ثم يسحبه نهائياً في إطار اتفاق مع كل من لبنان و"حزب الله" وإيران، وسيكون ذلك بمثابة استجابة لطلب الحكومة اللبنانية، كما سيقترن بتهدئة "حزب الله" الأوضاع في منطقة الحدود مع إسرائيل، حتى لا تنفذ تهديداتها بتوسيع نطاق قصفها للبنان ليشمل أهدافاً سورية. ليس ذلك فقط بل من المتوقع أن يشمل الاتفاق امتناع "حزب الله" عن تنفيذ مخططاته في تدريب الفلسطينيين من منظمة "حماس" لتوجيه ضربات انتحارية ضد أهداف إسرائيلية. * لواء ركن متقاعد وخبير استراتيجي مصري.