الى الأستاذ: محمد العلي، باحثاً عن قطرة ضيعها في البحر! فجعني وجه عبدالله، الحزين كأرض: - ما بك؟ - مررت بجانب البحر ولم أره!! دقت كلماته في حلقي الحنظل، فقلت له بمواساة: - ألا تعرف البحر؟! ظل سؤالي معلقاً فوق وجهه كصمت الأيام الخوالي، ولم يكن لي غير أن أداري عينيه ليفرّ السؤال من وجهه. كبر صمته كصخب البحر الهائج بجوارنا.. وغطتني غيمة قلق شاسعة، ركضت فيها، وصمته يتشعب من حولي، عدت الى حيث يجثم ماداً عينيه الى حقيقة بعيدة.. نطقت لسؤالي الناشب فيه: - إذ تقفر الشواطئ من أقدام الأطفال يا عبدالله، يسحب البحر أحزانه كل مساء، ويدلف كعجوز، بعيداً عن ضجيج المدينة، وأضوائها، حيث أحضان الظلمة الفسيحة. هناك سرير أحلامه، وغار هدوئه: ينام ويفيق، ويعد في أوقاته الخاصة أغانيه، وهداياه التي سيحملها للصيادين: يصنعها من صبره على هيئة أمواج متقافزة داساً وسطها اللآلئ، والمحار، وعطور الأعماق! لا يدري:- وهو الحيوان الضخم الواسع المسكين - أنه كشف أحشاءه، وترك بطون الأصداف مفتوحة فاضحة عري المحار، والسمك الصغير، والطحالب، والكائنات الدقيقة!.. كلها: تفغر... في عيون الليل خائفة! فرّ- الآن - السؤال المتعلق في وجه صديقي كطائر، صوب أسمه الى اصطفاق الموج.. وغاب كبروق الليل الطارئة... أفاق عبدالله، وأخذ يمشي نحوي بعينيه: بمساحات حديث لا نهاية لها، زرعت له هذا القول: - في ذلك الوقت - يا عبدالله - يأتي الرجال الذين لا يرون من الأرض غير أتربة الذهب.. يحملون أدوات الحفر، وأمتار القياس، وخرائط البنايات، ورزم المنفذين.. وينقضون على أحشاء البحر، يفرونها.. تتعالى صرخات المحار والسمك الصغير والطحالب والكائنات الدقيقة.. تبتعد النجوم التي كانت تخفق لها في السماء.. والرجال الليليون، المدلهمون بالبيع يهيلون الرمل، والإسمنت.. يدفنونها بأصواتها في الأرض.. تغور بعيداً.. بعيداً، وهي تعول تحت طين البنايات وقاماتها العملاقة، تدور، مثل الفجيعة، وهي لا تعرف كيف ترجع الى بحرها! قبيل الفجر، يتمطى البحر النائم، عائداً بفرحه، الى شاطئه البعيد.. محملاً بمحاصيله الليلية: الأغاني، والأسماك اللامعة، والشوق الكبير للشباك.. وهدايا الأمواج المتقافزة.. يلمح أخيلة الصيادين المبكرين كالطيور، يضحك، مطلقاً قطعان الأمواج البيضاء لملاقاتهم.. ولكنه يلمح بعينيه البعيدتين غيمة قاتمة فوق رؤوسهم، ونقاطاً صغيرة على الشواطئ النائمة مثل الأطفال، ويسمع صراخاً يتعالى نحوه.. نحو مخدعه وأسراره وكنوزه: إنهم الصيادون والأطفال يلملمون جثث الأصداف، ويتجهون بها الى مقابر البنايات.. يتوقف البحر عن الضحك الآن، ويأمر أمواجه أن تصطخب.. يستدير، ويعود، بعيداً، بعيداً، حيث لا يراه المارون بجواره!! * كاتب سعودي.