يتمثل النجاح الأبرز ليوسف شاهين في السنوات الاخيرة محلياً في انتقال افلامه من جمهور النخبة الى جمهور الصالات العريض، وعالمياً في الخروج من دائرة المهرجانات الضيقة الى دوائر العرض التجاري الاكثر اتساعاً. ولا تقتصر هذه النجاحات على دول ارتبطت ثقافياً وتاريخياً ببلاد العرب، وارتبط مثقفو العرب بها كفرنسا فحسب، بل تجاوزتها ايضاً الى دول كألمانيا يعود تاريخ عرض آخر فيلم عربي تجارياً فيها الى الخمسينات. ولكن ما هو رد فعل الاعلام والجمهور الالماني على افلام يوسف شاهين؟ قبل مدة وجيزة، انتهى عرض فيلم يوسف شاهين الاخير "الآخر" الذي استمر اسبوعين في دور سينما معروفة في برلين، منها سينما "هاكيشير هوفة" المشهورة وسط المدينة. هذا الفيلم، وهو انتاج مصري - فرنسي مشترك، هو الثاني ليوسف شاهين يعرض تجارياً في ألمانيا في السنوات الاخيرة، اذ سبق عرض "المصير" قبل عام تقريباً. ويحكي فيلم "الآخر" قصة حب بين آدم هاني سلامة وحنان حنان ترك. آدم يقف ممزقاً بين حبيبته حنان التي ترمز الى مصر وأمه الاميركية مارغريت نبيلة عبيد التي ترمز الى العولمة، لينتهي الفيلم بعد مغامرات وصراع بموت الحبيبين وعودة مارغريت الى موطنها في رسالة واضحة فحواها: العولمة تأكل اولادها. اقتصرت تعليقات الصحف والمجلات الالمانية على الفيلم، على مقالات مقتضبة محايدة مبعثرة هذه المرة. مجلة "سينما" المتخصصة رأت ان المخرج المصري المعروف اعاد في "الآخر" رواية حكاية روميو وجولييت في قالب مصري معاصر، محولاً إياها ما يشبه المسرح الغنائي ذا الالوان الزاهية. وفي استفتاء تجريه المجلة دائماً مع قرائها عن الافلام الجديدة في دور السينما، قال نصف المشاركين ان الفيلم ممتاز جداً. في حين اعتبر اكثر من ثلثهم انه سيئ جداً. وهذه النسب الكبيرة في اقصى طرفي الميزان تعكس حقيقة تعامل زائر السينما الالماني مع افلام يوسف شاهين الغريبة عنه، فهو اما ان يحب هذه الافلام كثيراً واما ينفر منها كثيراً، من دون ان يستطيع التعامل معها كأفلام عادية من جملة ما يعرض من افلام في صالات المدينة المختلفة. مجلة "تيب" نصف الشهرية اعتبرت، من جهتها، ان محور الفيلم هو آثار الصدام بين ثقافتين من جهة وآثار الصدام بين الحداثة والتقاليد من جهة اخرى، ورأت ان يوسف شاهين اثبت مرة اخرى انه استاذ في كسر المحرمات والقوالب الاسلوبية الجاهزة. اما صحيفة "دي تاغيس تسايتونغ" البرلينية اليومية فركّزت في اسطر قليلة على اسلوب يوسف شاهين الفريد في الربط بين التعصب والفساد، مشيرة الى نجاحه في إلقاء نظرة ساخرة في فيلمه على مجتمع الاغنياء المحدثين. ولا تعني التقويمات السابقة ان الفيلم لم يواجه انتقادات قاسية من وسائل الاعلام الالمانية، فقد كتبت صحيفة "دير تاغس شغل" اليومية منتقدة ما سمته "اقحام مواضيع العولمة والفساد كيفما اتفق"، معتبرة ان يوسف شاهين، على رغم التصوير المعبّر في فيلمه، يقترب اكثر فأكثر من مستوى "الافلام المبتذلة". اما مجلة "تسيتي" فاعتبرت ان يوسف شاهين "يروي في فيلمه قصة حب من خلال لقطات فاقعة الالوان ونظرات ولهانة وأغان متيمة ولهجة منبرية". ولا يشكّل النقد العالي الصوت، وحده، الفرق في تناول الاعلام الالماني لفيلمي يوسف شاهين "الآخر" و"المصير"، اذ ثمة فرق هائل في حجم هذا التناول ايضاً. وكان "المصير" حظي في حينه باستقبال نقدي واعلامي وجماهيري حافل، واعتبرته الصحف المختلفة نسيجاً تاريخياً اشبه بالاساطير، نجح في جعل الموسيقى والغناء والرمز جزءاً من حبكته الفنية. ولا شك في ان وجود المخرج نفسه في المانيا اثناء عرض "المصير" العام الماضي، ومشاركته في ندوات ثقافية في اكثر من مدينة، كان له دوره في استقطاب الاهتمام الاعلامي، الا ان هذه الحقيقة وحدها لا تفسّر كل شيء، والارجح ان اختلاف موضوعي الفيلمين ادى دوراً رئىسياً في اختلاف التناول. فإذا كان يوسف شاهين ارضى دوق زائر السينما الالماني في "المصير" عندما عرّفه بأسلوب ألف ليلة وليلة الى حياة الفيلسوف العربي ابن رشد، والى انواع الحركات المتطرفة، فقد خاب امل هذا الزائر في "الآخر" الذي يختصر ظاهرة العولمة المعاصرة الى غزو ثقافي وضياع للقيم الانسانية، خصوصاً ان المجتمع الالماني المعاصر يعيش مظاهر العولمة يومياً وعلى مختلف الصعد، ولا يرى فيها تهديداً فقط بل ايضاً فرصاً جديدة للجميع.