الكمّ الهائل من ردود الفعل والتحليلات والتعليقات والتكهنات التي صدرت بعد وفاة الرئيس حافظ الاسد عبّرت عن الدور الكبير الذي لعبه خلال ثلاثة عقود كلاعب رئيسي وسياسي وزعيم في المنطقة والعالم. كما اكدت عدة ثوابت تتركز كلها على اهمية سورية عبر التاريخ وضرورة السلام العادل والشامل في الشرق الاوسط. وجاءت عملية الانتقال السلمي و"السلبي" للحكم من الرئيس الاسد الى نجله الدكتور بشّار والمشاركة العالمية والعربية الواسعة في تشييع الرئيس الراحل وسط مشاعر الحزن والأسى لتلقي مزيد من الاضواء على الدور الذي لعبه كعامل اساسي من عوامل الاستقرار في المنطقة، وهي كلمة شكّلت "القاسم المشترك" الاكبر في قاموس ردود الفعل وتصريحات الزعماء العرب والعالميين وتحليلات الكتّاب والصحافيين كما عبّرت عن الاعجاب بشخصيته التي استطاعت ان تعبر حقول الغام خطيرة بسلام وتنجو من عواصف مدمّرة في محيط مليء بالاضطرابات والمشاكل والهموم والصراعات والمؤامرات والمطامع… والطموحات والمصالح الشخصية والسياسية والاقتصادية والدولية. ورنّة الأسى التي غلبت على اجواء التشييع والوداع أنست الكثيرين رأيهم المسبق ونزعتهم العدائية وبعضها غذتها اسرائيل ضد الرئيس الراحل فحرصت على انتقاء المزايا وتعداد الايجابيات واعتبار وفاته خسارة لسورية… وللعرب… ولمسيرة السلام في الشرق الاوسط خاصة وانها جاءت في وقت يمكن ان يترك غيابه فيه فراغاً كبيراً قد يهزّ الاستقرار في المنطقة ويلهب الكثير من الجراح التي لم تندمل بعد. ويمكن تلخيص ابعاد ما اجمعت عليه ردود الفعل والتحليلات والاصداء بالتركيز على النقاط التالية: ان رحيل الرئيس الاسد حدث مهم ومصيري قد يؤثر على الاستقرار والتوازنات في المنطقة وان هناك توافقاً دولياً على وجوب العمل على منع حدوث فراغ يتسبب بحدوث قلاقل في سورية تمتد الى الجوار ثم تهزّ التوازنات التي تحكم المنطقة منذ فترة وتنسف مسيرة السلام من اساسها. ان عملية الانتقال السلسة والمبرمجة بانتظام بانتظار الاستفتاء العام الشهر المقبل اعطت انطباعاً جيداً عن قدرة المؤسسات التي أقامها الرئيس الراحل على الامساك بزمام الامور وتسليم الأمانة الى الرجل الذي اختاره لخلافته وهو الدكتور بشّار الاسد الذي اصبح مرشحاً رسمياً ووحيداً للرئاسة وقائداً عاماً للقوات المسلحة برتبة فريق وهو اعلى منصب عسكري وقيادي في البلاد. ان الترتيبات التي اتخذت كانت معدّة سلفاً من قبل الرئيس الاسد شخصياً لاعداد نجله لتحمّل هذه المسؤولية وتمهيد الاجواء المريحة له على كافة المستويات الرسمية والشعبية والعسكرية والاعلامية… والخارجية. فقط التوقيت هو الذي اختلف فقد توفي قبل اسبوع واحد من موعد الاستحقاقات المرسومة التي كان سينتخب فيها الدكتور بشّار في القيادة القطرية لحزب البعث تمهيداً لتسلمه منصب النائب الاول للرئيس وتعديل الدستور بالنسبة لسن المرشح للرئاسة. ان الكثير من الملفات الحيوية والهامة ما زالت مفتوحة وانتقلت كما هي من الرئيس الاب الى الرئيس الابن ومعها تحديات واسعة لا بد ان يواجهها الدكتور بشّار الاسد بحكمة وحزم حتى يتجاوزها ويتمكن من غلق ملفاتها الواحدة تلو الاخرى، ولا سيما ملفات السلام والفساد والاصلاح الاقتصادي وتحديث البلاد وتعميم المعلوماتية وتكريس بناء المؤسسات على اسس حديثة متطورة تتماشى مع المتغيرات العالمية وضرورات المرحلة ومستجدات المنطقة وواقع الحال الذي يعيشه الشعب السوري والشعوب العربية بوجه عام لا سيما على الصعيد المعيشي. ان الدكتور بشّار الاسد قد اجتاز الامتحان الاول بنجاح لتماسكه ورباطة جأشه بعد الوفاة وإمساكه بزمام أمور ترتيبات عملية الانتقال وتصرفه كرجل دولة خلال مراسم التشييع ولقاءاته مع القادة العالميين والعرب المشاركين في الجنازة ولا بد كي ينجح في المستقبل من استثمار التعاطف الشعبي لاتخاذ قرارات تحقيق الانفراج. وهنا لا بد من التوقف عند نقاط مهمة منبثقة من هذا الحدث المهم وهي: - اولاً: انه من الظلم مقارنة الدكتور بشّار بوالده وبحنكته وسياسته واسلوبه. وهو خطأ ارتكبه الكثير من المحللين عند وفاة الملك حسين ثم الملك الحسن الثاني. لأن هؤلاء الزعماء لم يكونوا كما كانوا عند تسلمهم الحكم بل اكتسبوا خبرة واسعة خلال سنوات حكمهم الطويلة تخللتها احداث واضطرابات ومحاولات اغتيال ومؤامرات واتصالات سرية وعلنية وعلاقات صداقة وتعاون وتحالف وحالات مدّ وجزر وتجارب بعضها حلو وبعضها مرّ وحروب وانتصارات ونجاحات وانكسارات صقلت شخصياتهم ومكّنتهم من تحقيق ما حققوه من انجازات وما بنوه من رصيد. وكما خطا الملك عبدالله الثاني ملك الاردن والملك محمد السادس ملك المغرب والشيخ حمد بن عيسى آل خليفة امير البحرين خطوات واثقة نحو اثبات الذات والعبور الى برّ الأمان وكسب ثقة الشعب واحترام العالم يأمل كثيرون بأن الرئيس السوري العتيد سيتمكن من تجاوز محنة الحزن ويعمل على سدّ فراغ الزعيم الراحل والتغلب على المصاعب. - ثانياً: ان الدكتور بشّار الاسد قد حظي برعاية والده وتوجيهه وتدريبه على الحكم منذ مصرع شقيقه باسل علماً انه عندما فتح عينيه على الحياة كان والده قائداً لسلاح الجو ثم عاش احزان نكبة الخامس من حزيران يونيو 1967 وبعدها افراح انتصار تشرين الاول اكتوبر وكل ما تبعها من احداث حيث تربى في بيت يرضع فيه كل يوم لبن السياسة ومتاعبها وتسارع ايقاعاتها. ولا ننسى انه امسك بيديه في الآونة الاخيرة ملفات مهمة وحساسة جنباً الى جنب مع والده الراحل من ملفات لبنان الى الفساد والاقتصاد والسلام والتعيينات في معظم المناصب والمؤسسات الهامة والحساسة مما ساعد في تأمين مثل هذه السلاسة التي شهدناها ويساعد على تحقيق الاستمرارية بيسر وسهولة بعيداً عن الخضّات والمفاجآت. كما ان الدكتور بشّار قام بجولات واسعة تعرّف خلالها على معظم القيادات العربية وأقام صداقات مع معظمها كما أمضى فترة تدريبية على البروتوكول في سويسرا تمهيداً لجولة عالمية بدأها بفرنسا وكان يمكن ان يكلّلها باتجاه الولاياتالمتحدة وبريطانيا وروسيا والصين ومختلف دول العالم لولا وفاة الرئيس الاسد. - ثالثاً: ان الظروف التي حكم فيها الرئيس الاسد وغيره من القيادات العربية تختلف تماماً عن ظروف الجيل الجديد على كافة الاصعدة وسط متغيرات عالمية هائلة قلبت التوازنات والاوضاع رأساً على عقب ووضعت الشرق الاوسط امام مفترق طرق، ولهذا جاءت عملية تجديد دم القيادات العربية وشبابها في الوقت المناسب، والدكتور بشّار بدأ رحلة الولوج الى العصر الحديث منذ البداية من خلال مواصلة دروسه في الغرب واشرافه الشخصي على المعلوماتية وادخال التكنولوجيا الى سورية. - رابعاً: ان الدعم الحزبي والرسمي والشعبي لترشيح الدكتور بشّار حسم بسرعة مما ادى الى الحاقه، من دون تردد او انتظار، بدعم عربي ودولي يضفي عليه شرعية مضاعفة ولا سيما من المفاتيح الرئيسية في الرياض والقاهرة وعمان وواشنطن وباريس ولندن يضاف اليها اعتراف اسرائيل بواقع لا مفرّ منه وابداء استعدادها لمواصلة مسيرة السلام عندما يحين الوقت المناسب لاستئنافها. وقد كان لمواقف خادم الحرمين الشريفين الملك فهد ومعه الأمير عبدالله والأمير سلطان والرئيس حسني مبارك والملك عبدالله لا سيما في حديثه لCNN واتصالهم المباشر به وتأكيد عزمهم على دعمه ومؤازرته والتعاون معه اكبر الاثر في تعزيز ترشيحه ومساعدته على اجتياز المرحلة الحرجة وفتح الابواب الدولية امامه والتبشير بقدرته على الامساك بزمام الامور ومواصلة المسيرة التي بدأها والده وعزمه على تعزيز الاستقرار ومواصلة مسيرة السلام. ومع هذا فإن الدكتور بشّار سيتسلم مقاليد الرئاسة قريباً بعد اتمام الاجراءات الدستورية واعلان نتائج الاستفتاء العام ويتسلم ملفات مفتوحة ومعها تحديات يجب ان يواجهها بحزم وحنكة وسرعة وحسم بلا تردد ولا ارتباك لأن كل الأعين متجهة اليه لتراقب خطواته وتلتقط اية اشارة او هفوة او خطوة لتبني عليها استنتاجاتها لمعرفة اتجاهات أشرعته وتقوم بعملية مقارنة بين اسلوب السلف واسلوب الخلف ومدى سيره على خطاه. هذا مع العلم انه من غير المنطقي توقع حدوث تطابق او "عملية استنساخ" بين الاسلوبين فلكل شيخ طريقته، ولكل زمان دولة ورجال، ولكل انسان اسلوبه ولكل زعيم حساباته خاصة واننا نعيش عصر الشباب وتطلعاته ويخطئ من لا يعترف بواقع كل جيل وظروفه ونظرته للامور واختلافه في الاسلوب أما التحديات الناجمة عن الملفات المفتوحة فهي كثيرة لعل ابرزها: متابعة ملف الفساد حتى النهاية ووقف الهدر وتنظيم الادارة العامة لتتماشى مع روح العصر شرط ان تعمل بكل نزاهة وشفافية واحترام للانسان والقانون والنظام ولقدسية المال العام وفق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. المضي في الاصلاح الاقتصادي ليس بالمسكّنات والادوية المهدّئة بل بالجراحة في العمق حتى تدخل سورية في عالم الاقتصاد الحديث والحرّ ويعمّ الازدهار في بلد أنعم الله عليه بالثروات البشرية والمائية المعدنية والطبيعية والسياحية والاستراتيجية. ولا بد من ضمان عودة الثقة بالوضع الاقتصادي وايجاد فرص العمل للشباب وازالة المعوقات والعراقيل، ومحاولة جذب الاستثمارات الاجنبية، وقبلها الاستثمارات السورية واستخدام رصيد المغتربين العرب برؤوس اموالهم وأدمغتهم المهاجرة بوصفه الورقة الرابحة الكبرى القادرة على تحويل سورية الى قوة مرهوبة الجانب اقتصادياً خلال سنوات قليلة. ملف السلام، وهو محور مصير الملفات الاخرى، وهو ما زال مفتوحاً ومجمّداً رغم قطع اشواط مهمة في مسيرة اقفاله. ولا يختلف اثنان على ان الدكتور بشّار لن يتخلى عنه او يمتنع عن مواصلة المسيرة التي سار عليها والده بتمسكه بالسلام العادل من جهة ورفضه تقديم تنازلات من جهة ثانية. ولعل من حسن الحظ ان الفترة الاخيرة شهدت انفراجاً تمثل في لقاء وزير الخارجية فاروق الشرع مع وزيرة الخارجية الاميركية التي اكدت عودة التفاؤل الى تحريك المسار السوري - الاسرائيلي وتحقيق اختراق وشيك بعد الاعتراف بأهمية سورية وصحة مقولة: لا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سورية. الاختلاف الوحيد بعد وفاة الرئيس الاسد تركز في اتجاهين الاول يقول بأن الرئيس الابن سيلتفت في المرحلة المقبلة وعلى المدى القريب الى الشؤون الداخلية وعملية تركيز دعائم حكمه وحل القضايا العالقة مما يعني ان ملف السلام لن يُفتح الا بعد تسلّم الرئيس الاميركي الجديد مقاليد الحكم. فيما يدعو الاتجاه الثاني الى الفصل بين الشأنين الداخلي والخارجي بحيث تستأنف المفاوضات جنباً الى جنب مع عملية البناء الداخلي ومن هذه المنطلقات هناك من يقول ان الفترة المتبقية للرئيس كلينتون لا تتيح له انجاز ما وعد به وانه من الافضل عدم تسليف رئيس راحل عن البيت الابيض، بل التعامل مع رئيس جديد ومنحه ورقة يسيل لها لعاب اي رئيس اميركي ولا سيما في ولايته الاولى حتى يدخل التاريخ كرجل دولة حقق انجاز سلام في العالم. اما الملف اللبناني فسيبقى مفتوحاً ما دام المسار السوري لم يتحرك الا انه من غير المتوقع اشغال الرئيس السوري الجديد بمشاكل خارجية ومعارك بحسابات خاطئة مما يعني ان الهدوء في جنوبلبنان سيتكرس بعد الانسحاب الاسرائيلي من دون اقفال ملف المقاومة واحتمالات استئناف دورها في المدى البعيد اذا تعثرت عملية السلام ما يهدد بما حدث ومواجهات خطيرة. أما بالنسبة الى قضية الوجود السوري في لبنان، فقد اكد الرئيس العتيد انه موقت وشرعي وخاضع لقرار من لبنان ومصالحه ومقتضيات امنه، مع توقع اتخاذ خطوات لقطع الطريق على اية محاولة لاثارة الفتن وتحريك خطط المطالبة بخروج القوات السورية من لبنان اضافة الى خطوات مطلوبة لتصحيح الصورة ونزع الذرائع وازالة اي سبب للشكوى من اجل الحفاظ على العلاقات المميزة والمصالح المشتركة للبلدين. ملف العلاقات الخارجية: وهو اكثر الملفات استقراراً في عهد الرئيس الاسد، ومن المرجح ان الدكتور بشّار سيسير على نهج والده في علاقاته العربية والدولية ولا سيما مع مصر والمملكة العربية السعودية اولاً ثم مع جميع الدول العربية ولا سيما دول الخليج والاردن. أما السلطة الفلسطينية والعراق فمن غير المتوقع حدوث تغيير دراماتيكي معهما مع توقع علاقات اكثر هدوءاً واقل حساسية من ذي قبل. وتبقى العلاقات الدولية فهي مرسومة بدقة وفق توازنات وحسابات محددة بعد ان شهدت تحسناً كبيراً في العقد الاخير ولا سيما مع الولاياتالمتحدة وفرنسا ودول اوروبا، ومع ايران حليفة سورية في عهد الاسد، والجارة تركيا التي فتحت معها صفحة جديدة بعد سنوات من التأزم والمواجهة. لقد أعدّ الرئيس الراحل المسرح بعناية ودقة ومهّد له الاجواء ليتسلّم الرئاسة من بعده بمثل هذه السلاسة ويبقى على الدكتور بشّار الآن، وهو طبيب عيون، ان يبصر طريقه ويمشي فيه ومعه سورية وشعبها الى برّ الامان والاستقرار والسلام والحريات وتوسيع دائرة الديموقراطية والمشاركة الشعبية. فأمامه تحديات جسام بيده وحده مواجهتها والتعامل مع الواقع بحنكة وحكمة وجرأة وتسامح وحلّ مشاكل الناس والاستماع لصوت الشعب. فالحاكم كما سمعت من الملك الراحل الحسن الثاني: يشبه الرجل الذي يمسك بحبل يشدّ على رقبة أسد فإن لم يطعمه قفز عليه والتهمه… وإن غفلت عينه عنه وأفلت الحبل انقضّ عليه وافترسه. كما كان الملك عبدالعزيز رحمه الله يقول: ان الحكم سيف ومنسف في تعبير مجازي يساوي بين السلطة الحازمة والقوية وتحقيق الرخاء وتأمين لقمة العيش للمواطن. فالحاكم الجيد ليس المرهوب الجانب والمخيف او المحبوب فقط كما يقول ماكيافيللي بل هو الذي يتعظ من الماضي ويعمل للحاضر وينظر للمستقبل. والكل ينتظر الآن انتهاء فترة الحداد والحزن وبدء مرحلة العمل والجد وتسلّم المقاليد لتحديد معالم طريق المستقبل واولوياته واتجاهاته ومدى ما يأخذ بشّار عن والده من صبر وامساك بالاوراق والتوازنات والتأني باستخدام الوقت كحليف مميز وحدود الاستمرارية وضوابطها وسط آمال بأن يكون الولد سرّ أبيه… ومن شابه أباه ما ظلم. وبانتظار ذلك تقف سورية ومعها المنطقة امام مفترق طرق… ولأول مرة يصدق باراك عندما قال اننا امام شرق اوسط جديد بعد وفاة الرئيس الاسد تماماً كما كنا امام شرق اوسط جديد بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر. * كاتب وصحافي عربي.