بقدر ما أثار اتفاق أوسلو عند توقيعه من آمال، فقد أثار أيضاً مخاوف تزداد وتكثر كلما انقضى مزيد من الوقت من دون أن تظهر في الأفق ملامح لتوجه اسرائيلي جدي للانسحاب الكامل من الضفة الغربية وقطاع غزة ولحل القضايا المؤجلة استناداً الى قرارات الشرعية الدولية. وأكبر المخاوف التي أثيرت وما زالت تتضخم في الشارع الفلسطيني لتصبح ظاهرة ملموسة فيه هي تلك المتعلقة باللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة كما نصت على ذلك قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بدءاً من القرار الرقم 194 للعام 1948. فقد بدا التوقيع على اتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقات ومواقف اسرائيلية معلنة حيال حل قضية اللاجئين وكأنه جرس انذار يهدد بتصفية هذه القضية وتبديد وحدة ووجود الشعب الفلسطيني عبر توطينه في أماكن وجوده، وبقدر ما كان يتم التقدم في تنفيذ تلك الاتفاقات وبقدر ما يقترب موعد فتح ملف المفاوضات بشأن قضية اللاجئين كان صدى ذلك الجرس يتضخم في كل الأرجاء حيث المخيمات والتجمعات الفلسطينية، ويدفع بالفلسطينيين لتأكيد تمسكهم بحق العودة والتعبير عن ذلك بأشكال وصيغ لا حصر لها: مؤتمرات وجمعيات وجماعات ولجان واعلانات ومذكرات وبطاقات وبيانات ودراسات، وكان لافتاً على هذا الصعيد الإعلان عن أن الفصائل الفلسطينية الثمانية المعارضة لاتفاق أوسلو قررت تشكيل لجنة للدفاع عن حق العودة على رغم ان هذه الفصائل وجدت أصلاً لتحرير فلسطين كما تقول ذلك الأسماء التي تحملها والبرامج والشعارات التي تطرحها، ومن باب تحصيل الحاصل أنها تناضل من أجل عودة اللاجئين الفلسطينيين الى وطنهم وليس الدفاع عن حقهم في العودة فقط. المؤسف ان هذه الفعاليات: المؤتمرات واللجان وما يصدر عنها من بيانات ودعوات تتم كما يبدو بعيداً عن منظمة التحرير الفلسطينية، وينطلق المشرفون على تنظيمها واصدارها في الكثير من الأحيان من التشكيك بقدرة المنظمة على تمثيل الشعب الفلسطيني ومن التشكيك بأهليتها للدفاع عن حقه في العودة، ومن التشكيك بالتالي بصدقية نياتها وتوجهاتها حيال اللاجئين وحقوقهم، ويصل الأمر أحياناً الى اتهامها علانية أو بشكل مبطن بأنها توشك على أن تتخلى عن اللاجئين وأن توافق على تصفية حقهم في العودة. وبلغ الأمر بالموقعين المئة على ما عرف باسم "إعلان تأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة والتعويض" حد تشكيل لجنة منهم أطلق عليها اسم "اللجنة الراعية لهذا الحق" في وقت يعلم فيه الجميع أن المنظمة لا تزال هي الجهة الممثلة والراعية والمسؤولة والمعترف بها على هذا الصعيد، ويعلم الجميع أن دعاة حق العودة والمتمسكين به والمدافعين عنه والمناضلين من أجله ليسوا بضع عشرات من الفلسطينيين مع كل التقدير لهم بل هم ملايين الشعب الفلسطيني ومعهم ملايين العرب وملايين غيرهم من المؤيدين وما أكثرهم في المجتمع الدولي، ويعلم الجميع أن عدد الدول المؤيدة لحق العودة يفوق المئة دولة وليس مئة مثقف فلسطيني فقط، وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ قرارها الرقم 194 في عام 1948 عشرات القرارات حتى الآن والتي تؤكد فيها حق العودة الذي سبق أن صنفته بأنه أحد الحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة وغير القابلة للتصرف، وسبق للجمعية العامة أن شكلت لجنتين خاصتين بذلك، الأولى هي لجنة التوفيق الدولية والثانية شكلت في النصف الثاني من السبعينات وعرفت باسم اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرف. وكان الأجدر بالموقعين على هذا البيان - الإعلان دعوة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل المعترف به في الأممالمتحدة أن تعمل بالتنسيق مع الدول العربية من أجل استصدار قرار الجمعية العامة لتشكيل لجنة منها معنية بتمكين اللاجئين الفلسطينيين من ممارسة حق العودة. المؤسف دعوة البعض من الموقعين على ما عرف ببيان المئة الى قيام حركة لاجئين مستقلة والى انشاء جبهة شعبية للاجئين، والى التبشير بأن حزب العودة مقبل لا محالة ووصفه بأنه حزب سياسي يمثل الشكل الجديد لنضال سياسي وسلمي يبقي قضية فلسطين حية والادعاء بأنه الحزب الذي سيوحد الشعب الفلسطيني حوله من جديد. ويبدو المبشرون بهذه الحركة أو بهذا الحزب وكأنهم أداروا الظهر كلياً للمنظمة وسحبوا الاعتراف بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وقرروا بالتالي تقسيم الشعب الفلسطيني الى شعبين: شعب لاجىء يضم الأكثرية يريد العودة وشعب مقيم على أرضه لا يريد العودة لكونه لم يتعرض للجوء. من حق أي جماعة فلسطينية تأسيس حزب خاص بها وأن تطلق عليه الإسم الذي تريد، وقد لوحظ في السنوات القليلة الماضية ان تأسيس الأحزاب هو الصيغة المستجدة في العمل الوطني الفلسطيني بعد أن شاخ معظم الفصائل من حركات وجبهات مارست الكفاح المسلح والنضال السياسي وقدمت ولا تزال تقدم الكثير، ولكن، ليس من حق أي حزب جديد أو فصيل قديم التشكيك بمكانة منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني وبكونها الإطار الناظم لمجموع فصائل وأحزاب وهيئات العمل الوطني الفلسطيني والمعبر عن الأهداف الاستراتيجية للشعب الفلسطيني وفي مقدمها ممارسة حق العودة، والمطلوب اليوم وغداً أن يعمل الجميع من أجل تفعيل دور منظمة التحرير ككيانية وطنية ممثلة للشعب الفلسطيني ومعبرة عن أهدافه الاستراتيجية العليا. بات من نافل القول ان ملايين الشعب الفلسطيني تتمسك بحق العودة وتناضل من أجله وان قضية عودة اللاجئين الى وطنهم هي جوهر ولب القضية الفلسطينية التي تعد بدورها جوهر الصراع العربي - الإسرائيلي الذي سيستمر بأشكال عدة بعد توقيع اتفاقات السلام العربية - الإسرائيلية بما فيها اتفاق السلام الفلسطيني - الإسرائيلي واقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع. فالدولة في الضفة والقطاع هي أحد أهداف الشعب الفلسطيني، وسبق ان صنفت في عام 1974 باعتبارها أحد الأهداف المرحلية وليس الاستراتيجية. وللدول العربية كما للدولة الفلسطينية مصلحة أكيدة في عودة اللاجئين الى أرضهم وليس في توطينهم على أرضها، والأهم من ذلك ان قضية اللاجئين وحقهم في العودة لن تقدر على تصفيتها أية قيادة فلسطينية أو عربية نظراً لكونها قضية شعب يعد بالملايين وان التوصل الى حل لهذه القضية وان بدا للبعض وكأنه على أجندة اليوم عبر المفاوضات المتعددة الأطراف أو غيرها قد يستغرق سنوات طويلة ان لم نقل عقوداً أخرى. تأسست منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 لتكون ممثلاً للشعب الفلسطيني ومعبراً عن ارادته وقراره وإطاراً وطنياً عريضاً لكفاحه من أجل تحرير أرضه وعودته الى وطنه فلسطين، ومع تأسيس المنظمة تأسست الفصائل الفلسطينية الرئيسة التي آمنت بالكفاح المسلح طريقاً الى تحرير فلسطين وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وقد مضى على تأسيس هذه وتلك وقت طويل أكد خلاله الشعب الفلسطيني الذي احتضن تلك الفصائل حرصه على التمسك بالمنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً له معبراً عن هويته وناظماً لكل نضالاته، وما زالت الفصائل والمنظمة موضع ثقة هذا الشعب رغم كل ما تعرض ويتعرض له من محن ومصائب وهو إذ يتابع ما يجري بعد اتفاق أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع والخطوات الواعدة باتجاه اقامة دولة فلسطينية هناك، يؤمن بقوة ان هذه الدولة لن تكون نهاية المطاف لنضاله ولن تكون فلتراً لتصفية حقوقه وإنما سنداً ومنطلقاً من أجل تصعيد نضاله واستكمال تحقيق أهدافه. فقد جاء تأسيس المنظمة قبل احتلال اسرائيل للضفة والقطاع، وفرض هذا الاحتلال على المنظمة كما على الدول العربية أن تركز جهدها الكفاحي العسكري والسياسي على إزالة آثار عدوان 1967، فكانت القمة العربية في الجزائر اثر حرب تشرين 1973 والتي أقرت الأهداف المرحلية للنضال العربي، وكانت من بعدها دورة المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1974 واقرار البرنامج المرحلي الفلسطيني المنسجم مع الأهداف المرحلية للنضال العربي. اليوم، إذ يوشك العرب ومعهم الفلسطينيون، عبر المفاوضات وتوقيع اتفاقات السلام مع اسرائيل، على ازالة آثار عدوان 1967، فإن على الوطنيين الفلسطينيين ممثلين بالفصائل والأحزاب والنقابات والمؤسسات المختلفة، المبادرة الى العمل على تفعيل دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل للشعب الفلسطيني والمعبر عن طموحاته وأهدافه كما سبق أن تحددت عند تأسيس المنظمة ومجالسها الوطنية الثلاثة الأولى التي عقدت في القدس 1964 والقاهرة 1965 وغزة 1966. ان اقامة الدولة الفلسطينية لا تعني الغاء منظمة التحرير وشطبها من الوجود ولا تعني ان الأهداف التي أقيمت المنظمة من أجلها قد تحققت أو أن المنظمة لم تعد إطاراً قادراً على مواصلة النضال من أجل تحقيقها وفي مقدمها هدف العودة بوصفه أحد الأهداف الاستراتيجية العليا للشعب الفلسطيني ولمنظمته ودولته، وقد يكون جديراً بالذكر هنا ان المنظمة الصهيونية العالمية وكذلك الوكالة اليهودية لم يتم شطبهما من الوجود بعد اقامة اسرائيل عام 1948، فقد حافظت كل من المنظمة والوكالة على مهامها ووظيفتها سواء لجهة امداد اسرائيل بالمهاجرين اليهود وبالمساعدات أو لجهة نشر العقيدة الصهيونية في أوساط اليهود والدفاع عن مصالحهم أينما كانوا. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.