يكتب الروائي والقصاص العراقي شاكر الأنباري من ذاكرة تحتشد بمخزون من المشاهدات والمعايشات الشخصية ومن الحكايات والخرافات الموروثة من الآباء والأجداد والأمهات، يكتب متدفقاً محمّلاً بلغة متوهجة وحارة وسلسة، لغة تتنوع من الوصف الى التأمل، يصف عوالم متعددة فينتقل بين الصحراء والريف والمدينة، بين الأماكن وملامحها وإنسانها، ويتوغل في أعمال شخوصه دون إهمال معالمهم الخارجية، رابطاً بين السطح والأعماق والتأثير المتبادل بينهما. بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، تأتي قصص "أهواء غامضة" وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1999 حاملة هذا التنوع والتعدد والغنى من حيث اختلاف الزمان والمكان والمناخات التي يتحرك فيها شخوص القصص، فيقدم لنا الكاتب نماذج يبدو معها هو نفسه الكاتب المركز وبؤرة السرد - إذ تظهر لنا شخصية المثقف العراقي في المنفى أحياناً، ولكن شخص المؤلف يختفي في قصص أخرى فلا يظهر منه سوى براعته في خلق شخصية قد تكون مستعادة من الذاكرة أو من الواقع، مضافاً اليها الرتوشات الفنية الكافية لجعلها تقف كشخصية قصصية - فنية تمثل نموذجاً إنسانياً متفرداً، وذا ملامح يمكن تمييزها عن سواها، ملامح تنتمي الى بيئة وثقافة وظروف لا يمكن إلا أن تنتج هذا النموذج. في هذه القصص تبدو الهزيمة - هزيمة الإنسان المتعددة الأسباب - نهاية حتمية لكل علاقة. الهزيمة في الحب وفي الحرب، الهزيمة أمام الطبيعة القاسية، وإزاء التحولات والتغيرات التي تجري في الحياة، الهزيمة أمام الذات كما إزاء الآخر. ثمة الكثير من العلاقات التي تبدأ بدايات سعيدة لكنها تنتهي الى "موت" ما. القصة الأولى - كمثال - بطلتها شجرة شاهدة على علاقة تبدو لها من نافذة البيت المجاور. في البداية تسمع الشجرة ضحك الرجل وصديقته وترى الستارة تنسدل ثم تكاد تلمح ظلين يدوران في الغرفة، وينطفىء ضوء الغرفة فتظل الشجرة وحيدة تسمع التأوهات والضحكات الناعمة... لكنها بعد مدة ستسمع أصواتاً غاضبة، وسترى الرجل خارجاً متأبطاً حقيبة كبيرة، علامة الفراق. يحاول الأنباري أنسنة الشجرة وجعلها شاهدة على علاقة الحب ثم الفراق، وبقدر ما يعطي الشجرة ملامح شجرة حقيقية فهو يعطيها ملامح انسان يرى ويسمع ويحس، وذلك من وجهة نظر تربط الحدث بما حوله، حيث رجل القصة وفتاتها جزء من المكان، وحيث تحط على غصن الشجرة يمامتان "تبادلتا قُبَلاً ولمسات ونقرات ثم اعتلت احداهما الأخرى بعجلة وفرّتا...". فهل عالم الإنسان له مواصفات عالم الطير والطبيعة؟ ألهذا نجد حضور الطبيعة وعناصرها في كتابة شاكر الأنباري حضوراً كثيفاً وفاعلاً الى حد أن لا تخلو منه قصة من قصصه أو رواية من رواياته! إنه حضور تفصيليّ حيناً، وكليّ حيناً، لكنه شامل ولا يترك عنصراً دون أن يلحظه ويضمه الى باقة غنية بأسماء العناصر: النباتات، الحيوانات والطيور، الزواحف، التلال والسهول والأودية والرمال، السماء في أحوال الضوء والعتمة والظلال... حتى لتبدو القصة سجادة مطرزة بالزخارف والرسومات. وهذا كله دون أن تفقد القصة السرد الأساسي الذي يظل هدفه هو الأنسان في أحواله المختلفة، وخصوصاً في حال الصراع مع ظروف وشروط حياته القاسية، سواء على الصعيد المعيشي، أو في المعنى الوجودي البعيد للوجود. بعض قصص المجموعة ينزع نحو السرد الواقعي والوصف السريع لليوميات، والبعض الآخر ينحو نحواً ينطوي على شيء من الخرافة والأسطورة والخارق للمألوف، والبعض الثالث يميل ميلاً رمزياً ليعبر بالرمز عن أحوال نفسية أو ذهنية تلاحق الشخص. وثمة قصص تنطوي على ذلك كله في آن. قصة "الفارس" تجعل بطلها فارساً تجاوز عمره المائة سنة، عاشها وذاق حلوها ومُرّها، وكانت آخر غزواته قبل أكثر من عشرين عاماً، حين قرر مع صاحبيه غزو قبيلة بدو في الصحراء ثمة وصف للصحراء ورحلة الغزو الفاشلة، لكن فرسان البدو يطاردونهم، وعاد هو سالماً على رغم المطاردة الشرسة من قبل أحد الفرسان، حتى أن هذا الفارس يقول إن فارسنا / بطل القصة "لن يموت أبداً، فهو ليس من بني البشر"، وها هو فارسنا، في آخر القصة يعلن "الأمر الوحيد الذي أخشاه هو أن تتحقق نبوءة ذلك الفارس"، وكأنه قد سئم الحياة، خصوصاً حين لم يعد قادراً على الغزو، فهو فارس وحسب، لا يستطيع أن يكون غير ذلك، فما الذي يفعله وعلى ظهره مائة عام؟! هذا نمط من الفرسان، وثمة نمط آخر هو "رميم" - القروي الذي قرر القيام بغزوته الأولى، دون أن يعد ما يكفي لمواجهة الصحراء فيكون مصيره مأسوياً، فبعد العطش والجوع والضياع تبتلعه الكثبان الرملية وتغطي الرمالُ الصخرةَ التي كتب عليها - بدمه - وصيته الأخيرة. وفي هذه القصة، وعدا البعد الرمزي الذي تنطوي عليه، ثمة وصف تفصيلي جميل لمعالم الصحراء، ولمشاعر "رميم" في "المتاهة" وفي مواجهة كائنات الصحراء كائنات حقيقية أم خرافية من صنع خيال الرجل التائه؟!. الكائنات التي يوحي بها ليل الصحراء، والأخرى التي يصوّرها السراب. ورغم أن القصة ترسم عالم صحراء حقيقية، إلا أنها لا تخلو من بعد رمزي يتمثل - ابتداءً - بإسم البطل "رميم"، بل بإسم القصة نفسها "المتاهة"، فهي يمكن أن ترمز الى أية متاهة من متاهات الحياة التي يدخلها الإنسان بحثاً عن هدف وهمي أو مجدٍ لا يوجد إلا في خياله شيء من الدونكيشوتية. عدا هذا الموت، نقرأ في "دكة الموتى" عن جثة جندي مجهول وصلت من الجبهة، الى المعسكر والعسكري سلمان أبو داوود المكلف بغسل الموتى وترتيب اعادتهم الى الأهل، فيقف هذا العسكري حائراً أمام هذا الجندي الميت المجهول الهوية، ولكن - في الوقت نفسه - الذي ينام هانئاً "لا يسمع دوي مدافع ولا انفجارات ولا أوامر ... لأنها ليلته الوحيدة التي قضاها دون خوف، دون ألم، دون ذكريات"، بينما أبو داوود في قلق وانتظار. فالموت هنا راحة من الحرب وما تسببه من رعب وموت أيضاً. وفي القصة إدانة للحرب دون أي ذكر مباشر لأهوالها وتفاصيلها. وفي قصة "الجد"، يربط الأنباري بين عودة الجد من "الموت" حين سكب عليه الشيخ الذي جاء ليغسله الماء الساخن، وبين رغبة الجد العائد من الموت بفضح أسرار حياته والبوح بعلاقاته النسائية في ما يشبه الحالة الهذيانية التي تسبق موته الثاني / الحقيقي هذه المرة. وفي حال من اليأس الثقيل من كون القارب مصدراً للرزق، يدفع "الدلوجي" قاربه، بعد أن هشمه بالفأس، الى لجج الماء لتتلقفه يدان مائيتان وتسحبه نحو الأعماق. ولم تكن السنوات التي جعلت الدلوجي وقاربه صاحبين كافية لتمنعه من توديع صاحبه الى هذه النهاية، إذ لم يعد النهر مصدر عيش له. أما الخنزير الذي سيظهر ل"خليفة" في مناماته وفي صحوه، فهو - بحسب أهل القرية - ليس سوى شبح والده "حسين عطاالله" الذي توفي قبل أيام. ولأنه كان خنزيراً في علاقته مع البشر، فها هو ممسوخاً خنزيراً بعد موته، خصوصاً لكون خليفة كان ينتظر موت والده ليتخلص من قباحاته. لكن ها هو يلاحقه حتى بعد موته، ولا بد لخليفة أن يطلق النار على الحيوان، فهل يتخلص منه؟! وإذا كانت "دكة الموتى" تتحدث عن إحدى مآسي الحرب، أي الموت، فإن "تحت جنح الظلام" تحكي قصة اللوثات النفسية التي تصيب المحاربين، فيؤتى بهم في الظلام الى مشفى للأمراض النفسية، وليعيشوا هنا في قلق وخوف وتوترات لا تنتهي. في القصتين الأخيرتين "مساءات شامية" و"أنيتا"، نحن أمام أطول قصص المجموعة، تأتي بعدهما "المتاهة" تبلغ الأخيرة 27 صفحة، أما الأولى والثانية فتبلغ كل منهما 30 صفحة - وتبلغ المجموعة كلها 220 صفحة، وتضم ثلاث عشرة قصة. ليس هذا هو الأهم. الأهم هو أن القصص الثلاث، على اختلافها، تبدو الأكثر تماسكاً فنياً، وغوصاً في الأعماق، وكشفاً لخبايا الروح، وأسرار المجتمع. وإذا كانت "المتاهة" تعرض التهور والسذاجة في مواجهة العالم المجهول، فإن "مساءات شامية" تعرض الرعب والتردد في مواجهة المحيط، من خلال شخصية "الغريب" الذي يحل في غرفة في بناية، ولا يستطيع إقامة علاقة سوية واحدة مع سكان البناية - خصوصاً النساء، وصاحبة البيت التي لا يكف عن مراقبتها من الشقوق والثقوب، وهو الى ذلك يشعر بأنه تحت مراقبة الجميع، ورغم اشتهائه إحدى الجارات، إلا أنه يهرب من نظراتها ويكتفي بمراقبتها خفية، كما يهرب من محاولات صاحبة البيت للتقرب منه وإغوائه، فيما يمارس تنفيس شهواته في أماكن الازدحام وعبر الاحتكاك بالأجساد في الباصات... وتبلغ به غربته عن نفسه وعن العالم أن يرى لا ندرك ان كان بعين الحقيقة أم بعين الوهم غرفته تتحول الى بحر من الكائنات الدودية، ذات الأذرع الحريرية والأفواه الأميبية، فما كان منه سوى أن لاذ بالفرار. هنا، وإضافة الى ما تظهره القصة من "نفسية" الغريب، وطبيعة علاقته مع الجوار، تكشف القصة عن جوانب من حياة المجتمع الشامي الذي يبدو محافظاً، لكنه يخفي أزمات وإشكالات في العلاقة بين الرجل والمرأة، يخفي مكبوتات ومقموعات لا تلبث أن تتكشف لمن يصطدم بها. ولعل ميزة هذه القصة في أنها تحتوي على صوتين، صوت المرأة - صاحبة البيت التي لا تتورع عن كشف شهوتها تجاه هذا الغريب، وصوت الغريب نفسه. وفي "أنيتا" غريب آخر، عراقي بين مجموعة من العراقيين المهاجرين في بلد أجنبي، ويعرض مشاكل المهاجرين فيما بينهم، ثم بينهم وبين المؤسسة التي تتعاطى مع شؤون اللاجئين. وبعد تردد وحذر شديدين، يجد نفسه وقد سحبته "أنيتا" ليرقص معها في حفلة من الحفلات، ثم تدعوه ليقضي سهرة في بيتها حين يكون زوجها مسافراً، فيجد الأمر أسهل مما تصور، ويقضي معها ليلة يقول عنها "نسينا فيها لون الشعر والعيون والبشرات، ولامسنا ذلك القاع الإنساني الذي نملكه جميعاً كبشر". لكن الغريب يغادر منطقته الى منطقة أخرى بعد أن وعدته "أنيتا" أن تكتب له. إلا أن سنة كاملة مضت دون أن تكتب. وها هو ينتظر بعد أن أحس أن "روح هذا البلد قد تسللت الى روحي مثل شعاع شمس". المرأة هي التي تسللت، ثم غابت مكتفية بما جرى، أما هو "الغريب" فله ظرف آخر و ... ثقافة أخرى. هذا التنوع في المعاني، والتعدد في المواضيع والأسئلة والإشكالات، يحمله تنوع في السرد، وتعدد في لغة القص، وغنى في القاموس، يجعل قراءة هذه القصص - التي تنطوي في غالبيتها على نَفَس روائي، وشخوص ذات طابع روائي - قراءة سلسة، ممتعة، لواحدة من التجارب المهمة في السرد العربي الجديد. تجربة تسلط أضواءها على جوانب جديدة في حياتنا.