تتمحور ملاحظاتي في هذه الورقة حول أطروحة واحدة محددة تتعلق بمستقبل النظام الفلسطيني. وأقصد بعبارة "النظام الفلسطيني"، النظام السياسي بخصائصه الحالية في فلسطين، والجهاز البيروقراطي والاداري للحكومة، إضافة إلى المحاكم، وجهاز القضاء، والمجلس التشريعي، ومختلف عناصر بنية الدولة قيد التشكل الآن. وأطروحتي الأساسية هي الآتية: إن النظام الفلسطيني الحالي لن يتمكن من الاستمرار كما هو في المستقبل، وإن التغيير سيحصل، إمّا بعد انتهاء حقبة القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني، أو خلال فترة وجود هذه القيادة، ولكن بعد قيام الدولة. وسيكون التغيير أبطأ بعد قيام الدولة بوجود القيادة التاريخية، ولكنه سيحصل في كل الأحوال. إضافة الى ذلك، يمكن استشراف ملامح النظام الفلسطيني، بعد التغيير، بناء على مؤشرات محددة، سأشير إليها كما سأشير إلى العوامل الفاعلة، والعناصر المحركة التي ستدفع باتجاه تغيير طبيعة النظام الحالي. واسترعي الانتباه، في البدء، الى الأمور الآتية: أولاً: توجد، بطبيعة الحال، "مجازفة" تلازم أي محاولة تسعى الى تحديد ملامح المستقبل قبل أن يحدث. ولكن قواعد التحليل هنا معروفة، وتتعلق، أساساً، بتقصي العناصر الأهم، والعناصر الفاعلة في الحاضر وتحديدها، سواء كانت داخلية أو خارجية، ومن ثم تقصي أثرها في المدى المنظور. ثانياً: ليس المقصود هنا، التفاؤل أو التشاؤم في هذا المستقبل، أو أن تقديم تقويم لمستقبل النظام الفلسطيني. المقصود هو تقديم تحليل واستنتاجات تتعلق بالمستقبل، بمعزل عمّا إذا كان المستقبل، كما هو متوقع، أمراً مرغوباً فيه، أم لا، مستحباً أو غير مستحب، مقبولاً أم غير مقبول. وأبدأ بوصف موجز لبعض جوانب النظام الفلسطيني الحالي، من دون الدخول في تفاصيل، لأن السمات الأساسية للنظام معروفة بما فيه الكفاية، وقد كتب الكثير عنها تقارير ودراسات وتوصيات وتحليلات، كان آخرها التقرير الذي أعده فريق من المختصين برئاسة رئيس وزراء فرنسا السابق السيد ميشيل روكار، وتضمن توصيات إلى السلطة لاستخلاص العبر. وقد شكلت لجنة وزارية خاصة لمتابعة التوصيات ووضعها موضع التنفيذ. ولكن، لا أحداً يعلم أين وصل عمل اللجنة، حتى الآن، ان جرى الاستناد الى مصادر المعلومات العلنية. وكما هو معروف، يوجد عدم رضا عام واستياء عارم احياناً من الوضع الفلسطيني الحالي، ليس فقط في جانبه الاقتصادي، أو السياسي المتعلق بالمفاوضات، وإنما أساساً من الوضع الداخلي للنظام. وهو استياء غير مقتصر على شريحة واحدة في المجتمع، استياء يشترك فيه الجمهور العام، على الصعيد الشعبي، وعلى صعيد النخب السياسية خارج الحكم، والنخب السياسية داخل الحكم، وفي الوزارات والدوائر الحكومية المختلفة، وبين المهنيين والمثقفين، وفي النقابات، والمؤسسات الأهلية وغيرها من الأطر الجماهيرية أو النخبوية. ولهذا الاستياء أسباب عديدة ومتنوعة، سواء كانت ضآلة الرواتب وعدم كفايتها، من منظور غالبية العاملين في الوزارات والدوائر الحكومية، بما فيها الشرطة وأجهزة الأمن، أو عدم كفاية المخصصات للجهاز الصحي الحكومي، على سبيل المثال. أو بسبب عدم وجود نظام قضائي فعال وموحد. أقول موحداً بسبب وجود ثلاثة نظم قضائية مستقلة عن بعضها بعضاً ومتداخلة الاختصاص. فالمطالبون بفصل السلطات، يجدون أن لديهم فصلاً للقضاء، والمطالبون باستقلال السلطات، يجدون، بدلاً منه، استقلالاً لأجهزة القضاء الثلاثة، وهي: المحاكم التي تعمل بدرجة محدودة جداً من الفعالية" والقضاء العشائري، الذي يعمل بشكل مستقل عن المحاكم، وقضاء المحافظات وعدد من الدوائر الحكومية والذي يعمل بتداخل احياناً مع القضاء العشائري، ولكن باستقلال عن المحاكم. ويجري العمل، منذ أكثر من عام، على تطوير التحكيم من جانب محامين كآلية سريعة لفض النزاعات وبموجب القوانين الدولية ذات العلاقة. وهي آلية معروفة في العالم، لكنها غير معمول بها على نطاق واسع في فلسطين. ومع إدخال التحكيم، سيصبح هناك جهاز قضائي رابع، مستقل عن الاجهزة الثلاثة الأخرى، وربما مستقل أيضاً عن الحكومة، الأمر الذي قد يدفع البعض الى إعادة النظر في مطالبتهم بفصل السلطات واستقلال القضاء، لأن ما تحقق منه لدينا أكثر بكثير مما هو معروف في العديد من البلدان! ويصف البعض الوضع الحالي في فلسطين، ابتداء من تنظيم السير في المدن، مروراً بالوزارات والدوائر الحكومية، وانتهاء بالقضاء، بأنه حال من الفوضى. وهو وصف قد يعيق، في الواقع، فهم العناصر الأساسية للنظام الحالي، خصوصاً صفة واحدة أساسية، تشكل مدخلاً لفهم طبيعة النظام السياسي والاداري، وهي "الفسيفساء" السياسية والادارية للنظام. وأقصد، بهذا، تعدد المحاور السياسية والإدارية ومراكز القوى وآليات اتخاذ القرار، وارتباطها، جميعاً، عمودياً، وبدرجات مختلفة من البعد والقرب، ومن خلال حلقات متصلة، مع القيادة الفلسطينية. وتوجد بين هذه المحاور روابط أفقية أيضاً، إلا أنها تستمد أهميتها وقوتها، في نهاية الأمر، من محور الارتباط العمودي. وتتغلغل هذه المحاور في بنية النظام السياسية والإدارية، وفي الدوائر الحكومية والوزارات، ونواحي الحياة المختلفة، بما فيها النشاط الاقتصادي والتجاري. فالنظام الرسمي، بمسمياته ومناصبه ومديريه ووحداته وأقسامه ومكاتبه، لا يعكس آليات اتخاذ القرار الفعلية أو صلاحية وسلطة المناصب والمسميات الرسمية. والسبب في ذلك هو وجود نظام آخر موازٍ للنظام الرسمي، يطغى في معظم الأحيان على النظام الرسمي، ويستمد صلاحياته وقوته من محاور الارتباط المشار إليها سابقاً. وهذا ما يفسر وجود مدير عام له نفوذ أكبر من الوزير أو مدير دائرة له نفوذ أكبر من المدير العام، على سبيل المثال. وفي هذا ما يفسر أيضاً أزمة المجلس التشريعي بسبب ارتباط غالبية من أعضائه بالعلاقات الأفقية والعمودية للنظام. ولكن، في الوقت نفسه، وبحكم الدور الرسمي الموكل له، توجد أسباب تدفعه للعمل خارج هذه المحاور، خصوصاً بوجود ضغوط مجتمعية عليه ليقوم بدوره الرسمي. فيتأرجح المجلس باتجاه العمل خارج النظام إلى أن يصل إلى حدوده، ولا يلبث أن يتراجع، لأن العمل خارج هذا النظام السياسي والإداري هو بمثابة انقلاب عليه. وهذا معنى عدم سحب الثقة من الحكومة، وهي فكرة طرحت في المجلس في أكثر من مناسبة، لأن سحب الثقة هو من آليات عمل النظام الرسمي، وليس من آليات النظام الفعلي القائم حالياً. وفي هذا ما يفسر أيضاً أزمة أحزاب وفصائل المنظمة الرئيسية، لأنها أيضاً تعمل ضمن نظام المحاور هذا. فهي عاجزة عن التأثير والتغيير، إلا في حدود ما يسمح به النظام. والنظام، مثلاً، لا يسمح بتداول السلطة، بدليل عدم إجراء انتخابات للمجلس التشريعي أو لمجالس منظمة التحرير المختلفة، أو للمجالس البلدية. والسؤال الأساسي، إذن، هو التالي: هل توجد مقومات لاستمرار هذا النظام في المستقبل، وما هي العناصر، أو العوامل، التي قد تدفع إلى تغيير بنية النظام؟ أبدأ بالشق الأول من السؤال، وبالملاحظة الآتية: إذا كان النظام مبنياً على وجود محاور ارتباط مختلفة تستمد قوتها من محور الارتباط العمودي، فإن استمرار هذا النظام رهن توفر شخصية لها صفات خاصة تقف على رأس محاور الارتباط هذه. وهذا ما توفره، حالياً، القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني من شرعية داخلية، وشرعية خارجية، وقبول لدول عربية وأجنبية بها، وعلاقات واتصالات دولية وعربية لها جذور في الماضي، وامتدادها في الحاضر. إضافة الى ذلك ، فإن ما يمكّن النظام الحالي من الاستمرار هو الصراع غير المنتهي مع إسرائيل، وخشية الجمهور من التغيير الجذري في هذه المرحلة. ليس لأن الجمهور ضد التغيير، بل لأن آليات التغيير السلمي غير متوفرة، إمّا لأن النظام الحالي لا يوفرها، أو لضعف القوى المنظمة في المجتمع، والتي يعول عليها، في العادة، من أجل التغيير، بما في ذلك الأحزاب والنقابات والأطر الجماهيرية والهيئات الأخرى المنظمة. إن شخص "أبو عمار" هو الصمغ اللاصق للنظام السياسي والإداري الحالي، ومن المتعذر رؤية امكان قيام أي شخص آخر بهذا الدور في المستقبل، خصوصاً في ظروف سياسية غير تلك الموجودة حالياً. إن السمة الأساسية للمرحلة الحالية تكمن في كونها مرحلة انتقالية بين ما تبقى من نظام منظمة التحرير الفلسطينية، وآليات عملها، واتخاذ القرار فيها، وبين المرحلة المقبلة، التي تمكن رؤية معالمها بمقدار من الوضوح. وأنتقل، الآن، للحديث عن معالم المستقبل، بدءاً بالعناصر الحالية المؤثرة فيه، وهي من نوعين: عناصر داخلية وعناصر خارجية. ويوجد قدر من التداخل بين هذه العوامل، وسينعكس هذا في معالجتي للموضوع. وأشير، بداية، إلى الموقف الرسمي للسلطة الوطنية الفلسطينية حول آليات التنمية الاقتصادية في فلسطين ومحركها. والموقف الرسمي هنا معروف، ويرى أن اقتصاد السوق هو الموفر الاساسي لفرص العمل، وموفر التنمية الاقتصادية في فلسطين، وهو موقف مطلوب من الدول المانحة والولايات المتحدة، ويتساوق مع الوضع الحالي لمعظم الدول في ظل عولمة رأس المال. وحتى يتم النمو الاقتصادي بهذه الآليات، هناك مستلزمات بنيوية وسياسية وإدارية مطلوبة، وهناك علاقة وثيقة بين حاجات اقتصاد السوق، وطبيعة النظام السياسي والإداري. فكما هو معروف، فإن النظام الرأسمالي لا يمكن أن يؤدي إلى تنمية اقتصادية من دون وجود إمكان للاستلاف والتسليف، والإقراض والإدانة. وإذا كان من المتعذر على كل بنك أو شركة أو مستثمر أن يشكل مليشيا مسلحة لغرض استرداد القروض، وحماية رأس المال، فإن الدولة، في النظام الرأسمالي، تقوم بهذا الدور عن طريق وجود جهاز تنفيذي لمتابعة قرارات المحاكم وتطبيقها. ولهذا تبعات على النظام السياسي والإداري. فمن غير الواضح أنه يمكن تصور وضع تأتمر فيه الشرطة بقرارات المحاكم، وتنفذها في الأمور الاقتصادية، ولكن، لا تنفذ قرارات المحاكم في الأمور الجنائية مثلاً. هو نظام واحد، فإن شُكل لأغراض الحاجات الاقتصادية، فسيترك أثراً إضافياً في مختلف القضايا التي تعالجها المحاكم. وتلزم للنشاط الاستثماري مقومات أخرى تكمن، أساساً، في ما يسميه البنك الدولي "وضوح قواعد اللعبة". أي إن المقصود هو وجود قوانين وتعليمات وإجراءات واضحة، مقرّة ومعمول بها، وبيروقراطية عقلانية في الوزارات والدوائر الحكومية المختلفة. وفي غياب "قواعد لعبة واضحة" من هذا النوع، سيبقى الاستثمار، من ثم النشاط الاقتصادي والتنموي، محدوداً ومحصوراً بمن لديه الصلات الكافية، والوقت الفائض للهدر في المتابعة والملاحقة بين الدوائر المختلفة، وتصديق الأوراق، وجمع الأختام والتوقيعات والشروحات والملاحظات بعد وضع طوابع الإيرادات، إن وجدت، من دون انتظار أسابيع لوصول دفعة مطلوبة من الطوابع لم تصل. ولا غرابة، إذن، في أن نعلم أن البنك الدولي تبنى تطوير تسعة مشاريع قوانين تتعلق بالنشاط الاقتصادي قبل عامين من الزمن. وألح البنك على السلطة الوطنية لإقرارها. وقد أقر بعض منها، ولا يزال العمل جارياً على إعداد ما تبقى. وقد خصص البنك الدولي، أيضاً، خلال الأعوام الأربعة الماضية، ما يقارب الثلاثة ملايين دولار لمشاريع تتعلق بتطوير الجهاز القضائي، وتدريب المحامين، إضافة إلى تطوير التشريعات والتدريب على التحكيم، ليس من أجل إحلال الديموقراطية في فلسطين، بل إدراكاً منه، ومن الدول المانحة التي رعت مشاريع عدة لتطوير التشريع والجهاز القضائي، بوجود علاقة واضحة بين حاجات اقتصاد السوق والبيئة الادارية والقانونية للدولة وللجهاز الحكومي. ولا يقتصر إدراك هذه العلاقة، وهذه الحاجة، على البنك الدولي والدول المانحة. إذ توجد مطالبة ودعوة مستمرتين من منتديات رجال الأعمال والمؤتمرات والندوات التي تبحث في الشؤون الاقتصادية والتنمية في فلسطين لإرساء حكم القانون، وفصل السلطات، وتفعيل الجهاز القضائي. وقد تبنى بعض رجال الاعمال الديموقراطية كشعار لمجموعة من المطالب، تتمثل في حاجات الاستثمار، ومطالب المستثمرين من الدولة، سواء أكان ذلك على صعيد القوانين، أو دور القضاء، أو عقلنة بيروقراطية الدولة، أو ضمان حقوق الملكية، أو منع الاحتكارات، أي عدم دخول الحكومة كشريك في النشاط الاقتصادي بأساليب وطرق مختلفة. * عميد الدراسات العليا وأستاذ فلسفة في جامعة بيرزيت.