تدور منذ منتصف التسعينيات، تقريباً، رحى حرب فريدة بين المثقفين الفلسطينيين والإسرائيليين. موضوع هذه الحرب هو أعمال الرسّام عاصم أبو شقرة، وعلى الأخص تلك التي أنتجتها في العامين الأخيرين من حياته القصيرة، والتي أخذت شكل متواليات صُبَّار في أصص. النُقَّاد والفنانون الإسرائيليون، الذين يبدون أفضل تسليحاً من الفلسطينيين، إضافة الى المتاحف ومسؤوليها، يحاولون، جميعاً، الاستيلاء على أبو شقرة و"أسرلته" والتشويش على رموزه وتنفيسها. والمفارقة أن عمق رموز أبو شقرة، وشفافيتها، وابتعادها عن المباشرة، هي التي فتحت الباب أمام الإسرائيليين للقيام بمحاولتهم المذكورة. ذلك أن حدة الصراع السياسي التي جعلت الرموز الأدبية والتشكيلية الفلسطينية صريحة ومباشرة، في أغلب الأحيان، قد أوحت للمثقفين الإسرائيليين أن عمل أبو شقرة، برموزه الشفافة، يقع خارج الإطار الفلسطيني. وهكذا فبدل أن يُؤخذ كدليل على نُضج التشكيل الفلسطيني، ونضج رموزه، يحاول الإسرائيليون عزله وأسرلته، أي يُحاولون عزل الشاة المبقعة عن القطيع الأسود، انطلاقاً من نقطة تفرّده، ونقطة قوته بالذات. ويُمكن القول إن محاولة "أسرلة" أبو شقرة تأخذ شكلين اثنين: متطرفاً حاسماً، ومعتدلاً تصالحيّ اللهجة. يقود الشكل الأول، أو الاتجاه الأول، أناس مثل ساريت شابيرا التي كتبت مقالاً حول رمز صُبّار الأصص عند أبو شقرة. وهي في هذا المقال تهاجم بعنف وضراوة للاستيلاء على أبو شقرة وعزله عن خلفيته الثقافية. إنها، إذا ما أردنا التشبيه، تُهاجم بعنف يُماثل عنف المستوطنين حين يستولون على تلال الضفة الغربية، من دون أن يحسبوا حساباً لمالكي أرض هذه التلال، فهي تعلن في مقالتها أن صورة الصبار عند أبو شقرة "تحيل الى نموذج إسرائيلي جماعي... وأن تحويله نبتة الصبّار الى تعريف ذاتي هو في الحقيقة حوار مع الثقافة الإسرائيلية، لا مع مفهوم الهوية لغوياً كان أم شكلياً في الثقافة العربية - الفلسطينية". وعليه، ومن وجهة النظر هذه، فإن أبو شقرة يذهب الى موتيف الصبّار على أرضية يهودية. وحين يعرّف ذاته به، أو يُماهي ذاته معه، فإنه إنما يقوم بعملية استعارة لا غير. وتضيف "بهذا المعنى فإن صبّار أبو شقرة هو علامة تعريف ل"الآخرية". وهو كعربي يطبّقها على نفسه، بينما هي أصلاً، وفي الاستخدام العام، رمز لليهود الإسرائيليين". لذا فإن أبو شقرة حين يذهب الى الصبّار كموتيف لا يذهب الى ذاته بذاته، بل عبر الآخرين - اليهود. فالصبّار تعريف لليهود حصراً، وأبو شقرة يؤكد آخريته بواسطته. وكما ترون، فإن هذا الكلام بالنسبة للعربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً، نوع من الجنون. ذلك أن الصبّار رمز عميق وتقليدي الى درجة البداهة عند الفلسطينيين. ومع ذلك فإن شابيرا تقرّر غير ذلك. فهو رمز يهودي، واستخدام أبو شقرة له "كموتيف يُشير الى نقص شخصي أو جماعي في علامات هويته"!!! أبو شقرة، إذاً، لا يؤكّد هويته بالصبّار، بل يؤكد نقصها. وهو لا يصلح في هذه الحال، لكي يكون رمزاً مضاداً. تقول شابيرا: "إن لغة رسوم أبو شقرة تبدو كما لو أنها تتبنى موتيف الصبّار. كما أنه ليس فيها ما يدل على أنها تريد أن تعلن عن اختلاف ما. ونحن نرى في صبّار أبو شقرة تعبيراً عن الآخرية فقط عن طريق معلومات من خارج عمله الفني". لقد بدأت شابيرا بإعلان الصبّار رمزاً خاصاً باليهود، ثم أعلنت أن أبو شقرة "تبنّاه" لتصل الى أن هذا الرمز يستحيل أن يأخذ موقعاً مضاداً، أي أن يكون تعبيراً عن الفلسطينيين في صراعهم مع إسرائيل. فلكي يكون رمزاً آخرياً مضاداً عليه أن ينبع من الذات لا أن يُستعار من غيرها!! طبعاً، تستند شابيرا في كلّ هذا الى واقع أن اسم الصبّار أو الصابراس أطلق على الجيل الأول من اليهود الذي وُلِدوا في فلسطين، واخشوشنوا فيها، وصاروا مثل الصبّار، كما يقول التقليد الإسرائيلي. ألن غنتون، من ناحيتها، تُتابع طريق شابيرا وإن بلهجة أقل حدة، ورغبة أقل في أن تكون إيديولوجية بهذا القدر. وهي تعتقد أن أبو شقرة "يمثّل فرداً محاطاً بالأشواك، فرداً يوشك على الموت في شرخ الشباب" بدل "أن يكون رمزاً لنموذج إنساني تاريخي متفائل". وهكذا فإن صبّار الأصص يتحول الى مجرد رمز ذاتي لإنسان يواجه موته، من دون أي بعد تاريخي. أي أنه رمز لا علاقة له بأناس أبو شقرة وأهله. فأبو شقرة مجرد فرد محاط بأشواك الموت لا غير. وتُكمل غنتون "بودّي أن أقترح أن متواليات الصبّار في الأصص هي استعارة للموت والصلب، وأن الموضوع الأساس لإعماله هو قلق الموت". وهي تظن أن نقطة نجاح أبو شقرة التي تميزه عن جميع الفنانين الإسرائيليين، هي أنه اكتشف الصبّار كمعادل لرمز الصليب الغربي. مع ذلك فإن علينا ألاّ ننخدع إذا كانت غنتون قد تركت أبو شقرة يحتضن صليب المسيحيين. فهي لم تفعل ذلك إلا لكي تعيده الى الأصل: إسرائيل اليهودية. تقول "إن تماهي أبو شقرة كمسلم وعربي مع موتيف الصلب، يؤكد ما لاحظه النقّاد: أي تبنّيه لتقاليد الفن الغربي. ومثل الفنانين اليهود والإسرائيليين كشاغال وتوماركين، فإن أبو شقرة يستطيع، واستطاع، أن يستخدم موتيفات التضحية، الصلب، الصليب...". إذاً، فهو لا يتبع التقاليد العربية الفلسطينية. فتقليد الصليب تقليد غربي. والتقليد الغربي، يرتد، في النهاية الى اليهود!! وكأن الفن التشكيلي العربي الحديث كله لم يكن معجوناً بالتقاليد الغربية، أو كأن رمز الصليب لم يكن موتيفاً أساسياً في الثقافة الفلسطينية والعربية. يردّ على كلام غنتون الرسام الفلسطيني كمال بلاطة في المقدمة التي كتبها لكاتالوغ معرض أبو شقرة في مركز خليل السكاكيني في رام الله 1999، فيقول "فإذا كان بعض الرسّامين الفلسطينيين قد استوحوا صورهم من البيان في الشعر الوطني، فإنّ عاصم أبو شقرة اختار أن يلتقي مع شعراء فلسطين الذين استعاروا مجازهم الشعري من سيرة البعث المسيحي". في مقابل الاتجاه المتطرّف ثمّة اتجاه معتدل تصالحي يحاول أن يقسم أبو شقرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فهو من جهة يملك نَسَباً إسرائيلياً. وهو من الجهة الثانية يملك بُعداً فلسطينياً واضحاً. تمثِّل هذا الاتجاه طالي تامير، فهي تعلن "أن الأسبقية التي تنسبها شابيرا لملكية الإسرائيليين، في الأصل، لاستعادة الصبّار مسألة خاطئة". صحيح أنه "ومنذ الجيل الأول من مواليد البلاد الإسرائيليين، فإنّ ثمرة الصبّار حملت معنىً رمزياً للإسرائيليين، ذلك أن الملمس الشوكي الخارجي للثمرة، المتناقض مع داخلها الناعم، عمل كرمز للإسرائيليين من مواليد البلاد" لكن بالنسبة للفلسطينيين "فإنه منذ القدم كان الصبّار أداة لتعيين حدود الأراضي عند الفلاحين" كما أن نبتة الصبار ظلّت الدليل الى قرى الفلسطينيين المدمّرة "حيث أنه على رغم تدمير البيوت واقتلاع الأحجار وإعداد الخرائط الجديدة لم تتأثّر جذور الصبّار وصمدت". والحال أن الصبّار كاستعارة إسرائيلية ظلّ، في ما يبدو لنا، ذا طابع أدبي، يعني الخشونة. لذا، فهو كما تقول ألن غنتون "يظهر في الرسوم كشجيرة شوكيّة توجه أشواكها للخارج". وهذا التركيز على الأشواك وتوجيهها للخارج يعكس حذراً يهودياً من "الغوييم"، ويمثل انطواءً على النفس يُماثل انطواء الغيتو. أما استعارة أبو شقرة فهي أشد عمقاً وبعداً من ذلك. فصبّاره في أصصه يكاد يكون بلا شوك. وحتى حين يكون هناك شوك فهو شوك ناعم يشبه خيوط سجادة شرقية. فمدار تركيز أبو شقرة هو على قدرة النبتة على الإزهار والعيش وسط الموت كما قال مرة لطالي تاميرا. لذا فصبّاره لا يوجّه أشواكه للخارج. على العكس إنه يطويها الى الداخل، مضيئاً قناديل زهراته التي وضعت على خلفية معتمة أو عاصفة. إنها بالفعل قناديل أكثر منها صبّاراً في الحقيقة. وفي إحدى لوحاته يستعير ضوء اللمبة الكهربي أشواك الصبّار ويحيط نفسه بها لكي يصبح شمساً كبيرة. وهكذا يتخلى الصبار عن شوكه ويحوّله الى شعاع يبعث النور. إن ضوء صبّاراته الضئيل، لكن الواضح، يجعل من الصعب اعتبار أعماله رمزاً للموت. على العكس إن إضاءتها تتيح القول إن أبو شقرة كان يجعلها مثل القناديل وسط العتمة والموت. وباختصار فإن استعارة أبو شقرة تبدو نقيضاً للاستعارة الإسرائيلية. إذاً، فقد بذل الإسرائيليون جهوداً متماسكة ليس فقط للاستيلاء المادي على أعمال أبو شقرة فأغلبها ملكية للمتاحف الإسرائيلية الآن بل لاحتواء رموزها وأسرلتها. أما في الجانب الفلسطيني فلم تبذل جهود كافية ومتماسكة. وباستثناء محاولات كمال بلاطة، فقد كان الباقي مجرّد نثرات لا غير. وظهر بعض هذه النثرات في كاتالوغ معرض أبو شقرة الذي أقيم في "صالة العرض" في بلدته "أم الفحم". ففي هذا الكاتالوغ كتب أنطون شمّاس كلمة قصيرة تنضح بروح تراجيدية جاء فيها "بما أن الصبّار الفلسطيني فقد وظيفته منذ زمن كنبتة شوكية لحمية ذات سيقان سميكة كإناث الأبقار الحلوبة... وتحوّل للقب رائج لمن ولد في أرض إسرائيل وكبر فيها وما عدا ذلك فلا". وبما أن جميع أولئك الذين قبضوا بأيديهم على الثمار الشائكة خلال عشرات السنين تراهم اليوم مستسلمين للنسيان والموت، فقد كان على أحد أن ينقل الصبّار الى أصيص. كان على أحد أن يهزّنا ويقول لنا إن الأمر قد تم واكتمل. من هنا لن نعود لا للخارطة، ولا الى الأرض، إنما نظل على حافة الشباك. لم يفكر أحد في ذلك من قبل، إلا عندما جاء أبو شقرة. وعلى رغم اللهجة المأسوية لهذا الكلام، فإن فكرة شمّاس الأساسية هي أن "الصبّار في الأصص" هو رمز للفلسطينيين في إسرائيل، رمز لإبعادهم عن الأرض وعن الخريطة، وأن رسوم أبو شقرة هي الصياغة المكتملة لهذه الواقعة". أما أسعد عرابي فيقول في تعليقه على جمع أعمال أبو شقرة المتوفى مع أعمال الفنان الإسرائيلي الحي آفي تراتنير في معرض في فرنسا إن "اللوحات المعروضة لا تقبل الجمع إلا بالقسر والإكراه". راجع "الحياة" في 7/12/1996. تحوّل الصبّار الى لغم مدهش، لكن الإسرائيليين يبذلون ما يكفي لتنفيس هذا اللغم. والحل أن الأمر كله يبدو كما لو أنه مجرد صراع على فنان، لكنه في الأعماق يعكس الصراع المحتدم حول الطريق الذي سيسلكه فلسطينيو ال48. فهل يتأسرلون منفردين، أم يتقدمون كوحدة ذات طابع قومي لتحصيل حقوقهم في بلادهم، ولتحويل إسرائيل الى دولة لكل مواطنيها؟ أخيراً نذكر النبذة التالية عن عاصم أبو شقرة. ولد في أم الفحم في 11/1/1961. درس في تل أبيب في مدرسة الفنون كليشر 1982- 1986. عمل أستاذاً في المدرسة ذاتها بعد تخرّجه. توفي عام 1990 بمرض السرطان. أقيمت له معارض شخصية في تل أبيب والقدس وأم الفحم ورام الله. وتقتني المتاحف الإسرائيلية أغلب أعماله. حصل على جوائز للفنون من جهات عدة في العالم. وعاصم هو شقيق الشيخ رائد صلاح أحد قادة الحركة الإسلامية في فلسطين. * كاتب فلسطيني.