معظم -إن لم يكن كل- الشارات والرموز والشعارات الرسمية في إسرائيل تحمل تعبيرات يهودية صرفة: العلم وألوانه، النشيد الوطني وكلماته، الطوابع والقطع النقدية والصور والأشكال المطبوعة عليها، الأعياد ومناسباتها، القوانين ذات الدلالات الدينية، كقانوني العودة والجنسية، مناهج التعليم، لاسيما الموصول منها بالتاريخ ونوعية الثقافة وصناعة الهوية، أسماء المدن والمراكز المدينية والقروية الأكثر ازدحاماً وحيوية... هذه النماذج ونحوها، إلى جانب محاولة عبرنة كل شيء وتهويده في الدوائر والمكاتبات الحكومية، تضيق مجال التفكير في إسرائيل الدولة خارج السياق اليهودي. ويشهد بهذا السياق أيضاً قرارُ الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 المنشئ لإسرائيل، الذي سماها صراحة ونصاً في كل فقراته، وأشار إليها في خريطته التوضيحية ب «الدولة اليهودية». إسرائيل أعلنت يهوديتها منذ يومها الأول، عبر ما يعرف بوثيقة الاستقلال، بل ولنا أن نفترض أنها أضمرت مضمونها اليهودي قبل ذلك اليوم بكثير، حين رفضت الحركة الصهيونية مشاريع التسوية كافة القائمة على الحل الديموقراطي في كيان فلسطيني جامع للعرب واليهود، وآثرت الحل الانعزالي الرامي إلى إنشاء دولة لليهود فقط، واتجهت إلى تكريس المؤسسات اليهودية اللازمة لتفعيل هذا الحل. ولماذا نبتعد؟ ألم يهدف آباء المشروع الصهيوني إلى تأسيس دولة يهودية تكون -بزعمهم- حلاًّ نهائياً لما اشتهر بالمسألة اليهودية؟ وهناك في هذا المضمار الكثير الكثير، ما يؤكد أن التركيز على المضمون اليهودي لإسرائيل كان دوماً قائماً على قدم وساق، وأن الأطراف المنغمسة في الصراع على أرض فلسطين وجوارها الإقليمي ومحيطها الدولي كانت على دراية يقينية بهذا المضمون قبل قيام هذه الدولة وبعده. وهكذا، فإن ما يحتاج إلى تفسير هو مطالبة الجانب العربي بعامة والفلسطيني بخاصة، بالاعتراف الموثق في صلب عملية التفاوض والتسوية بهذا المضمون خلال السنوات العشر الأخيرة. لقد كان من شأن الاجتهادات الثرية بهذا الخصوص أنْ وَضَعَنا أيدينا على معظم الأضرار المتوقعة بحقوق العرب والفلسطينيين إذا ما استجابوا لهذا المطلب، وأهمها بلا حصر الموافقة شبه الضمنية على الرواية الصهيونية حول التاريخ السياسي القديم لفلسطين، وتعريض فلسطينيي ال 48 للانكشاف واحتمال طردهم من ديارهم، أو القناعة بدونيتهم والقبول بحالة انعدام المساواة التي يخضعون لها بشكل قانوني صريح. إن توثيق القبول بيهودية إسرائيل سيفتح مصير هذه الجماعة على أفق سياسة التمييز الأكثر قتامة مما هو قائم بالفعل منذ عام 1948. تقديرنا أن الأدبيات العربية والفلسطينية، التفاوضية بالذات، قدمت ولا تزال دفوعاً وحججاً قوية بين يدي رفض الانصياع للمطلب الإسرائيلي، غير أن الاستغراق في مضمار هذه الدفوع يكاد يصرف الأنظار عن التدبر في بعض السلبيات، التي ربما تنال من إسرائيل ذاتها، جراء إفراطها في التوكيد على هويتها اليهودية، والتي ربما كانت أحد أهم الأسباب التي جعلت الإسرائيليين يتجاهلون مطلبهم الحالي من العرب والفلسطينيين لعشرات السنين؟ ويشي بتوقع مثل هذه السلبيات وجود جدل إسرائيلي كبير حول جدوى هذا المطلب ورفع لواء البعد اليهودي للدولة في المرحلة الراهنة. عطفاً على هذا التصور، نلاحظ أن بعض الإسرائيليين يتحسسون من إمكانية بروز التناقض بين الادعاء بأن دولتهم ذات نظام ديموقراطي وبين الاتجاه إلى اعتبارها دولة يهودية، ففقه الديموقراطية لا يجيز حصر هوية الدولة في زقاق الدين، واعتبارها بكل فجاجة لليهود فقط. وترتفع الحساسية من هذا التناقض بالنظر إلى أنه قد يسوق الغرب الديموقراطي إلى التوجس من دعوى انتماء إسرائيل إلى منظومته الفكرية وأسلوبه وتقاليده. من جهة أخرى، يخشى هؤلاء من تصاعد ردود الأفعال الإقليمية، العربية والإسلامية، التي ربما جنحت أكثر إلى تعويم المفهوم الديني للصراع مع إسرائيل، بما يؤدي إلى توسيع دائرة الذين يطلبون رأسها في سياق حرب مقدسة عليها. كأن الإفصاح عن يهودية إسرائيل ربما عمّق عزلتها في عالمي الغرب والشرق. إلى ذلك، ثمة مخاوف مشروعة من أن يؤدي الإيغال في التعريف اليهودي لإسرائيل، إلى تصدعات في العلاقة بين قطاعات المستوطنين اليهود وقطاعات المستوطنين غير اليهود داخل الدولة. لقد استقبلت إسرائيل خلال العقدين الأخيرين أكثر من 300 ألف من المهاجرين المشكوك في يهوديتهم، وبمجرد التركيز على النسب اليهودي البحت لإسرائيل، فسوف تزداد موجة التربص والتوجس بين هذه القطاعات. ندفع بذلك وفي الذهن ذلك التصاعد الواضح في نفوذ المتشددين (الحريديم) هناك بوتيرة لا ينبغي معها استبعاد الصدام مع العلمانيين اليهود، فكيف تكون الحال مع العلمانيين غير اليهود؟! وإذا مددنا هذه الملاحظة على استقامتها، وصلنا إلى إمكانية تراجع قدرة إسرائيل «اليهودية» على استقطاب مهاجرين غير يهود من الأصل، لعلم هؤلاء الأخيرين بأنهم سيواجَهون بشروط حياة لا تناسبهم، في دولة تميل علانية لليهود وتنطق باسمهم فقط. وخطورة هذا التطور أنه سيفاقم واقع الضعف السكاني إزاء الفلسطينيين داخل الدولة، وكذا في حدود فلسطين التاريخية، لضمور المدد البشري غير اليهودي عنها أو انقطاعه من جهة، وعزوف كثير من القطاعات اليهودية القحة عن الهجرة إليها من جهة أخرى. يقول تقرير معهد سياسات الشعب اليهودي الصادر في حزيران (يونيو) الماضي، إن «تنامي العداء والكراهية لليهود في أوروبا، دفع العديد منهم إلى الهجرة ولكن ليس إلى إسرائيل، وإنما إلى مواطن أخرى مثل كندا والولايات المتحدة». ثم إن المستوطنين غير اليهود قد يتساءلون عن جدوى الدفاع عن دولة تجاهر بأنها ليست لهم، تماماً كما هو الحال بالنسبة لفلسطينيي 48. نحن بصدد ملف ينطوي على تعقيدات ومحاذير بالنسبة إلى الداخل الإسرائيلي، لاسيما في الأجلين المتوسط والطويل، ومع ذلك فإن المفاوضين الإسرائيليين يُظهرون إصراراً على مقاربته بعيون عوراء، لا ترى فيه غير ما يفيد مشروعهم في الأمدين القصير والمنظور. وآية ذلك أن معظم الإسرائيليين لا يفضلون البوح بالارتدادات السلبية لهذا الملف، الأمر الذي يحول دون إيفائها حقها من التحري والبحث في مناظراتهم ذات الصلة. غير أن الطرف العربي الفلسطيني يظل معنياً باستكناه هذه الارتدادات وتوظيفها في صراعه التاريخي الاجتماعي الممتد مع إسرائيل. * كاتب فلسطيني