تميزت العصور الأولى من الفترة الاسلامية وبخاصة في العهد العباسي الأول بنضارتها ورونقها الفكري التنويري الذي لم يكن ليتأتى لولا فهم اولئك النفر من الرعيل الأول لأهداف ومبادئ الدين الاسلامي السمح، ولهذا ففي الوقت الذي كانت تعيش أوروبا في عصورها المظلمة بتأثير من رجال الكنيسة الجاثمين على مجتمعاتهم كانت الدولة الاسلامية تعيش من أقصاها الى اقصاها حياة فكرية ومادية نضرة متوهجة أثمرت ابداعات معرفية في الفنون والمعارف المادية منها والمعنوية، تتعدد فيها الأراء وتتباين داخل خيمة واحدة ليخرج منها نتاج فكري تنويري اضاء للبشرية في فترتها دروبها ومسارها النهضوي. غير أن ذلك لم يستمر بهذا الشكل طوال هذه الفترات التنويرية، اذ حاول بعضهم، في تلك الفترات، من صناع القرار المتجبرين بمؤازرة من بعض العلماء المتمصلحين مدعومين ببعض الرعية فرض قيود الظلام والجهل منطلقين من مفهومهم للقضاء والقدر الذي ليس للانسان مخرج منه، مخالفين قواعد العدالة التي قررها الله في القرآن الكريم. ولم تقتصر هذه الجبرية على المنهج السياسي في بعض تلك الفترات، بل امتدت الى المنهج العلمي، فظهرت النزاعات الدينية المبنية على احادية الرأي والتفكير المؤدية الى قداسة ما وصل اليه بعض المذاهب من آراء، فلا يجوز القدح أو التشكيك في صحة ذلك الرأي بصورة بسيطة فما بالك بالمخالفة. ومن حسن الحظ أن هذه العصبية الفكرية لم تنتشر على نطاق واسع في تلك الفترات الاسلامية البهية، وعليه فلم يكن لها ذلك التأثير الملحوظ على حركة التنوير الاسلامي في حينها، ولكن عندما ضعف المسلمون فكرياً وسياسياً، وتقلصت مدى مفاهيمهم العلمية والمعرفية لتنغلق وتتوقف في ما يعرف بمرحلة الشروح وشرح الشروح، برزت العصبية المذهبية بصورتها السلبية لتعمل على ايقاف المسملين عن اللحاق بركب الحضارة العالمية، بسبب انغماسهم في خلافاتهم المذهبية، وانغلاقهم في تأويلاتهم الفكرية، وحرصهم على رفض بعضهم بعضاً، فأخذت الأمة الواحدة تنقسم الى شيع ذات منحى عقدي مختلف عن الآخر حسبما يتصور كل طرف. وطغى علينا في بعض الفترات ما يشبه سطو الكنيسة ورجال الدين على أوروبا في عصورها المظلمة. ولعل اكثر ما يحز في النفس، ويؤلم القلب، ويؤرق العقل هو مصادرة فكر ورأي الآخر بمنطق تحجري مختف وراء الشعارات الدينية التي يدعيها كل طرف. ومن البلية أننا في هذه الفترة نعيش بوادر حال الظلام هذه - التي ليس للانسان فيها- الحق في أن يطرح أو يفكر بما يريد، بل ان يرى ويفكر ويطرح من خلال ما تراه وتفكر به الجماعة على حد تعبير بعضهم، ذلك أن مخالفتك لهم تعني مخالفتك للدين الذي تسجد في شخوصهم الفكرية. ومن هنا كانت جذوة الآخر علينا وسيطرته على مقدراتنا، بأعماله وتأصيله لهذا النهج بين ظهرانينا، فلا يدع للراغبين بالخروج بالأمة من عنق الزجاجة مسلكاً أو طريقاً، لأن في ذلك خطراً عليهم، لكوننا اصحاب حضارة معنوية عالية الجناب. نعم، علينا ان نحترم موروثنا الديني، وأن نسير في ظل قيمنا الخيرية مستندين على قواعد الحرية الفكرية التي تقارع الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، لا الحجة بالسيف، والرأي بالعصا، محاولين استيعاب الآخر بلطف وروية، فنحن الأقوى اذا تمسكنا بمبادئنا على أحسن وجه، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسوة حسنة حين امره الله في قرآنه الكريم ان يدعو قريشاً الى المحاورة انطلاقاً من عدم قطعية الحقيقة "انا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" وانطلاقاً من قول ائمة آل البيت "كل مجتهد صّيب" بمعنى نفي قطعية الحقيقة عن آرائهم بصورة كاملة، وهو يوافق قول الإمام ابي حنيفة رحمه الله "كل مجتهد مأجور" وقول الإمام الشافعي رحمه الله "ما جادلت أحداً إلا وخلت ان الحق معه". علينا ان نناقش لنصل الى الحقيقة النسبية لأن الحقيقة الكاملة المطلقة لا يعلمها الا الله، لا ان نناقش لنصنف ونحاكم، علينا ان نؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع، فلا نحرم احداً من وطنيته لمجرد مخالفته لنا الرأي أو حتى العقيدة" منطلقين من قول الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه في عهده للأشتر المشهور حالما ولاه على مصر: "ولا تكونن سبعا ضارياً فتغتنم اكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، فما أحسن هذا القول وما اجمل نوره على البصيرة. فتصنيف الإمام علي هو تصنيف اسلامي شرعي، فهو من هو منزلة عند الله ورسوله وبين المسلمين. ولو امعنا النظر في قوله لاستشرفت لنا الحقيقة الضائعة فهو بقوله: إما أخ لك في الدين يقصد مفهوم المواطنة الشرعية بغض النظر عن لون او جنس أو طبقة اقتصادية أو خلافه، وهذه المواطنة لها حقوقها وواجباتها في الشريعة الاسلامية، ولم ينف في الوقت ذاته حقوق المواطنة اللغوية بقوله: أو نظير لك في الخلق أي أنه انسان مثلك كرّمه الله بخلقه على أحسن تقويم، فله احساسيه ومشاعره ومنطلقاته الفكرية التي يجب علينا ان نحترمها. لعلنا بحاجة الى ان نستعيد قراءة سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام السلوكية، وسيرة صحابته الكرام رضوان الله عليهم، وسيرة علمائنا الأفذاذ لنعيد بناء أنفسنا بالصورة التي تمكننا من فرض احترام مبادئنا وأفكارنا على الآخرين، بل وعلى بعضنا بعضاً.