رئيس الحكومة الفرنسية ليونيل جوسبان الاشتراكي رجل سعيد. وسعادته هذه، مردها الى الحصيلة الايجابية النادرة في فرنسا، للسنوات الثلاث التي أمضاها في الحكم منذ 2 حزيران يونيو 1997. فما من رئيس حكومة فرنسي قبله، باستثناء بيار موروا وميشال روكار، احتفظ بالحكم لمدة ثلاث سنوات. والاهم ان ما من رئيس حكومة قبله احتفظ بالحكم لمثل هذه المدة واحتفظ ايضاً بشعبيته التي تبلغ وفقاً لاستطلاعات الرأي نسبة 61 في المئة. واضافة الى كونه سعيداً، فان ليونيل جوسبان ايضاً شخص محظوظ، بدليل ان الذكرى الثالثة لتوليه رئاسة الحكومة تزامنت مع نبأ يحلم به اي رئيس حكومة في بلد متطور: انخفاض معدل البطالة الى ما دون نسبة 10 في المئة. فهذا الرقم جاء ليقدم دليلاً اضافياً على النجاح الذي حققه والطريق الذي قطعه. فلدى توليه منصبه كانت البطالة تفوق 12 في المئة والاقتصاد في جمود خانق والخزينة في حالة عجز بالغ يتوجب تسديده عبر المزيد من الضرائب. اما اليوم، فتم خفض البطالة، وباتت فرنسا تسجل احد اعلى معدلات النمو الاقتصادي في اوروبا وانحسر العجز بل سجلت عائدات الخزينة من الجباية فائضاً يسمح بالسعي الى خفض الضرائب. ويكمن سر هذه النجاحات في قدرة جوسبان على الابتكار، حسب اصدقائه. فحكومته هي التي اعدت سلسلة التسهيلات التي تحظى بها المؤسسات التي تستخدم شباناً كانوا عاطلين عن العمل. وهي التي اعدت خطة خفض ساعات العمل من 39 الى 35 ساعة مما ادى الى توفير وظائف جديدة في مختلف قطاعات العمل. اما خصوم جوسبان فيعتبرون ان من ابرز اسباب نجاحه عودة النمو على صعيد الاقتصاد العالمي اذ من دون هذا النمو ما كان قد تمكن من اخراج الاقتصاد الفرنسي من جموده. ومثل هذا القول ليس له تأثير كبير على جوسبان. فالمهم بالنسبة اليه هو رضا الفرنسيين. وهو ما يجد فيه نوعاً من الانتقام الشخصي بعد كل ما قيل عنه من انه جامد وحزبي يفتقر الى المهارة. فأي نظرة يلقيها على السنوات الثلاث الماضية تكفي لاقناعه بعكس ذلك، خصوصاً انه واجه في عمله عقبات وعراقيل. فتوجب عليه في البداية التغلب على المقاومة التي ابداها ارباب العمل حيال خطته لخفض البطالة وخفض ساعات العمل، ومن ثم توجب عليه التعامل مع الحركة المطلبية التي واكبت تطبيق هاتين الخطتين. في الوقت ذاته كان لا بد لجوسبان من ان يثبت لمنتقدي توجهاته سواء في فرنسا او في اوروبا، ان الليبرالية ليست الوصفة الكفيلة بحل مختلف المشاكل الاقتصادية، وانه بالامكان اعادة احياء الديناميكية الاقتصادية في ظل دور توجيهي للدولة كما هي الحال في فرنسا. وتصاعدت العقبات في وجهه في الشتاء الماضي، فاضطر للانفصال عن صديقه وابرز اعضاء حكومته، وزير الاقتصاد والمالية السابق دومينيك شتروس كان، اثر ورود اسمه في تحقيق قضائي، ومن ثم وجد نفسه وسط عاصفة من الاحتجاجات نتيجة تطاوله على السياسة الخارجية لفرنسا اثناء وجوده في اسرائيل حيث وصف "حزب الله" بالارهابي. وما ان تمكن من قلب هاتين الصفحتين حتى اصطدم باضراب المعلمين وموظفي دائرة الضرائب الذين رفضوا الاصلاحات التي كان يعتزم تطبيقها في هذين القطاعين، فلجأ الى تعديل حكومي تخلص عبره من الوزراء الذين كانوا يثقلون على ادارته. وعادت شعبيته الى نموها المعهود، وعاد المستقبل مزهراً امامه. لكن كل هذا لا يلغي كون جوسبان يعاني من حسرة عميقة: فهو يعمل ويكدّ لترسيخ وتيرة الاقتصاد ولمواصلة محاربة البطالة والحفاظ على النمو، في حين ان رئيس الجمهورية جاك شيراك الديغولي الذي لا حزب وراءه تقريباً ولا غالبية برلمانية، يعادله شعبية ان لم يتقدم عليه في بعض الاحيان. وجوسبان الذي يعمل اليوم ليحصد غداً، وتحديداً في انتخابات الرئاسة الفرنسية ربيع 2002، يعرف ان رضا الفرنسيين عنه كرئيس للحكومة لا يعني بالضرورة انه مرشحهم المفضل للانتخابات الرئاسية. فهم يكافئونه على اجتهاده لكنه يحبون شيراك بسبب شخصيته وجاذبيته وبسبب الحرارة التي يضفيها حضوره في مكان ما. وجوسبان الذي يفتقر الى قدرة شيراك التلقائية على تحريك مشاعر المودة لدى العامة، مضطر اذن الى مواصلة جهوده وتحسين صورته لأن عليه كسب قلوب الفرنسيين لكسب اصواتهم في انتخابات الرئاسة. لذلك بدأ يكرّس بعض الوقت للظهور في المناسبات العامة كالمباريات الرياضية والمهرجانات الثقافية ومنها مثلاً مهرجان كان السينمائي. فهل ينجح في ازالة انطباع الجمود الملتصق بشخصيته ويعوّض عن الفشل الذي واجهه اخيراً عندما حاول الظهور في مظهر المحدّث مقترحاً خفض مدة الولاية الرئاسية من سبع سنوات الى خمس سنوات، فبادر شيراك الى تبني الاقتراح واحالته على الهيئات المعنية استعداداً لطرحه على استفتاء شعبي، حارماً رئيس حكومته من أبوّته!؟