كرة القدم المصرية تتأخر يوماً بعد يوم، واقع لا يمكن الاختلاف عليه. ملف شائك فتحته "الحياة" حيث اشارت في الحلقة الاولى الى الدور السلبي لوزارة الرياضة Lن طريق تدخلاتها المستمرة مع اتحاد الكرة وفي أعماله. وفي الحلقة الثانية عرضنا للكارثة التي حلت عليها بسبب الاحتراف الوهمي لنجومها في أندية اوروبا مما حولهم الى كومبارس وهبط بمستواهم... واليوم ننقل لكم الواقع المالي المر الذي عصف بها على رغم ان الامكانات المادية توافرت طيلة تاريخ اللعبة، لكن من دون أن توجه بشكل صحيح يهدف الى رفعة المستوى أو زيادة المنافسة. كرة القدم تحولت اخيراً الى تجارة واقتصاد بعد انتشار الاحتراف المفتوح، ولا مجال للفقراء لمنافسة الاغنياء على مراكز الصدارة سواء في الملعب أو خارجه. والدوري المصري هو النموذج الصارخ عالمياً - وليس عربياً فقط - لفوارق الثروة الشاسعة بين الأندية المتنافسة في مسابقة واحدة، وهو الأمر الذي تسبب بشكل واضح في اضعاف بل وإنهاء المنافسة المحلية. واحرز الاهلي - اغنى الاغنياء - كل بطولات الدوري المصري في السنوات الست الماضية وهو بصدد احراز اللقب السابع في الموسم الحالي، وتبعه الزمالك - ثاني الاغنياء - بالحصول على مركز الوصيف الدائم، ولا جديد في الموسم الحالي الذي يتصدره الاهلي بفارق 10 نقاط عن الزمالك الذي يبتعد بفارق 6 نقاط عن المنافس الثالث. ولا يخفى على أحد أن ضعف المنافسة المحلية في أي دولة يقلل من المستوى العام للعبة وينعكس سلباً على مستوى منتخبها الوطني، وتعاني اسبانيا صاحبة التاريخ العريق والنجوم الافذاذ من توارٍ دائم في كأس العالم لأن المنافسة المحلية لديها انحصرت طويلاً بين ريال مدريد وبرشلونة. الأساس في أي بطولة او منافسة هو توافر الكفاية بين المشاركين. ولكن الفارق بين موازنة الناديين الكبيرين - وهما يلقيان دعماً دائماً من الأبواب الخلفية تحت ستار رجال الاعمال الموالين لهما - وبين موازنة بقية الأندية التي لا تتطلع أبداً الى الفوز بلقب بطل الدوري، ويقتصر هدفها على المشاركة او محاولة البقاء في دوري الاضواء. اتحاد كرة القدم لم يتدخل يوماً لعلاج الأزمة، او تضييق الفجوة التي تتسع بشكل مضطرد. والاتحاد يفتح الباب دوماً لثراء أكثر للاهلي والزمالك ولمزيد من الفقر للأندية الاخرى، ومسابقات الاتحاد تدور في فلك الناديين الكبيرين اللذين يسيطران على وسائل الاعلام ايضاً، ويبث التلفزيون كل مبارياتهما على الهواء مباشرة ما يزيد من شعبيتهما ويمنحهما ايرادات قياسية من الاعلانات، في حين تعاني الأندية الاخرى التي تلعب في الوقت نفسه من خلو المدرجات ونقص الايرادات. الاهلي والزمالك قادران مالياً وإعلامياً وإدارياً على شراء أي لاعب يظهر أو يلمع في الأندية الاخرى، ولا يقوى أي ناد في مصر على حجب أحد نجومه عن الاهلي أو الزمالك اذا قرر أحد الكبيرين ضمه. أحمد الكاس وحكاية احمد الكاس نجم فريق الاولمبي السكندري ومنتخب مصر وهداف الدوري لمرتين، دليل واضح على سطوة الاهلي والزمالك على مقدرات الاندية الاخرى. وكان الكاس طلب من إدارة ناديه الانتقال الى الزمالك مقابل عرض مغرٍ وقبل عام من نهاية عقده في الاولمبي، ورفضت إدارة النادي السكندري العرض وتمسكت ببقاء النجم لأنه العمود الفقري للفريق، والاستغناء عنه يعني انهياراً كاملاً وهبوط النادي الى الدرجة الثانية. ووقتها ضغط الزمالك بشدة على إدارة الاولمبي من دون جدوى، وامتدت الضغوط الى وسائل الاعلام، وارتفعت نبرة مسؤولي الزمالك للتأكيد على ضم الكاس رغم أنف الاولمبي. وإزاء اشتعال الأزمة دعا الدكتور عبدالمنعم عمارة رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة وقتئذ الى اجتماع عاجل لمسؤولي الناديين وقرر عمارة ضم الكاس الى الزمالك رغم أنف الاولمبي فعلاً. وحصل النادي السكندري على الأموال الكثيرة، لكنه فقد لاعبه الكبير وهبط في نهاية الموسم الى الدرجة الثانية كما كان متوقعاً. وهو لم يتمكن من الصعود مجدداً حتى الان. والنتيجة كانت ان فقدت كرة القدم المصرية نادياً عريقاً وفريقاً قوياً في مسابقة الدوري الممتاز، علماً بأنه كان اول فريق من خارج القاهرة يحصل على لقبها. ولم يهتز جفن أي مسؤول في اتحاد الكرة لهبوط الاولمبي أو انهياره طالما تحقق للزمالك غرضه، واللافت ان مستوى الكاس هبط ايضاً بعد انتقاله للزمالك ازاء عدم مشاركته المستمرة بسبب وفرة النجوم، ولم ينل الكاس لقب الهداف بل وخرج من تشكيلة منتخب مصر. نفوذ الاهلي والاهلي يسير في ساحة الكرة المصرية بخيلاء غير عادي ويتباهى باستعراض عضلاته والضغط على اتحاد الكرة بين الحين والآخر لتغيير قراراته بما يتناسب مع مصلحة النادي. وشهد صيف 1999 واقعة لا يمكن ان تحدث في أي مكان في العالم، - إلا في مصر طبعاً - حيث طلب الناشىء سعيد عبدالعزيز مدافع غزل المحلة الانتقال الى الزمالك قبل انتهاء عقده، ورفضت ادارة المحلة وتمسكت بلاعبها خصوصاً أن النادي كان في موقف سيىء في الدوري. لكن اللاعب ضرب عرض الحائط بقرار ناديه ووقع للزمالك وتقاضى مبلغاً مالياً، وهي مخالفة صارخة تستوجب ايقافاً طويلاً للاعب مع بقائه في ناديه. وبدلاً من التصدي لهذا العبث لم يحرك اتحاد الكرة ساكناً، ووجد غزل المحلة نفسه في موقف صعب ومماثل لما تعرض له الاولمبي قبل سنوات، وتأكد مسؤولوه من ضياع اللاعب في وقت قريب. وهنا تدخل الاهلي بطريقة "غير رياضية" وخبيثة من خلال مفاوضات مباشرة مع إدارة المحلة وقدم عرضاً اعلى من الزمالك، ووافق المحلة رسمياً على بيع عبدالعزيز للاهلي. ووقع اللاعب على كشوفات الاهلي وصار لاعباً رسمياً على الورق لثلاثة فرق في آن واحد. اشتعل الموقف بين الكبيرين، وكلاهما يتمسك بحقه، ووجد اتحاد الكرة "اليائس" علاجاً للموقف بوقف اللاعب واعادته الى المحلة مع عقوبة مالية قاسية لكنه فشل في مواجهة الاهلي - القوي ادارياً - وتراجع وسمح للاعب بالانضمام الى الاهلي على حساب الزمالك. وقدم اتحاد الكرة بهذا القرار "الخائن" تسهيلات واساليب ملتوية لأي لاعب آخر يريد الانضمام الى الاهلي أو الزمالك رغم أنف ناديه، وهو ما أدى أخيراً الى حصول الناديين على عشرات التوقيعات من اللاعبين رامي سعيد ومحمد صديق من المقاولين العرب وسعد عبدالباقي وخالد بيبو من الاسماعيلي وياسر فاروق من الكروم السكندري ووليد عبداللطيف من المنصورة. العلاج الحل السريع للخروج من الأزمة الطاحنة الناتجة عن فوارق الثروات ينطلق من ثلاثة محاور: أولاً تحديد موازنة النادي المشارك في بطولة الدوري الممتاز قبل بدء الموسم مع وضع حد أدنى لها، وعدم السماح للنادي غير القادر على توفير الحد الأدنى من الموازنة بالمشاركة في الدوري الاول وتصعيد ناد آخر بدلاً منه لضمان قدرة كل ناد على الحفاظ على لاعبيه وشراء لاعبين كفيين. وسيؤدي هذا القرار الى نشاط أكبر من إدارات الأندية لجلب الرعاية والدعم والاعلان لفرق كرة القدم لضمان المشاركة. ثانياً: اطلاع اتحاد الكرة على التفاصيل الكاملة لانفاق كل ناد من خلال موازنته السنوية، ما يجعل هناك رقابة تمنع الصرف على امور غير مشروعة مثل رشوة الأندية الاخرى او اللاعبين او الحكام لتثبيت نتائج المباريات. ويضمن هذا القرار عدم دخول أموال الى الأندية بطرق غير شرعية، خصوصاً بعد ان شاع أخيراً دعم الاثرياء من رجال الاعمال المتطلعين الى الشهرة للاعبين وللأندية في عمليات الشراء أو بعض زوايا الانفاق الخاطئة. ويجب أن يمتلك الاتحاد حق توقيع عقوبات رادعة سواء بحسم نقاط من النادي المخطىء أو انزاله الى الدرجة الادنى مهما كان اسمه أو تاريخه او جمهوره. ثالثاً: ضرورة تطبيق اللوائح على كل الأندية في عمليات انتقال اللاعبين المحترفين، واذا كان القانون يمنح النادي حق الاحتفاظ بلاعبه طوال فترة العقد فلا يمكن لأي قوة أو أي وزير التدخل لنقله الى ناد آخر كما حدث مع أحمد الكاس. واذا كان القانون ينص على وقف اللاعب الذي يوقع لأكثر من ناد في الوقت نفسه مع اعادته الى ناديه الأول فلا بد من احترام هذا البند الذي كسره الاتحاد لمصلحة الاهلي. اللوائح واضحة، وطرق العلاج كثيرة، ولكن أحداً لا يقوى على مواجهة القوى الكبيرة والاغلبية تبحث عن البقاء في مواقعها على حساب القانون. وفي النهاية... الكرة المصرية هي الضحية. ومنتخب مصر بعيد عن كأس العالم منذ 1990. والأندية المصرية بعيدة عن الألقاب الافريقية منذ 1996 والألقاب العربية منذ 1997.