هل جنّد وليم شكسبير أدبه في الدعاية لملوك آل تيودور الذين ضمّوا هنري الثامن وادوارد السادس واليزابث الأولى 1509 - 1603 أو انه كان معارضاً استخدم شعره بمكر لكي يرفض النظام القائم؟ مسرحان لندنيان قدّما "ريتشارد الثاني" في وقت واحد، وانضم ريف فاينز وسام وست الى لائحة الممثلين الذين لعبوا دور الملك الشاب المأسوي الذي يلي أمير الدنمارك هاملت في اثارة الاهتمام بين شخصيات شكسبير. لم يطبع مشهد اطاحة ريتشارد الثاني خلال حياة اليزابث الأولى، وعشية تمرد إرل اسيكس في 1601 وبر أحد أنصاره، تقديم المسرحية على مسرح الغلوب، وضمت هذه على الأرجح مشهد الاطاحة. لم تجد اليزابث غير تفسير واحد لعمل شكسبير. "أنا ريتشارد الثاني، ألا تعرف ذلك؟" سألت جامع التحف في قصرها. آمن ريتشارد بحقه الإلهي في الحكم لكن أنانيته ومكره، وضعفه في الدرجة الأولى، يهبطان به الى السجن وخسارة كل شيء. الممثلة القديرة فيونا شو أدت الدور في 1995 ورأت انها كانت امرأة تقوم بدور رجل يجد أنه يفتقر الى الرجولة. تخلي ريتشارد عن التاج كان أفضل ما قام به، قالت، لأن ذلك جعله انساناً. "التاج هو القلب بمعنى ما وهو يقدمه لأخطر الناس بالنسبة اليه لأنه أساء استخدام ما كان يجب أن يوليه العناية القصوى كما نفعل جميعاً". رؤية شو لمأساة ريتشارد الثاني 1377 - 1399 يقابلها التعبير الذي واجه آخر ملوك الأندلس في التاريخ العربي. بكى عندما خسر الأرض الاسبانية فسخرت منه والدته: "ابك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال". يؤدي ريف فاينز الضابط النازي في "لائحة شندلر" والكونت العاشق في "المريض الانكليزي" دور ريتشارد ببراعة رآها بعض النقاد الكمال بعينه. يعتقد الملك المراوغ أن مشكلته بسيطة عندما يتهم ابن عمه هنري بولنغبروك أحد النبلاء بالسرقة والخيانة ثم ينتقل الى اتهامه بقتل عم آخر للملك هو دوق غلوستر المحبوب. وتتكثف الشحنة العاطفية عندما يشبّه بولنغبروك الجريمة بهدر دم هابيل موحياً ان المسألة عائلية وقد يكون الملك نفسه معنياً بها. ينفيه ريتشارد ولكن ابن العم لا يلبث ان يعود ويجد ريتشارد نفسه غير قادر على الاستعانة بالجيش ضده فيقدم له التاج ويتحول من ملك الى رجل فقير ووحيد، يتعلم في سجنه كيف يصبح انساناً بعد خسارة كل شيء كغيره من أبطال شكسبير المأسويين. السر جون غليغود الذي لعب الدور في 1929 عندما كان في الخامسة والعشرين تحدث عن علاقة الشخصية بالجمهور. ما كان ممكناً لرجل يتسم بالمكر والغرور الحقير واللامبالاة القاسية ان يطمح الى تعاطف المشاهد. لولا المشاهد الأخيرة التي تنقذه بشعرها الجميل وتؤمن له بعض الفهم والشفقة. السر اليك غينيس تساءل في 1947 عن رؤية المخرج للشخصية فأمسك هذا قلماً له شكل فينوس وقال: "مثل هذا القلم، قاطع ورشيق". وفي 1969 تداخل الفن والحياة عندما كان السر إيان ماكيلين يقوم ببطولة المسرحية في جولة في تشيكوسلوفاكيا. بلغ المشهد الذي يعود فيه ريتشارد من ارلندا ليجد ان ابن عمه بولنغبروك غزا مملكته فيركع ويطلب من الحجارة والحشرات ونبات القراص أن تساعده ليستعيدها من الجيش المحتل. سمع ماكيلين الجمهور يبكي ولم يفطن الى أن تعاطفه لم يكن حساسية تشيكية خاصة الا عندما أدرك ان خيانة ابن العم ماثلت خيانة الجار الروسي الذي دخل تشيكوسلوفاكيا قبل ستة أشهر ولم يكن لدى أهلها من وسائل المقاومة الا الحجارة والعصي. وبلغت التجربة الفنية أوجها في "ريتشارد الثاني" في 1973 عندما قدمتها "شركة شكسبير الملكية" وجعل المخرج جون بارتون الممثلين ايان ريتشاردسون وريتشارد باسكو يتناوبان على كيفهما على دوري ريتشارد وبولنغبروك لكي يؤكد على عنصر التمثيل فيها. ريتشارد ممثل يعرف انه كذلك مثل كل السياسيين، وهو يراقب نفسه عندما يمارس السلطة ويختار العبارات الملائمة لكل موقف ويتظاهر بأحاسيس كاذبة، ولا يلبث ان يتحرر من كل ذلك عندما يعود الى طبيعته الصاخبة الطائشة. يمكن تناول "ريتشارد الثاني" في مستويات عدة. المشاهد الواحد يضع نفسه مكان ريتشارد عند التساؤل عن القرار الأفضل، الحرب أو الاستسلام، ويكرهه في الوقت نفسه لعنجهيته وحمقه وإيمانه بحقه المطلق في الحكم. ولئن بدا مقتله عقاباً طبيعياً للرجولة الضعيفة يظهر موقفه اليوم انسانياً وأخلاقياً للمسالمين رافضي العنف. لكن انسانيته كلفته حياته، فهل الحاكم قوي بقوته العسكرية وحدها، وهل تنحصر قيمته بها؟ الرجل أكبر من الحاكم، يقول شكسبير، ويرسل رسالة مبطنة الى اليزابث الثانية التي لم تكن تقبل، هي وأمثالها، أن يتفوق عليها أحد في المظهر أو يسرق الضوء منها. مع ذلك تمنت اليزابث أن تكون بائعة حليب لكي تكون حرة في الحب، وقال الملك آرثر الشاب في "الملك جون" انه لو كان خارج سجنه قصره يرعى الغنم لكان سعيداً طوال النهار. يجرد شكسبير ملوكه العشرة الذين جعلهم أبطالاً لمسرحياته من الفضائل الانسانية كالصدق والتعاطف ومن البطولة أيضاً. تلتبس هذه ويصادرها شخص ثانوي في الأهمية المسرحية أو في نظر البطل وتثير التساؤلات حول تميز الحاكم الذي يبدو رهينة وضعه وعاجزاً عن البقاء فيه خارج التحديد المكيافيلي له. ريف فاينز الأشبه بالتلميذ الخجول في المقابلات وذو "الجانب القاتم" بحسب زوجته التي تركها من أجل الممثلة فرنشيسكا آنيس التي تكبره بنحو عشرين عاماً يلائم دور الملك الضعيف الذي يقع ضحية خروجه عن متطلبات الحكم. لكن هذا الضعف هو ما يجذب بعض النسويات الداعيات الى "الرجل الجديد" القريب من المرأة والمجرّد من القوة وعنصر التهديد. * كاتبة لبنانية مقيمة في لندن.