ربما لأن العاشق يعود دوماً الى الشوارع والمدن التي عايشت لحظة عشقه، يحاول أن يلملم عن أرصفتها بقايا ما كان أو ربما لأن المجرم يعود دوماً الى مكان جريمته، أو ربما لأسباب أخرى أعيشها وأجهلها، أجدني دائم الشوق الى ذلك المكان، مكان احتضن لقاءنا الأول والوحيد. أحب قصص التلاقي... في كل لقاء بين رجل وامرأة معجزة ما، شيء ما يتجاوزهما يأتي اليهما، في الوقت والمكان نفسيهما فيقعان تحت تأثيره. شيء يمكن تفسيره في ما بعد كيفما سمح الزمن، ولكن يظل العاشقان حتى بعد افتراقهما وقطعتهما مأخوذين بجمالية لقائهما الأول. فهو حال غير قابلة للتكرار. كنت أحاول الهرب من شخص ما في داخلي أتعبني استفزازه لي وازدراؤه لأفكاري وهواجسي. أحاول أن أهرب من الواقع لأعيش في عالمي. عالم خلفت فيه هواجسي وجعلتها تقتات على طموح وآمال معلقة بشرنقة هشة لا أجزم بصمودها طويلاً ضد التيار. عندما رأيتها للوهلة الأولى طلبت من عيني ألا تتأملها ولو لحظة. حاولت أن أكبح تلك الرغبة المفترسة في رؤية ذلك الإنسان عن قرب... ها هي تتنفس وتمشي وتبتسم... بل وتضحك مثلما نفعل نحن. كنت أرى في تشنجها القهري من سحابة برد مرت بجسدها البريء في احدى رحلاتها اللامنتهية بحثاً عن كاترينا. ملامح تضفي على حضورها هيبة انثوية. سمعت تلاطم أمواج البحر يدق بمسمعي مع اني لم أكن في محاذاته. أكان البحر؟ لا. كانت أحاسيس وأفكار وما نسميه مبادئ بدأت تتلاطم في داخل ذلك الجسد المذهول. تصرفاتها توحي باللباقة والأدب، لكن عقلي الباطن لم يكن يعنيه ذلك. كنت أحاول أن أحصي أكاذيبها قبل اللقاء حتى في آخر وهلة قبل هذا اللقاء... لم تكن تخلو من كذب أنثى تدعي الشراسة، محاولة إرضاء غرورها. طالما أحببت احتساء القهوة مع أنثى ككاترينا، في ركن هادئ في مكان غير مزدحم. قبل وصولها بلحظات بدأت أشعر بدبيب صداع في رأسي، سرعان ما تحول صهيلاً، وكاد رأسي ينفجر بعدما تلامست يدان للمرة الأولى. لم تكن أولى النساء وصولاً الى يدي. ولكن كانت أكثرهن دفئاً. - هل تمانعين بفنجان من القهوة آنسة كاترينا؟ - أبداً. - إذاً فليكن هنا... أحب هذا المكان وأشعر بالإلفة فيه. مكثت هنا عشرة أيام في زمان مضى. - نعم أخبرتني بذلك. تضحك... ما يضحكك، ألست أبدو أكبر منك بعض الشيء. لا أعتقد بذلك، بلى. أبدو كبيرة بعض الشيء بالمقارنة معك... أصر على عدم اعتقادي بذلك وتصر هي على رأيها. هل تسخر مني؟ هي تحمل وجهاً طفولياً لا أحد يستطيع تمييز أعوامه... نجلس في ركن بعيد عن أعين الناس نتبادل الحديث، فيما ألتمس لحظة صمت لأتأمل في ذلك الوجه الطفولي. مزيج من الجرأة والعنفوان والبراءة يغلف ذلك الوجه الملائكي الغامض. - كاترينا. أهو اسمك؟ - يمكنك أن تناديني به. - أهو اسمك؟ - لا. هو اسم جميل أليس كذلك؟ ما هي أصول هذا الاسم، لا أعتقد انه اسم عربي. لا هو ايطالي الأصل. ألا يعجبك؟ يعجبني أن أعرف اسمك الحقيقي. هو كاترينا تضحك. هنا يصاب كل ذكر بعقدة السيطرة. هنا أحاول أن أكون سيد الموقف، فليكن اسماً رسمياً. هو كاترينا تضحك. تستمر في تحريك ذلك الشعر الحريري. سواد قاتم. تحاول تلال من الرمال أن تخترقه، لكن سواد ليله يقهر رماله لينسج تلالاً من الشعر يسبي العقول ويسلب الأبصار. عبثاً أحاول أن أقنع نفسي أنها كاترينا. تصر هي على أنها كاترينا. وأصر على معرفة اسمها. عيناها ليستا كعيني كاترينا. بات ذلك واضحاً عندما استأذنتني في مطعم اختارته، كأنها أرادت أن تقول لي إنك إنسان مقروء. كان ذلك مطعماً في احدى الضواحي القديمة في المدينة. لم يعجبني ما قدم إلي في ذلك المطعم بمقدار ما أعجبني هدوء كاترينا ورفقتها. استأذنتني كاترينا لتخلع عدساتها اللاصقة. العينان السوداوان تخفيان أسراراً، كانت جلية الوضوح بعد لحظة تأمل قصيرة. قسوة الحياة، فراق أحباب أو أهل، قسوة غربة في مهنة تحيا منها كل يوم في زمان ومكان مختلفين. وقت يقسو عليها تارة ويمسح بدقائقه وثوانيه ذلك الجسد المتعب تارة أخرى. رحت أبحث في عينيها عن شوق مؤجل، عن بقايا حزن، عن حب مات. تمنيت لحظات صمت أخرى كي أنعم التأمل في ذلك الوجه الطفولي ملياً، حيث لا تريد ذلك. لعل كاترينا عندئذ سترحل مخلفة حقيقة طالما بحثت عنها منذ اللحظة الأولى. تصر كاترينا على أني من ذلك الكوكب الذكوري اللامسؤول. وأحاول أن أنفي تلك التهمة. أتحدث مع كاترينا لحظة، فأجد فتاة رابطة الجأش، جريئة لا مبالية. لكن تلك الفتاة أرادت الخروج من جسد كاترينا. كاترينا تأبى ذلك، توصد الأبواب بأقفال مزدوجة وغلال حديد وترمي بالمفاتيح في قاع بحر من الغموض والقسوة فيما أواصل التأمل وأختلق حديثاً تلو آخر هرباً من الصمت الذي لم يخرج تلك الفتاة من قمقمها ليقطع الحديث لوهلة. يبدو اني أفقد السيطرة على كبريائي الذكورية، أصد بناظري قليلاً، تلمح هي نظرة خيبتي وحزناً في عيني. أهي كاترينا؟ لا بل هي فتاة. ها قد عرفت ما يخرجها من قمقمها: نظرة حزن، دمعة حنين. هو الحنان بلا شك. بدأت أسمع تلاطم أمواج البحر مرة أخرى، كانت هي الأشد. أنظر الى يدها خلسة، فأراها تقترب من يدي. أحاول الفرار ولكن لم يعد هناك مفر. أحسست بدفء يديها قبل أن تلمسها يدي. يعجز قلمي المعاق عن وصف التقاء تينك اليدين الدافئتين بيدي. يد من حبر وأخرى من ورق تلتقيان لتكتبا قصيدة عشق على ضفاف شواطئ كاترينا... نعود كل الى مرفأه للحظة فراق بسيطة ووداع مقتول. أسألقى كاترينا؟ ولكن ها أنا أخاطب كاترينا من جديد ليست هي فتاتي. حتماً سيكون لي لقاء آخر. أعود قافلاً الى مينائي مخاطباً البحر، متوسلاً اللّه أن يرسو بي على شاطئ لقاء آخر... بكاترينا. السعودية - علوي الشرف