ليس هدف التنوع الثقافي الخلاق الوصول إلى نوع من النسبية الثقافية بالدلالة المطلقة التي تنفي إمكانات التشابه والتلاقي والتجاوب، وإنما النسبية التي تدعم الاختلاف في دائرة وحدة التنوع الإنساني. ومن هذا المنظور، فإن تنوع الثقافة يؤدي إلى تشجيع تعدد الرؤى داخل الدولة الواحدة في علاقات تياراتها الثقافية الخاصة، وداخل العالم كله في علاقات ثقافاته المتكاثرة. والمبدأ واحد لا يتبعض في الجزء أو الكل. أعني الجزء الذي ينطبق على كل دولة على حدة، خصوصا في دائرة العلاقات بين مختلف الطوائف العرقية والدينية والتيارات الفكرية، فمن المعروف أن أكثر دول العالم متعددة الطوائف والأعراق، وتضم داخل حدودها عددا كبيرا من الجماعات العرقية والثقافات المتباينة. ولا تخلو دولة قط من تنوع التيارات وتباين الاتجاهات. وسلامة الجزء هي سلامة الكل في هذا السياق الذي يجعل من تقبل الاختلافات بداية التقدم في الثراء الإنساني العام. ولايعني اشتراكنا في إنسانية واحدة، بالطبع، أننا أصبحنا أعضاء قبيلة عالمية واحدة، لا تعرف سوى الصوت الواحد أو البطريرك المهيمن، فتنوع الجنس البشري يضرب بجذوره في وجود الإنسانية المشتركة، ويفرض تنوع الأصوات وإزاحة البطريركية أو استئصال رواسبها. وفي الوقت نفسه، العمل على مواجهة أي شكل معاصر - مهما كان بريقه الظاهري، وأيا كانت مخايلاته التقنية أو الاتصالية - من أشكال البطريركية الثقافية والسياسية والاقتصادية بما يحرر البشرية من واحدية القطب أو المركز أو القوة المهيمنة. ولا شك في أن البشرية، اليوم، مع أفول الحكومات الشمولية، وسقوط الخطابات المتسلطة، يمكن أن تدرك أهمية وحدة التنوع التي تجمع بين البشر فتمايز بينهم دون عدوان أو استغلال، كما يمكن أن تتعلم درس المستقبل الذي يتمثل في أن التعددية ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة لتحقيق المزيد من الثراء الإنساني، كما تتعلم، أخيرا، أن الاعتراف بالاختلاف هو أولى خطوات طريق هذا الثراء الذي يتأكد بالحوار، بعيدا عن مخاطر الصراعات والمواجهات الحدية. ولذلك فإن الاعتراف بالاختلاف كالحوار الإنساني شرط جذري لبناء وحدة أوسع نطاقا بين البشر المتباينين بالضرورة في مستويات ومجالات عديدة. وعلى الرغم من المصاعب التي تواجه مبدأ التنوع الخلاق، وكلها مرتبطة ببقايا الهيمنة القديمة وصعود هيمنة جديدة، فإن المصير الواحد الذي تواجهه البشرية يفرض على طلائعها في كل مكان إيجاد سبل جديدة للتوفيق بين تعددية واعدة ومواطنة مشتركة. والهدف النهائي هو إيجاد عالم يشعر بعمق تكونه من ثقافات متباينة، ثقافات تضيف إليه ما يزيد من الامكانات اللامحدودة لقدراته. وفي الوقت نفسه، يتكون هذا العالم من دول تتألف كل منها من ثقافات متعددة، وتعترف كل منها بالتعددية دون أن تفقد وحدتها، وتدرك أن في التعدد قوة ما ظل التعدد داخل إطار من الوحدة المرنة المفتوحة، خصوصا بالمعنى الذي أشار إليه المهاتما غاندي عندما قال: "لا أريد لدارس أن تحيط بها الأسوار من كل جوانبها وأن تسد نوافذها، أريد ثقافة البلاد كلها أن تهب على داري بحرية تامة، لكنني أرفض أن تقتلعني إحداها من الأرض". والواقع أن ازدهار خطاب التنوع الثقافي، رغم تأثره بالحضور المتزايد لثقافات العالم الثالث، لا يمكن فصله عن المتغيرات التي حدثت في علاقات الانتاج الثقافي داخل دول المركز الأوربي - الأمريكي نفسها. وهي تحولات مقترنة بتغيرات ديموجرافية مصاحبة لمتغيرات اجتماعية وثقافية، فضلا عن المتغيرات الثقافية التي أحدثتها الخطابات الجذرية المناقضة لكل أشكال الهيمنة، الأمر الذي أدى إلى الإسهام في تقويض الهيمنة التقليدية لنزعات المركزية الثقافية التي ظلت تفرض نفسها طويلا على السياسات الثقافية لهذه الدول. وكان من نتيجة ذلك فتح الأبواب لتحقق إمكانات التنوع الثقافي الخلاق بالفعل في هذه الدول، واستبدال الأفق المفتوح لنزعة التعددية الثقافية بالهيمنة المطلقة للثقافة المركزية وحدها، ومن ثم بداية إحلال مبدأ التنوع الثقافي الخلاق محل مبدأ التعصب العرقي والجنسي. ويوازي ذلك عدم التمييز بين ثقافات الأقليات الوافدة أو المقيمة في هذه الدول من ناحية وثقافة الأغلبية الأصلية من ناحية مقابلة، وذلك جنبا إلى جنب فتح أبواب الحوار بين كل الثقافات دون تمييز على أساس من دين أو عرق أو جنس. ومن الممكن القول إن نزعة التعددية الثقافية هي النزعة المناقضة - داخل الدوائر الأوروبية الأميركية - لنزعة المركزية الثقافية التي انطلقت منها المركزية الأوروبية في المجال الثقافي الملازم للمفاهيم المركزية لعالمية الأدب، فالنزعة الأولى - التعددية - نزعة تحررية فرضها تعدد المجموعات العرقية التي لا تزال تسعى إلى استكمال ما انتزعته من حقها الطبيعي في الوجود والتعبير الثقافي والإبداعي المغاير، وذلك على أساس من ضرورة الاعتراف بالمكانة المتساوية لكل ثقافات المجموعات العرقية المختلفة في المجتمع. وقد ترتب على هذا الوضع إعادة النظر في الفرضيات السائدة عن وحدة الثقافة بالمعنى الذي أصبحت تعكسه السياسات الثقافية لكثير من دول أوربا وأميركا، وذلك على نحو لم تعد معه الثقافة في أي بلد من هذه البلدان مقصورة على مجموعة عرقية أو ثقافية دون غيرها كما كان الحال قديما، بل أصبحت الثقافة كيانا مفتوحا على كل المجموعات التي تسهم في صنعها. هكذا، أصبحت الثقافة الانكليزية، في انكلترا مثلا، تشمل أبناء ويلز واسكوتلندا وأيرلندا والآسيويين والافارقة والكاريبيين والصينيين والشرق أوسطيين وغيرهم من أبناء المجموعات العرقية المستوطنة. وليس ذلك على سبيل الإدماج الذي يعترف بهيمنة ثقافة سائدة، أو من قبيل اعتراف ثقافة مهيمنة بأبناء الثقافات الأخرى الذين تمنحهم شرف الانتساب إليها، وإنما على سبيل التباين المعترف به لوحدة التنوع التي لا تعرف - أو على الأقل التي لا تعترف بوجود - معنى الهيمنة المرفوض. واكب ذلك إعادة التفكير في الفرضيات السائدة عن الثقافة وإبداعاتها، وذلك على نحو لم يعد من المقبول معه إبقاء علاقات القوة غير المتكافئة بين ثقافات المجموعات العرقية المختلفة، على الأقل من وجهة نظر دوائر متعددة أصبحت تملك من التأثير وتمارس من النفوذ ما يسمح له بفرض تصوراتها عن التنوع الثقافي. وكان من نتيجة ذلك إشاعة الوعي بضرورة تحويل العلاقات غير المتكافئة ثقافيا إلى علاقات متكافئة، هي علاقات التباين الخلاّق التي تؤكد القيمة نفسها لكل ثقافة من الثقافات أو كل طائفة من الطوائف الثقافية. ويبدو أن استبدال مصطلح "التنوع الثقافي" Cultural Diversity بمصطلح التعددية الثقافية Multiculturalism قصد به تأكيد هذا المعنى في الثمانينيات والتسعينيات في انكلترا بوجه خاص، وذلك فيما يؤكد لنا كتاب "السياسات الثقافية" الذي أصدره غلين جوردان Glenn Jordan وكريس ويدون Chris Weedon عن دار نشر بلاكويل Blackwell بانكلترا سنة 1995. والسبب في ذلك أن مفهوم "التنوع الثقافي" أكثر جذرية في عدم ربطه الثقافة بأصل عرقي أو جنسي بالضرورة، الأمر الذي يتيح له تجنب مزالق الانغلاق الذاتى التي تكمن بعض رواسبها في هذه الصياغة النظرية أو تلك من صياغات التعددية الثقافية. ويسهل أن نتبين هذا البعد مع ملاحظة اتساع مدى التنوع العرقي والثقافي واللغوي الذي أصبحت تتميز به المدن الأوروبية - الأميركية الكبيرة على نحو متزايد، في عالمنا المعاصر، حيث لم يعد الواقع السكاني في هذه المدن يعرف هامشية التجمعات السكنية المنغلقة، المعزولة أو المنبوذة، عن بقية التجمعات، كأنها الجيتو ghetto اليهودي قديما، وإنما أصبح هذا الواقع يقوم على تعددية عرقية ومن ثم لغوية ثقافية مفتوحة، بلا حواجز صارمة أو معلنة من التمييز العنصري أو الديني أو الثقافي القديم. ولذلك أصبح التعدد اللغوي المذهل أحيانا سمة هذه العواصم التي تأتي نيويوركولندن في موضع الصدارة منها، خصوصا من حيث معدلات الأزدحام اللغوي. وهو ازدحام لا يخلو من عمليات تبادل وتراسل وتفاعل تؤكد تساقط الحواجز اللغوية التقليدية القديمة بين الإحياء ذات الكثافة العرقية المتباينة في المدينة الكوزموبوليتانية، فلم يعد "الحي الصيني" China Twon - مثلا - يقتصر على ذوي الأصول الصينية، أو الأسيوية، من ذوى الوجوه الذين كانوا يعيشون في معازل غيتوات لا علاقة لها بغيرها، وإنما انفتح الحي على غيره، واتصل به من لم يكن يتصل به قديما، وخرج أبناء الحى المعزول ليختلطوا ببقية الأحياء. وفي الوقت نفسه، انتقلت ثقافة الحي في مظاهرها المتعددة وممارساتها المتنوعة إلى خارج دائرته الجغرافية المحدودة لتمارس حضورها في غيره من الإحياء، وتتفاعل مع غيرها من الثقافات بما يخلق أوضاعا ثقافية جديدة وتراسلات لغوية متباينة. وربما كان أوضح دليل على اتساع مدى التنوع العرقي والثقافي، لغويا، ما تظهره الإحصاءات اللغوية الخاصة باللغات واللهجات المستخدمة في العواصم الكوزموبوليتانية الكبرى. ويقال -على سبيل المثال- إن مدينة لندن -عاصمة انكلترا- أصبحت أكثر مدن الأرض من حيث التنوع اللغوي فيما ذكرت صحيفة "التايمز" بعدد السبت 22 كانون الثاني / يناير 2000. وقد أشار الباحثون إلى أن أطفال هذه العاصمة يتحدثون حوالى ثلاثمئة لغة، وأن نسبة الثلثين من كل ثمانمئة وخمسين ألف طفل هم الذين يتحدثون الإنكليزية وحدها في منازلهم، وأن الثلث يتحدثون لغات غير الإنكليزية في تجمعاتهم العرقية الخاصة. ويعني ذلك نوعا من التعايش اللغوي بين الإنكليزية ولغات أخرى كثيرة تنتسب إلى الشرق والغرب داخل العاصمة البريطانية. ولايختلف الأمر كثيرا لو تحدثنا عند مدن كبرى أخرى مثل نيويورك أو غيرها من العواصم الأوروبية أو المدن الأميركية الكبرى، فالتباين اللغوي نفسه قائم بدرجاته المتفاوتة بالطبع، لكن في دلالاته التي تؤكد أن التعددية الثقافية تجسيد لواقع فعلي لا يمكن لأحد تجاهله. ويعني ذلك أن القارئ باللغة الانكليزية في مدينة لندن - بوصفها نموذجا دالا على غيرها - لم يعد القارئ البريطاني الأصلي في عهد الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وإنما أصبح القارئ الذي يرجع إلى أصول عرقية متباينة، متفاعلة في أغلب الأحوال، متصارعة في أقلها. وقد نتج عن ذلك أن أصبح أفق استقبال هذا القارئ أكثر اتساعا من سلفه القديم أيام مجد الامبراطورية القديمة، وأكثر تقبلا للتنوع الثقافي لأبناء الأعراق التي تحررت من السطوة الاستعمارية للامبراطورية التي لم يعد لها وجود. ولايزال ينقض الرواسب الاستعمارية لهذه الامبراطورية -بواسطة الكتابة- أولئك الذين تحرروا من هيمنتها الثقافية، سواء كانوا من أبنائها الأصليين أو من أبناء المستعمرات التي تحررت وفرضت حضور ثقافاتها المغايرة، حتى في داخل عاصمة الامبراطورية القديمة التي غربت عنها الشمس منذ سنوات طويلة.