يقدم فخري صالح في "أفول المعنى" المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بحثاً في طموحات "الرواية العربية الجديدة" عبر تحليل مجموعة من النماذج الروائية التي يعتبرها - لأسباب عدة - ممثلة لتجربة الرواية العربية ما بعد المرحلة المحفوظية نسبة الى نجيب محفوظ. لكن اللافت في رؤية فخري صالح الى عالم الرواية العربية هو تنبهه المهم الى كون "الجديد" روائياً، ليس هو بالضرورة الجديد زمنياً. بكلام آخر: ليس كل ما يأتي بعد محفوظ تجاوزاً له، ومحفوظ ليس كاتباً واحداً فحسب كاتب "الحرافيش" أو "ميرامار" أو "ثرثرة فوق النيل" هل هو نفسه صاحب "الثلاثية"؟، والرواية العربية الخارجة على "النمط الكلاسيكي" موجودة، وبشكل متزامن فعلاً، مع تجربة نجيب محفوظ. ومن الأمثال التي يضربها فخري صالح على هذا التجاوز - الحاصل من قبل الانطلاقة الفعلية لجيل الستينات المصري - رواية الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال"، التي يجعلها فخري صالح المعادل العربي ل"عوليس" جيمس جويس في ما أثارته حولها - وما زالت تثيره - من جدل وأسئلة. يشترك فخري صالح، مع نقاد عرب كثيرين، في توجهه الى صوغ تصنيفات عامة تساعد على فهم الاتجاهات المتشعبة للرواية العربية. وهو يتبنى ويقترح - الى حدٍ معين - النظرة التالية لواقع روايتنا: رواية كلاسيكية أبرز من يمثلها محفوظ، ورواية أخرى مختلفة عن نموذج محفوظ، أو "النص المحفوظي"، وهي رواية تعمد - تعريفاً - الى انتهاك "جسد الكتابة الروائية الكلاسيكية" بغية نقل الرواية العربية "من أفق اليقين المستقر الهانئ الى أفق الشك حتى بعملية الكتابة نفسها" مقدمة الكتاب الموسومة "إشارة أولى". هذا "التصنيف" الفاعل مفيد جداً في تحليل ظاهرة "غاليري 68" وإنجازات "جيل الستينات والجيل الذي تلاه"، وفخري صالح يجيد استعماله، مقدماً رؤية مترابطة لأعمال يجوز وصفها بالأعمال المضادة لما هو كلاسيكي في الكتابة. إلغاء الراوي الكلّي المعرفة مثلاً، وإعلان الانتماء الى أفق "القلق واللايقين" لدى النظر الى العالم ومحاولة فهمه أو حتى وصفه. لكن السؤال - غير الغائب عن الكتاب فعلياً - هو: إلى أي حد يمكن استعمال هذا التصنيف في شكل عام؟ إذا قاربنا فؤاد التكرلي العراقي مثلاً، بحفنة أعماله القليلة، التي بدأت تظهر في أواسط الخمسينات؟ أو أعمال مواطنه مهدي عيسى الصقر؟ أو حتى مجموعة من أعمال محفوظ ذاته؟ الى أي حد مثلاً يجوز وصف تجربة ابراهيم الكوني بالتجربة غير الكلاسيكية! هل تُعبّر روايات الكوني خصوصاً "نزيف الحجر"، و"التبر"، و"السحرة"، و"عشب الليل" عن قلق فعلي لدى اقترابها من فهم العالم أو وصفه؟ أليست الحكمة "الطوارقية" الهائلة في عالم ابراهيم الكوني - على رغم غرائبيتها - نموذجاً لما هو كلاسيكي في الكتابة؟ ذلك الإحساس بأنك أمام هرم، أمام بنيان ثابت لا يتخلخل! لنتذكر أن الواقعية السحرية هي أيضاً جزء من المفهوم الرحب - الواسع - للكلاسيكي في الأدب. أليست "مائة عام من العزلة" رواية شاملة يسردها صوت كليّ المعرفة، كما في "العهد القديم" مثلاً، أو في الملاحم اليونانية؟ يُنبّه كتاب فخري صالح - بطريقة مباشرة أحياناً، وبأسلوب موارب في أحيان أخرى - الى مسائل من هذا النوع. فهذا الكتاب على رغم كونه عبارة عن مجموعة فصول مراجعات نقدية كُتبت على مر عقد ونصف من الزمن، كما يقول الناقد في المقدمة، يتمكن، خصوصاً في الفصلين الطموحين عن "موسم الهجرة الى الشمال"، وروايتي الكوني الصادرتين في مطلع التسعينات "نزيف الحجر" و"التبر"، من إثارة مجموعة من الأسئلة - في ما يخصّ نقد الرواية العربية - وبات من الضروري على هذا النقد ذاته أن يطرحها على نفسه. يقدم فخري صالح في "مطارداته" وتعقباته واستقصاءاته نموذجاً يُحتذى لناقد راغبٍ في تطوير نظرته بغية عدم السقوط في فخ "العودة الأبدية" وتكرار الدراسة ذاتها حول الرواية ذاتها الى الأبد. هذه ملاحظة قاسية يلزم توجيهها الى نقد الرواية العربية، خصوصاً حين نلاحظ أن معظم النقاد يركزون على تجارب بعينها باتت من فرط التحليل والدراسة أشبه بالأصنام أو بتماثيل المتاحف. الكوني مثلاً، على رغم حضوره في أوساط القراءة ما زال في حاجة الى مزيد من الدراسة النقدية المعمقة. وفخري صالح يقدم اقتراحات ذكية وصائبة لدى اقامته الروابط بين أعمال الكوني والتراجيديا اليونانية وأسفار "العهد القديم". انها روابط يشير اليها الكوني ذاته، في الاقتباسات التي يجعلها مداخل فصوله. لكن صالح يقدم قراءته الخاصة لمدلولات هذه الروابط، مركزاً بقعة الضوء على تعبير الكوني الرمزي عن "جوهر التجربة الانسانية، حيث يعمل المسرح الصحراوي الفقير، بندرته وعناصره القليلة، ومحدودية ما يخاض الصراع من أجله، على الكشف بصورة مدوية عن جوهر الطبائع البشرية وعن تعالق الأساطير والخرافات والموجودات الوثنية الصحراوية التي تدخل في نسيج حياة أهل الصحراء". ان استخدام عبارة "المسرح الصحراوي" لا يأتي عابراً هنا. في كتابة الكوني عنصر مسرحي لافت. ورواياته التي يجوز تقسيمها الى مشاهد متعاقبة تقدم تجربة مميزة في المزج بين قصص قديمة أليست كل القصص قديمة؟ وبين أسئلة فلسفية معينة هي في القلب من نظرة الكوني الخاصة الى عالمنا. هذه النظرة في ارتباطها بما يسميه فخري صالح "جوهر التجربة الانسانية" تشير الى هاجس أساسي آخر في الكتاب، غير الهاجس الشكلي المتعلق بكون البنية الروائية بنية كلاسيكية أو تجريبية. انه الهاجس "الانساني"، والطموح النقدي الى التقاط اللحظة الانسانية في زمن تشكلها الروائي، سواء حدث هذا في عمارة كلاسيكية محفوظية، أم في عمارة تجريبية. وهو طموح يشير - بصورة أكيدة - الى فهم ضروري لمعنى الكلاسيكية. حيث يغدو كل "تجريب" منطلقه الرؤيا والموهبة والثقافة، طريقاً الى "الكلاسيكي" في جوهره.