هُزم الاحتلال الاسرائيلي في لبنان، والاحتفال بالانتصار حق يليه في الضرورة الاستعداد لمعادلات جديدة بقواعد مختلفة للمستقبل الأمني والسياسي للبنان في الداخل وفي الجوار. ان هذا الحدث التاريخي منعطف جذري يسجله لبنان في الصراع العربي - الاسرائيلي، ويمكنه، اذا أحسن توظيفه، ان يشكل انطلاقة مميزة ومثيرة الى تعافي البلد والتأثير في مستقبل المنطقة. وهذا يتطلب تفادي التقصير أو الإفراط، وبناء علاقة واعية مع جميع اللاعبين، وتجنب التسرع الى فرز اعتباطي للعلاقة اللبنانية - السورية، وتعمد الشفافية والتنسيق مع الاممالمتحدة وتهيئة الجيش لاستعادة السيادة الحقيقية في جنوبلبنان. فالاتزان حاجة ملحة في هذا المرحلة الانتقالية لتتويج النصر بنقلة نوعية في سياسة الحكومة والأطراف المعنية اللبنانية وممارساتها. وتتيح التطورات فرصة ليؤدي لبنان دوراً رائداً في عملية السلام بهدوء وواقعية واستراتيجية تسمح بالاعتراف به لاعباً وينفض عنه صفة الملحق الخاضع للتعليمات. عقدة "جيش لبنانالجنوبي" بعد انجاز الانسحاب الاسرائيلي الكامل بموجب القرارين 425 و426، حلت نفسها بأسرع مما توقعته اسرائيل ذاتها. فانهيار "الجنوبي" أدى الى فرار الاسرائيليين. وكذلك عقدة شبعا تم احتواؤها ايضاً، اذ ان التقرير الذي قدمه الأمين العام الى مجلس الأمن أوضح التمسك بصيغة استثناء مزارع شبعا من القرار 425، ورسم "الخط العملي" للانسحاب ما بين منقطتي عمليات قوات فك الاشتباك في الجولان اندوز والقوات الدولية الموقتة في جنوبلبنان يونيفيل، وترك المجال مفتوحاً لاتفاق سوري - لبناني - اسرائيلي على ترسيم الحدود لتقرير مصير المزارع. رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك أبلغ الرئيس الفرنسي جاك شيراك استعداده للانسحاب من المزارع اذا اتفقت سورية ولبنان على ترسيم الحدود الدولية بينهما بما يضع هذه المزارع تحت السيادة اللبنانية. ورئيس الحكومة اللبنانية الدكتور سليم الحص أوضح تمسك لبنان بالمزارع ومواسلته المطالبة بها، "لكننا لن نقف حجرة عثرة في طريق انسحاب قوات الاحتلال... وسنتعاون الى أبعد الحدود مع القوات الدولية في تأمين الانسحاب الاسرائيلي الكامل من المناطق المحتلة الى الحدود المعترف بها دولياً، اي الحدود التي رسمت عام 1923 واعيد تأكيدها عام 1949 اثر اتفاق الهدنة". المقاومة اللبنانية، وعلى رأسها "حزب الله" تجنبت الانتقام والتهديدات، وأبدت استعدادها للتعاون مع السلطة اللبنانيةوالاممالمتحدة. ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، قال عن وضع المقاومة: "عندما ترى ان القرار 425 نُقذ كاملاً، تكون أدت مهمتها"، وعن سورية: "لولا سورية ودعمها لمسيرة التحرير لما وصلنا الى غايتنا المرجوة". وأكد زير الخارجية السوري فاروق الشرع ومع نظيرته الاميركية مادلين أولبرايت أهمية "تجنب التصعيد العسكري وطمأنة الاهالي في الجنوب"، وضرورة "متابعة الجهود لإحلال السلام العادل والشامل في المنطقة". وتحمل كل هذه المواقف قدراً كبيراً من المسؤولية والجدية والوعي والرزانة في مرحلة ما بعد الارتباك الذي أصاب اللاعبين في الأسابيع الماضية. وهي تشيع الاطمئنان والتفاؤل اذا استمر الحرص علىها في الخطوات التنفيذية المقبلة. وحصن مجلس الأمن مبعوث الأمين العام، تيري رود لارسن، بولاية قوية وواضحة وأيد التدابير التي وضعها في التقرير الذي قدمه الأمين العام، مشدداً على أهمية تعاون جميع الدول والأطراف المعنية تعاوناً كاملاً مع المنظمة الدولية. ومن مهمته في المنطقة، "ضمان استيفاء الشروط" لتمكين الاممالمتحدة من القيام بمهماتها "وضمان التزام جميع الأطراف المعنية التعاون التام مع الاممالمتحدة في التنفيذ الكامل للقرارين 425 وؤ426". ما يردده بعض الأوساط الاعلامية عن "فشل" الاممالمتحدة ليس صحيحاً، بل ان قاعدته اساساً خاطئة. فالمنظمة الدولية وضعت المعايير والمبادى التوجيهية والشروط العملية والتدابير الضرورية في تقرير لارسن - انان، وهي الآن في صدد ضمان التعاون الضروري معها لتنفيذها. ويدرك جميع اللاعبين تماماً ما هو المطلوب في الإطار التنفيذي، بعدما وقع على المعايير بحروف أولية. صحيح ان الاممالمتحدة تُمتحن جزئياً في هذه المرحلة الدقيقة من التطورات، لكن الامتحان الحاسم هو للدول والأطراف المعنية. فهي تنجح أو تُسقط التطبيق الدقيق للقرارين 425 و426 وما وراءهما. ولبت اسرائيل، عمداً أو اضطراراً، جزءاً ضرورياً من شروط لارسن - انان، هو زوال "جيش لبنانالجنوبي" وزوال أية "جيوب" تتركها وراءها قوات الاحتلال المتراجعة. وعليها الآن مسؤولية ضمان اتمام الانسحاب، بلا عودة، براً وبحراً وجواً. وعليها الخضوع لتفاصيل "الخط العملي" للانسحاب على الحدود الدولية كما تحدده الاممالمتحدة، بلا نقاش أو تحايل عليه. وبعثت سورية، ذات النفوذ العميق مع الحكومة اللبنانية ومع أقطاب المقاومة، مؤشرات إلى أنها ليست في وارد تعطيل تنفيذ القرارين 425 و426، وليست في وارد الوقوع في فخ لاستدراجها إلى التورط عسكرياً مع اسرائيل. وعليها الآن تعزيز هذه المؤشرات بتعابير واضحة عن سياستها حيال مصير المقاومة ما بعد انجاز الانسحاب. وعليها التعبير عن تصورها للعلاقة المستقبلية بينها وبين ولبنان في ضوء زوال الاحتلال، وفي اطار التلازم المستمر في المسارين. وفي وسعها، اذا شاءت، ان توظف انتصار "منطق المقاومة" الذي ساهمت جذرياً فيه في لبنان ليكون قاعدة ترسيخ ل "منطق التفاوض" في عهد ما بعد تحييد كل الجبهات على الحدود العربية - الاسرائيلية، باتفاقات سلام أو بالانسحاب تراجعاً أو عبر اتفاق فك الاشتباك. إن مجلس الأمن وتقرير الأمين العام والاتصالات الهاتفية بين دمشق والعواصم العالمية، تؤكد تكراراً ضرورة الافادة من فرصة اعتبار تنفيذ القرارين 425 و426 مدخلاً الى احياء العمل على تنفيذ القرارين 242 و338، اساس العملية السلمية التي انطلقت من مدريد استناداً إلى مبدأ "الأرض في مقابل السلام". وقد ترى دمشق ان الزخم الدولي مناسبة لمعاودة إطلاق المسار السوري. أما لبنان، فإنه على عتبة نقلة نوعية اذا افاد من انجازه بهدوء وواقعية بعيداً عن نمط المزايدات، ذلك ان أدوات تعافيه داخلياً واقليمياً ومعاييرها في متناوله، وأولى الخطوات واردة في تفاصيل التعاطي العملي مع الاممالمتحدة وما يحمله مبعوث الأمين العام. فمهمة رود لارسن متعددة الجوانب تنطلق أولاً من التدابير الضرورية لتمكين المنظمة الدولية من التثبت أن انسحاب القوات الاسرائيلية كامل ويطابق شروط القرارين 425 و426. وهذا يتطلب اجراءات عملية تستغرق اسبوعين على الأقل، نظراً إلى ضرورة رسم الخط العملي للانسحاب الى الحدود كي يكون في الامكان اعلان انجاز الانسحاب الى الحدود الدولية. قد تبرز مفاجآت وقد تُحل عقد وراء الكواليس، وقد يتم التوصل الى تفاهم، علماً بأن الاجراءات التطبيقية للعمل بموجب حدود 1923 ستغير أوضاعاً سائدة كأمر واقع على الأرض ذات علاقة بقرى كما بانتماءات تثير حساسيات غير تلك المتعلقة بمزارع شبعا. لقد بدأت قوات الاممالمتحدة العاملة في جنوبلبنان تدريجياً بدخول المناطق التي اخلتها القوات الاسرائيلية وقوات "جيش لبنانالجنوبي" في اطار الاستعدادات لتنفيذ الشقين الاساسيين من مهماتها: التثبت من جلاء قوات الاحتلال وملء الفراغ الأمني، ومساعدة الحكومة اللبنانية على استعادة سلطتها الكاملة في الجنوب الى الحدود الدولية. مهمات الاممالمتحدة في جنوبلبنان ليست ابداً مشابهة لمهماتها في كوسوفو أو تيمور الشرقية، فهذه قوة دولية "موقتة" غايتها "مساعدة" الحكومة اللبنانية على اعادة بسط سلطتها. وعليه، فإن الدول الفاعلة في مجلس الأمن، بما فيها الولاياتالمتحدةوفرنسا، تطالب الحكومة اللبنانية بأن تهيء الجيش ليتسلم المسؤولية وعدم الاكتفاء بقوات الدرك والأمن الداخلي للقيام بالمهمة. فالسيادة بمعناها الحقيقي، لن تُمارس في جنوبلبنان ما لم يتسلم الجيش المسؤولية، كي تتمكن الاممالمتحدة من مغادرة المنطقة بعد استكمال مهماتها. لذلك، من الضروري ألا تتلكأ الحكومة اللبنانية في إبداء استعدادها لأن توكل مهمة استعادة السيادة الى الجيش اللبناني. ومثل هذا الايضاح والتعهد تطالب به الدول المساهمة في قوات "يونيفيل" وعلى رأسها فرنسا. لكن الأممالمتحدة ستحرص على التعاطي مع هذه المسألة حصراً مع الحكومة اللبنانية وليس مع الأطراف اللبنانية التي لها وجهة نظر مختلفة في شأن دخول الجيش منطقة الجنوب. وإذا كان من ضرورة لإقناع أطراف المقاومة، خصوصاً "حزب الله" الذي تحفظ على لسان أمينه العام حسن نصرالله بقوله: "قد لا يحتاج الأمر اصلاً الى دخول الجيش اللبناني الى المنطقة"، فإن قنوات الاقناع هي أولاً الحكومة اللبنانية بدعم من الحكومة السورية وربما بمساهمة من الحكومة الايرانية. وقد لا تكون هناك ضرورة لبذل جهود كبيرة للاقناع اذ ان "حزب الله" يتصرف بقدر ملفت من الوعي والمسؤولية، وقد أعلن نصرالله ان "ما من أحد يريد ان ينصب نفسه بديلاً من الدولة". والدولة اللبنانية في أشهد الحاجة الى عقلانية اللبنانيين، أحزاباً وسياسيين، على صعيد العلاقة الأهلية، والعلاقة مع سورية، وعلى المستوى الاقليمي والدولي عموماً. فالمقاومة هزمت الاحتلال وأعادته الى ما وراء حدوده وأرغمته على تنفيذ قرار دولي رفضه لعشرين سنة. ومع التنفيذ التام للقرار 425 من حق الحكومة اللبنانية ان تغلق الجبهة اللبنانية أمام الجميع، فلسطينيين ولبنانيين وغيرهم. فللفلسطينيين اليوم ساحة لم تكن متوافرة قبل عشرين سنة، وإذا أرادوا المقاومة، فلديهم اراضي فلسطينية قاعدة. أما المقاومة اللبنانية فإن تتويج انتصارها ينتظرها عبر مساهمتها الفاعلة في الساحة السياسية كي ينتقل لبنان الى عتبة جديدة من تاريخه ويتخذ الاجراءات الاصلاحية الضرورية لاستقلاله الحقيقي. مثل هذه النقلة يتطلب التدريج وتجنب القفز المتسرع الى فرز اعتباطي للعلاقة السورية - اللبنانية. فمثلما المآخذ كثيرة على نوع العلاقة التي أقامتها دمشق مع بيروت، هناك ضرورة للاعتراف بفضل سورية في انهاء الحرب الاهلية اللبنانية كما في انتصار المقاومة على الاحتلال. ولا داعي لبدء المطالبة بانسحاب القوات السورية فوراً من لبنان، اذ ان هناك مرحلة انتقالية تتطلب بقاءها موقتاً لفترة محدودة. فالفرز الواقعي للعلاقة السورية - اللبنانية يأخذ في الحساب صوغ علاقة صحية ذات بعد وعمق استراتيجيين خصوصاً ان البلدين ملتزمان تلازم التوقيع على اتفاقات السلام مع اسرائيل. وحدث اليوم ليس سلاماً وانما إزالة احتلال. كثيرون ما زالوا يتوقعون تطورات صاخبة نتيجة الانسحاب الاحادي. وهذا ليس سوى نظريات واجتهادات. فكل الاجراءات العملية، كما المواقف السياسية بعناوينها الاساسية، تفيد أن صيف لبنان سيكون صافياً وهنيئاً، وان النافذة على المفاجآت تطل على امكان استئناف المفاوضات السلمية. نيويورك - راغدة درغا