ارتبط موضوع "الوقف" بالمنشآت العمرانية لمعظم المدن الإسلامية. في الوقت نفسه شكّل حالاً ثقافية ميزت المجتمع خصوصاً في العهدين الأيوبي والمملوكي، فكانت الأوقاف مسؤولة عن حركة التعليم من خلال المدارس التي كانت بأكملها تابعة لها، وأمنت لطلبة العلم نفقات معيشتهم وإقامتهم خلال معظم مراحل الدراسة. كذلك كانت المستشفيات تابعة للأوقاف فتقدم خدماتها مجاناً لكل من يحتاج رعاية طبية. وطبعاً ارتبطت نشاطات شرائح اجتماعية واسعة بالأوقاف من خلال سلكي التعليم والطب، أو عبر العمل في الممتلكات الخاصة بالأوقاف سواء كانت أراض زراعية أو منشآت عمرانية. ويمكننا النظر اليوم الى هذا القطاع كمؤسسات اقتصادية طويلة الأمد، شكلت بنية مستقلة مستمرة حتى الزمن الحاضر على رغم النكبات التي أصابتها خصوصاً خلال الفترة العثمانية. إلا أن إعادة النظر إليه من خلال مفهوم معاصر يعيد إليه نشاطه أمر حيوي، لأن الأوقاف الإسلامية ما زالت فاعلة في مجتمعاتنا ولو في شكل جزئي. ويحاول الدكتور منذر القحف عبر كتابه "الأوقاف الإسلامية" دراسة هذه المؤسسة من منظورين: الأول تاريخي يبحث في نشأتها وازدهارها، والثاني اقتصادي يدرس أساليب تطوير عملها وتفعيل إنتاجيتها. يرجح الباحث في الباب الأول من كتابه أن فكرة الوقف بشكلها الحالي هي إسلامية محضة، خصوصاً ما يعرف بالوقف الاستثماري أو الخدمات العامة أو الوقف الذري، فهذه الأمور ابتكرت في الإسلام منذ فترة البعثة عندما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم بساتين "مخيريق" وبئر "رومة" وقفاً إسلامياً، وظهرت في شكل أوضح عندما أشار النبي صلى الله عليه وسلم على عُمَر بجعل أرضه في خيبر وقفاً أيضاً. وعملياً فإن وقف دور العبادة عرف قبل الإسلام، وتوسع هذا المفهوم ليشمل الأراضي والبساتين التي ينفق من خيراتها على دور العبادة وأنشطة الكهان، ولكن النمو الحقيقي جاء داخل المجتمعات الإسلامية وخصوصاً ما يعرف اليوم في منطقة الشرق الأوسط. فالخليفة عُمَر بن الخطاب بعد الفتوح الكبرى في الشام ومصر والعراق لم يوزع الأراضي على الفاتحين، واعتبرها وقفاً على الأمة فتأخذ أجرة هذه الأراضي ممن هي في أيديهم وتصرف في مصالح عمومية، وعرف هذا الأمر في التاريخ الاقتصادي بالخراج، وكان لهذه الواقعة تأثير كبير في المراحل اللاحقة في توسيع مفهوم الأوقاف واستثمارها. ويعرض الباحث لأشكال إدارة الوقف في الإسلام كما يقارنها بأشكال الوقف في المجتمعات الغربية، ليصل الى تعريف محدد له فهو "حبس مؤبد وموقت، لمال للانتفاع المتكرر به أو بثمرته في وجه من أوجه البر العامة أو الخاصة"، ويأتي المفهوم الاقتصادي من هذا التعريف بأنه تحويل للأموال عن الاستهلاك، واستثمارها في أصول رأسمالية إنتاجية، تعطي المنافع والإيرادات التي تستهلك في المستقبل جماعياً أو فردياً. فالوقف عملية تنموية بحكم تعريفه، لأنه يتضمن بناء الثروة الإنتاجية من خلال عملية استثمار حاضرة، تنظر بعين الإحسان للأجيال المقبلة، وتقوم على التضحية الآنية بفرصة استهلاكية، مقابل زيادة وتعظيم الثروة الإنتاجية الاجتماعية، التي تعود خيراتها على مستقبل حياة المجتمع. يتناول الباب الثاني من الكتاب فقه الوقف في الشريعة الإسلامية والحاجة الى التجديد فيه. ففي عصر النبوة نجد نصوصاً تشير الى وقف الأرض والشجر وآلة الزراعة وأدواتها، وهناك أيضاً وقف الخدمات العامة متمثلة في مياه الشرب. وخلال القرون الثلاث الأولى للهجرة فإن فقه الأوقاف قليل على كثرة الحبوس، ويتعلق بإمهات المسائل الفقهية من دون كثير من التفاصيل، ويلاحظ الإشارة الى الوالي كمرجع في الأوقاف بدلاً من القاضي، وتفصيل الكلام عن ناظر الوقف وواجباته نادر في المراجع القديمة. ولكن هذا الأمر تبدل منذ القرن الرابع وحتى التاسع فتم التفصيل في تعريف الوقف وإدخال كل فقيه شروط إمامه في التعريف، وتوسع الفقه في شأن الناظر وواجباته وضمانه لما ينفقه في غير وجه حق، كما ظهر الرجوع الى القاضي في مسائل الوقف، لكن الحديث عن تمويل الوقف بقي معدوماً إذ أنظر إليه كمنشأة معمارية. ومنذ القرن التاسع توسع فقه الوقف في شكل كبير وهو يورد الباحث كل التفاصيل والفروع الناتجة عن هذا التطور، ما أدى الى ظهور عدد من القضايا الفقهية التي تحتاج الى تطوير وتوسيع من خلال دراسات فقهية معاصرة، فهناك مسائل التأبيد، والتوقيت، ووقف المنافع والحقوق، والتمييز بين الوقف والصدقة، وغيرها من فروع الوقف التي ارتبط بعالم اليوم عبر مؤسسات الدولة وما يتبعها من قوانين وضرائب، مما يستوجب البحث عن قوانين ناظمة له خصوصاً ما يتعلق بالضرائب، لأنها مؤسسات تنموية لا تتعلق بأفراد بل بشرائح اجتماعية. فالعوامل والتغيرات التاريخية التي أنتجت المؤسسة بمفهومها المعاصر تؤكد الحاجة الى توليد أشكال جديدة من الوقف، وفق وضعية تتناسب مع أدوات الاستثمار الحديثة وأنماطها، وتلبي حاجات إنسانية كثيرة تقتضي تحديد أهداف استثمارية بتفصيلات كثيرة ومتنوعة، ويبين الباحث عبر الشواهد سماحة الفقه الإسلامي وقدرته على تطوير ضوابط جديدة للوقف. يعالج الكتاب الخطوط العريضة لنموذج قانوني يلخص القضايا الأساسية في الفقه المعاصر للوقف، معتبراً أنه قطاع ثالث يساعد على تنمية المجتمع فيدخل في تفاصيل أغراض الوقف وأنواعه وشروط تطويره من منظور معاصر، ويعرض الكاتب وقفية جديدة تؤكد ضرورة التيسير القانوني في تعريف الوقف وشروطه، وأما موضوع تنمية الوقف وتمويله فيعالجه الباب الثالث من الكتاب، معتبراً أن وضع خطة تفصيلية لإعمار الأوقاف الموجودة في البلدان الإسلامية ينبغي أن يكون من أولويات عمليات التنمية. وأمام هذه العملية هناك مواضيع أساسية يجب أن تعالج وفي مقدمها تنمية أموال الأوقاف من أجل استمرار مساهمتها في التنمية، ولذلك يجب التمييز بين عمارة الوقف واستغلاله من جهة، وبين الزيادة في أصوله المالية من جهة أخرى، وما يتبع هذا التمييز من دراسة حقوق الموقوف عليهم والمتطلبات التطبيقية لاستحقاقاتهم. وتظهر حاجة أخرى أيضاً في وضع معايير لتحقيق أهداف الأوقاف، مثل معيار تعظيم الربح أو المنفعة المعروف كقاعدة اقتصادية، والتعديلات اللازمة على هذا المبدأ ليستطيع التعبير عن جانب الخدمة الاجتماعية. ويقارن الباحث بين الصيغ التقليدية في تمويل الوقف والأشكال الحديثة المقترحة، مثل نماذج التمويل المؤسسي وترك إدارة المشروع لناظر الوقف، أو إصدار شهادات أو سندات تمويلية من النوع الذي يتوافق مع الشريعة الإسلامية. يختم القحف كتابه بقراءة إدارة الأوقاف الإسلامية مستعرضاً الأشكال التاريخية، والنماذج الحديثة مثل إدارة الحكومة المباشرة، ويتوسع في التجارب الخاصة في إعادة هيكلة إدارة الأوقاف الإسلامية، وهي تجارب خاضتها كل من السودان والكويت وفق أسلوب تنظيمي يهدف في أحد جوانبه لاستدراج أوقاف جديد، وذلك عبر المشاريع الوقفية والصناديق الوقفية، وأخيراً يطرح الباحث نموذجاً مقترحاً لإدارة الأموال الوقفية الاستثمارية، مبنياً على تجربة إدارة المؤسسات الاستثمارية التي تعمل في ظروف الانفصال بين الملكية والإدارة.