يشير البرتو مانويل في كتابه الصادر عام 1997 وعنوانه "تاريخ للقراءة" الى ان ثمة ما يشبه الاجماع على أن كل عملية قراءة هي ضرب من اعادة انتاج النص المقروء. ولعل الترجمة من لغة الى اخرى أصفى مثال على ذلك من دون ان تكون المثال الوحيد. وقد خضع الكتاب المقدس الذي يضم كلاّ من العهد القديم والعهد الجديد لترجماتٍ شتى. فبين "ناموس العهد القديم" الذي تكرس في القرن الثاني بعد الميلاد على يدي الحاخام اكيبا بن يوسف، وترجمة جون ويكليف الانكليزية في القرن الرابع عشر، نجد الترجمة السبعينية اليونانية في القرن الثالث للميلاد وهي الأساس الذي ارتكزت عليه الترجمات اللاتينية اللاحقة، وما يسمى ب "الترجمة المقبولة" ترجمة القديس جيروم اللاتينية أواخر القرن الرابع الميلادي، والكتب المقدسة اللاحقة في العصور الوسطى: القوطي، والسلافي، والأرمني، والانكليزي القديم، والساكسوني الغربي، والانغلونورمندي، والارلندي، وفي البلاد الواطئة، وفي وسط ايطاليا، والبروفنسالي، والاسباني، والكاتالاني، والبولندي، والويلزي، والتشيخي، والهنغاري... وكل واحد من هذه الكتب كان عند قرائه هو الكتاب المقدس، مع ان كلاً منها كان يفسح في المجال امام قراءة مختلفة، مما يعني ان الكتاب الذي قيضت له عصمة عظيمة فوق جميع الكتب، كان خضع لسلسلة طويلة من التحولات بين أيدي قرائه المتعاقبين زمناً والمتباينين مكاناً. وأمام هذا التفجر في القراءات الكثيرة الممكنة، سعت السلطات والمرجعيات الى طريقة تحقق بها ضبطاً وسيطرة دائمين على النص، الى كتاب مرجع تُقرأ فيه كلمة الله "على الوجه الذي أراده لها". ولذا فإن الدكتور البيوريتاني جون رينولدز حثّ الملك جيمس الأول في الخامس عشر من كانون الثاني يناير 1604 "على وضع ترجمة جديدة للكتاب المقدس لأن تلك الترجمات التي سمح بها في عهدي هنري الثامن وإدوارد السادس هي ترجمات فاسدة لا توافق حقيقة الأصل". الا ان اسقف لندن ردّ على ذلك قائلاً: "لو اتبعنا مزاج كل واحد من الناس فلن تكون ثمة نهاية للترجمة" بيد ان الملك جيمس وافق على هذا المشروع. وأمر عميد وستمنستر وأساتذة العبرية الملكيين في كيمبردج وأوكسفورد أن يقدموا قائمة بالعلماء القادرين على النهوض بمثل هذه المهمة الضخمة. وحين قدموا إليه أول قائمة لم يُسَرّبها، لأن عدداً ممن فيها "لم يكن لهم أي منصب كنسي، أو كان لهم منصب هزيل". ومع ان اسم هيو بروتن لم يظهر في أي من القوائم التي قدمت الى الملك على رغم كونه عالماً عظيماً بالعبرانيات وسبق له ان اتم ترجمة حسنة للكتاب المقدس، أرسل بروتن الى الملك مباشرةً قائمة توصيات تخص المشروع. رأى بروتن ان الأمانة للنص ينبغي ان تلتمس من طريق معجم يحدد المفردات التي استخدمها أولئك الذين دونوا كلمة الله في الماضي، ماضي الرعاة والصحراء ويعمل في الوقت نفسه على عصرنتها. واقترح لترجمة الجوانب التقنية في النص أن يؤتى بالصناع وأصحاب الحرف ليساعدوا على ترجمة المفردات المهنية، "كالمطرزين من أجل أيغودهارون، والمختصين بالهندسة، والنجارين، والبنائين من أجل هيكل سليمان وحزقيال،...". كانت هذه هي الطريقة التي اتبعها ديدرو ودالامبير، بعد قرن ونصف قرن في تدقيق تفاصيل الموسوعة التي وضعاها وحيثياتها ورأى بروتن أيضاً ان ثمة حاجة الى كثير من العقول من أجل حلّ المشكلات التي لا تنتهي المتعلقة بالمعنى والدلالة، مع المحافظة على التماسك العام في الوقت نفسه. واقترح لتحقيق ذلك ان يدفع الملك "كثيرين الى ترجمة الجزء الواحد، فإذا ما أتوا بأسلوب انكليزي ناصع ومعنى سديد، قام آخرون بتحقيق ضربٍ من الاتساق فلا تستخدم الفاظ مختلفة في مقابل اللفظة الأصلية الواحدة" وربما كانت هذه بداية التقليد الانغلو - ساكسوني في التحرير، حيث يضطلع قارئ أعلى بتنقيح النص ومراجعته قبل نشره. ومن جهة أخرى، وضع الأسقف بانكروفت من لجنة العلماء قائمة تشكل خمس عشرة قاعدة كان على المترجمين أن يسيروا على هديها، بينها ان يتبعوا، ما وسعهم ذلك، "طبعة الأساقفة من الكتاب المقدس" التي تعود الى 1568 وهي طبعة منقحة لما يسمى "الكتاب المقدس العظيم" الذي هو بدوره تنقيح ل "طبعة متىّ من الكتاب المقدس"، وهذه الأخيرة هي حصيلة جمع بين "طبعة وليم تيندل غير الكاملة" وأول طبعة كاملة من "الكتاب المقدس الانكليزي"، التي تولاها مايلز كوفرديل. وهكذا كان المترجمون يعملون وطبعة الاساقفة أمامهم. وكانوا يعودون بين الحين والآخر الى الترجمات الانكليزية الأخرى والى عدد وافر من الكتب المقدسة المكتوبة بلغات أخرى، فيدمجون في قراءتهم تلك القراءات السابقة جميعاً. أما طبعة تيندل ، التي أدخلت عليها تحسينات عدة في طبعاتها المتلاحقة، فوفرت لهم مقداراً كبيراً من المواد التي اخذوها على انها صحيحة ومُسَلَّم بها. ووليم تيندل هذا كان عالماً وصاحب مطبعة، وسبق له أن انتقد طلاق الملك هنري الثامن لكاترين الأراغونية، ولم يوفره هذا الملك بل اتهمه بالهرطقة وشنقه ثم رفعه على المحرقة عام 1536، لأنه ترجم الكتاب المقدس عن العبرية واليونانية. وكان تيندل كتب قبل قيامه بتلك الترجمة: "لقد علمتني التجربة أن من المحال ان نثبت لعامة الناس أي حقيقة من الحقائق. ما لم نضع الكتب المقدسة أمام أعينهم واضحة جلية بلغتهم الأم، فيرون سياق النص، وترتيبه، ومعناه". ولكي يفعل تيندل ذلك ترجم الكلمات القديمة بلغة بسيطة، لكنها تنم على براعة وحرفة. وقد أدخل الى الانكليزية كلمات عدة شاعت من بعده الى اليوم. وكان أول من استخدام كلمة "يهوه" في كتاب مقدس انكليزي. أما مايلز كوفرديل فكان واصل عمل تيندل وأتمه، ونشر أول كتاب مقدس انكليزي كامل عام 1535. وهو كان عالماً من علماء كيمبردج وعضواً في أخوية أغسطينية، وثمة من يقول إنه ساعد تيندل في أجزاء من ترجمته، الأمر الذي رشحه للنهوض بأعباء طبعة انكليزية خضعت لرقابة توماس كرومويل، رئيس مجلس اللوردات والرئيس الأعلى للقضاء في انكلترا، حيث لم يأخذ عن الأصل العبري واليوناني وانما عن الترجمات الأخرى. وأطلق البعض على هذه الطبعة اسم "طبعة دبس السكر من الكتاب المقدس" لأنه يقول في سفر إرميا 8:22"أليس دبس سكرٍ في جلعاد" بلاً من "أليس بَلَسَانٌ في جلعاد". واطلق عليه آخرون اسم "طبعة البق" اذا أورد في الآية الخامسة من المزمور الواحد والتسعين: "لا تخشى من بق الليل" بدلاً من "لا تخشى من خوف الليل". بيد أن عمل مترجمي الملك جيمس لم يقتصر على نسخ القراءات الأخرى بل تعداه الى أكثر من ذلك بكثير. فقد أشار الأسقف بانكروفت الى ضرورة الحفاظ على الصيغ الشائعة للأسماء والمفردات الكنسية. فكان على المترجمين ان يحفظوا الغلبة للاستخدام الشائع لا للدقة ولو أشار الأصل الى ترجمة أكثر سداداً. وبعبارة أخرى، فقد أصرّ بانكروفت على أن القراءة القارة الراسخة تطغى على قراءة الكاتب. وأشار الى أن استعادة اسم أصلي قد تدخل ضرباً من الجدة المنفرة الغائبة عن الأصل. ولهذا السبب نفسه، منع الملاحظات والحواشي، موصياً بدلاً من ذلك أن تُضَمَّن. "باختصار وبصورة ملائمة" في النص نفسه. وعمل مترجمو الملك جيمس في مجموعات ستّ: اثنتان في وستمنستر، واثنتان في اكسفورد، واثنتان في كيمبردج. وحقق هؤلاء الرجال التسعة والأربعون، في تأويلاتهم الخاصة وتوليفاتهم المشتركة، توازناً رائعاً بين السداد واحترام الطرائق التقليدية في التعبير، والأسلوب العام والشامل، كي تمكن قراءة ما أنجزوه بصفته عملاً جديداً، بل بصفته عملاً قائماً منذ أمد بعيد. وبلغ من أمر الثمرة التي أتوا بها على هذه النحو أن رديارد كيبلنغ، بعد مضيّ قرون، وبعدما ترسخت مكانة طبعة الملك جيمس كواحدة من روائع النثر الانكليزي، تخيّل قصة يتعاون فيها كل من شكسبير وبن جونسون في ترجمة بضع آيات من سفر أشعياء ضمن مشروع كبير. ولا شك في ان في طبعة الملك جيمس من العمق الشعري ما يبلغ بها شأواً أبعد بكثير من مجرد نقل المعنى أو ترجمته. ويمكننا ان نحكم على الفارق بين قراءة سديدة، لكنها جافة، وأخرى محكمة إنما لها أصداؤها ورنينها بعقد مقارنة، على سبيل المثال، بين المزمور الثالث والعشرين في طبعة الأساقفة وما يقابله في طبعة الملك جيمس. لقد افترض بترجمة الملك جيمس من الواجهة الرسمية أن توضح المعنى وتستعيده. إلا ان كل ترجمة ناجحة مختلفة عن الأصل بالضرورة، لأنها تتعامل مع النص الأصلي بصفته شيئاً تمَّ استيعابه، وتخليصه من التباسه الهش ، وتأويله. والبراءة التي تفقد بعد القراءة الأولى تتم استعادتها في الترجمة بهيئة أخرى، حيث يقف القارئ من جديد في مواجهة نص جديد بكل ما يكتنفه من غموض. ذلك هو تناقض الترجمة الذي لا مفر منه، وذلك أيضاً هو منبع ثروتها وغناها. كانت الغاية من المشروع الضخم سياسية سواء بالنسبة الى الملك جيمس أو بالنسبة الى مترجميه كانوا يريدون كتاباً مقدساً واحداً جماعياً يمكن الشعب ان ينشده ويرتله انشاداً وترتيلاً على نحو مشترك وجماعي لأنه نص مشترك وجماعي. وزينت لهم الطباعة وهم انهم قادرون على انتاج الكتاب نفسه الى ما لا نهاية، وعمل فعل الترجمة على تعزيز ذلك الوهم، فبدا كأنه يحل طبعة واحدة، مصدق عليها رسمياً،ومقرة قومياً، ومقبولة دينياً، محل الطبعات المختلفة لهذا النص. وهكذا اضحت طبعة الملك جيمس التي نشرت عام 1611 بعد أربعة أعوام من العمل الدؤوب، هي الطبعة "الموثوقة"، و"الكتاب المقدس للجميع" في اللغة الانكليزية، وهي الطبعة التي نجدها الى جانبنا في غرف الفنادق حين نسافر الى بلد ينطق الانكليزية، في محاولة لانشاء "كومنولث" من القراء عبر نص موحد. ومما كتبه مترجمو الملك جيمس في تصديرهم الكتاب ان "الترجمة هي ان نشرع النافذة لكي نتيح للنور ان يدخل، وأن نكسر القوقعة كيما نأكل اللبّ، وأن نزيح الستارة فنرى الى المكان المقدس، وأن نرفع الغطاء عن البئر حتى نجد الماء". وما عناه ذلك هو أنهم ما كانوا ليخشوا "من نور الكتاب المقدس"، وأن يتعهدوا للقارئ توفير فرصة للاستنارة. وعنى أيضاً تحرير النص من قيود المكان والزمان، لا الشروع في حفريات أثرية في محاولة لإعادة النص الى حال اصلية وهمية: وعنى ان يتاح لأعماق الدلالة ان تبرز وتظهر، لا تبسيط هذه الدلالة في شروح وتفاسير ضحلة وهزيلة. وعنى بناء نص جديد ومكافئ، لا شرح النص على الطريقة المدرسية. * كاتب ومترجم من سورية.