بعد أقل من سنة على إدانة سلفه وجد رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف نفسه يواجه حكماً بالسجن مدى الحياة اصدرته بحقه محكمة خاصة بمكافحة الارهاب بعد ادانته بتهمة الخطف والارهاب. حظيت محاكمة نواز في باكستان باهتمام عالمي، اخذاً في الاعتبار ان التهمة التي وجّهت اليه تحمل عقوبة الاعدام. وتصدّر الرئيس الاميركي بيل كلينتون اصوات متنافرة تدعو الى الرأفة. وكان زعيم البلاد الجنرال مشرف اعلن انه رجل يكره الانتقام، الاّ ان رئيس المحكمة جنّبه اختبار صدق هذا الوعد برفع عقوبة الاعدام عن الطاولة. لكن القاضي لم يتمكن من اخراج باكستان من الدوامة التي تعيشها. فخلال اربعة عقود دانت المحاكم اربعة رؤساء وزراء، وهو سجل لا يباريها فيه أي بلد اخر. والمحاكمات يحرّكها حكام غير واثقين يسعون الى تعزيز سلطتهم باقصاء منافسيهم من المسرح السياسي. وكانت كل عملية إقصاء تفتح "صندوق باندورا" جديداً يضيف مزيداً من التعقيد الى الافاق الكالحة لوضع البلاد. تمت اول عملية إقصاء قضائية في الخمسينات. فقد حوكم السهروردي رئىس الوزراء البنغالي بتهمة الفساد. ولم يجده نفعاً الاصرار على براءته من التهمة التي وجّهت اليه باستخدام موقعه للتأثير في منح عقد تجاري. وساهم قرار تنحيته من منصبه في تعميق مشاعر المرارة في الجزء الشرقي من البلاد. وكان ذلك عاملاً مهماً في مفاقمة السخط وسط الشعب البنغالي الذي افضى الى تفكك البلاد في 1971. وفي الستينات، نجا من الادانة رئىس وزراء منتخب هو الشيخ مجيب الرحمن. إذ اُتهم بالخيانة في اعقاب فوزه في الانتخابات في 1970 وسُجن. لكن البلاد تفككت قبل أن يُدان. ومع ذلك، خطط حاكم البلاد الجنرال يحيى لقتله والحؤول دون تزعمه لشعبه. وقبل ان يتمكن من القيام بذلك، اُرغم يحيى على التنحي عن السلطة اثر تمرد داخل الجيش ذاته. واقدم خليفته رئىس الوزراء ذو الفقار علي بوتو، الذي عرف برأفته، على اطلاق الشيخ مجيب. فباعتباره زعيماً شعبياً يحظى بتفويض شرعي لم يكن بحاجة الى قضايا خارجية يستخدمها لصرف انتباه شعبه. كان يؤمن بأن الرأفة تداوي الجروح وتبني الجسور. وهو ما حققته فعلاً. فعلى رغم الابادة التي اُقترفت بحق البنغاليين تصالحوا مع اشقائهم في الجزء الغربي بعد ذلك بثلاث سنوات في لاهور في 1974. لكن رئىس الوزراء ذو الفقار علي بوتو، الذي كان من المحبين للخير العام، سقط ضحية افتقار خليفته الجنرال ضياء الى الاحساس بالأمان. فعندما استولى الجنرال ضياء على السلطة في انقلاب في تموز يوليو 1977، اتهم بوتو بارتكاب جريمة قتل تحمل عقوبة الاعدام. كان ضياء يخشى ان يعود بوتو الذي يتمتع بشعبية الى السلطة، وان يحاكم هو بالذات بتهمة الخيانة. ووفقاً للدستور الباكستاني يعاقب على الخيانة بالاعدام. وكان مولعاً بمقولة "رجلان، قبر واحد"، ملمحاً الى ان احدهما يجب ان يموت كي يحيا الآخر. وفي مذبحة للعدالة وسط استنكار عالمي، رتّب ضياء إدانة بوتو بقتل رجل لا يزال حياً بعد 21 عاماً على اغتيال بوتو. وتقدم ذو الفقار علي بوتو الى المشنقة متحدياً الموت ومعتنقاً الشهادة. أدى اغتيال بوتو على ايدي القضاء الى حدوث استقطاب في المجتمع الباكستاني. ودمّرت المؤسسات المدنية والعسكرية في محاولة للقضاء على مؤيدي بوتو. ولأن بوتو كان ليبرالياً وديموقراطياً، تم اقصاء العناصر الليبرالية والديموقراطية بشكل منظم من جهاز الدولة. ظل شبح بوتو يطارد ضياء حتى رمقه الاخير. وأدت تلك الادانة الوحشية والدامية الى حشر ضياء في زاوية. ودفعت باكستان الثمن من جراء مساعي ضياء المحمومة للتملص من الجريمة التي ارتكبها. ففي الوقت الذي تطورت الهند، عانت باكستان انهيار مؤسساتها. واصبحت مافيات تجارة المخدرات والميليشيات الاتنية والجماعات الطائفية ومهربو الاسلحة يفرضون سيطرتهم فيما تراجعت المؤسسات الادارية الضعيفة امام نفوذهم. تقتص الطبيعة بطريقتها الخاصة. هكذا، مات ضياء في حريق هائل شب اثر عطل في طائرة "سي -130" كانت تقله. ومهد موته الطريق لانتخابات شهدت عودة حزب الشعب الباكستاني الى السلطة بتأييد شعبي كبير. أدار حزب الشعب ظهره لسياسات الثأر والانتقام مستمداً الثقة من شعبيته الهائلة، وركز اهتمامه على الحكم. وبولوج عالم الاتصالات الحديثة وازالة القيود المفروضة على الاقتصاد عبر اعتماد الخصخصة للمرة الاولى في جنوب آسيا، اعطى باكستان موقعاً متقدماً في عالم الاسواق الحرة الناشئة الجديد. لكن الشعبية التي حظي بها حزب الشعب وسط الجماهير لم تجد ما يماثلها وسط النخب التي كانت تتمتع بالنفوذ في عهد الحكم الديكتاتوري. ونجحت هذه النخب مرتين، عبر دسائس القصر، في اطاحة حكومة تتمتع بدعم البرلمان والشعب. وتمكنت من القيام بذلك عبر مرسوم رئاسي. لم يكن بمقدور النخب، التي تكاد تخلو من اي اثر للعناصر الليبرالية والديموقراطية، ان تستجيب لارادة الشعب. ونجحت عبر استخدام سيف الفضائح غير المثبتة في اطاحة الحكومات التي تزعمها حزب الشعب بقرار رئاسي. وساهم التصديق القضائي على هذه الخطوات، لمنح الشرعية لاجراء غير شرعي، في تسييس واضعاف الجهاز القضائي ذاته. وعلى رغم ان احد كبار القضاة كوفىء بتعيينه رئيساً للبلاد مقابل اضفاء الشرعية على اطاحة حكومة حزب الشعب، فإن ثلاثة قضاة كبار آخرين عزلوا في فترات قصيرة. يمثل القضاء في مجتمع ديموقراطي حجر الزاوية في دولة القانون والعدالة. وهو يلعب باعتباره فرعاً مستقلاً في الحكم دوراً حاسماً في توازن السلطة في المجتمع المدني. لكن هذا التوازن فُقد في باكستان عندما حل القضاء مكان البرلمان باعتباره المؤسسة المخولة تغيير الحكومة. وكانت النتيجة تعاظم الانهيار والفراغ. وفي كل مرة اُطيحت بقرار رئاسي الحكومة الديموقراطية المنتخبة، كانت تعقب ذلك مهزلة انتخابية، اذ تزوّر اوراق الاقتراع لتحقيق النتائج المطلوبة والمحددة سلفاً. وفي تصريح شهير اعلن احد الرؤساء بالفعل عشية الانتخابات المزورة: "لقد غسلت بدن الميت وما عليكم الاّ ان تدفنوه". وكان يقصد بذلك ان النخب ضمنت نتائج الانتخابات ولم تبق سوى الاجراءات الشكلية للعملية. وفي كل مرة، كان المستفيد من تدخل النخب هو الرجل الذي صدر بحقه اخيراً الحكم بالسجن مدى الحياة: نواز شريف. كان نواز شريف، الذي يفتقر الى تفويض شعبي ويخوض نزاعاً مع زعيم يحظى بشعبية، يلجأ الى اجراءات يائسة للبقاء في السلطة. وجرت اساءة استخدام كل الموارد المالية والقسرية والقضائية والتشريعية والاعلامية للدولة في محاولة عقيمة لتحطيم المعارضة البرلمانية. وكان كل عمل يائس يفضح الضعف السياسي للنظام. واُهمل الحكم فيما انشغل النظام بمطاردة المعارضة. وبلغت البطالة والتضخم معدلات عالية. وافلست البلاد، ما ارغم المانحين على إعادة جدولة الديون. وتدهورت الاوضاع لدرجة ان احد قادة الجيش دعا رئيس الوزراء علناً الى التخلي عن سياساته القائمة على جنون الارتياب ونزعة الثأر، فعُزل من منصبه. وزرعت هذه الخطوة بذور النزاع بين الجيش ونواز. كان باستطاعة النخب النافذة التي تهيمن على مفاتيح الحكم في البلاد ان تمنح نواز شريف السلطة، لكن لسوء حظه أدى الفشل في تحقيق الاستقرار الى نخر تأييدها له. ولم يدرك أي من الطرفين النتائج الاقتصادية لاهمال شؤون الحكم والتركيز على محو المعارضة. لم يدرك أي من الطرفين ان مستلزمات شن حملة جائرة كانت تنطوي على آثار جانبية خطيرة: التلاعب بالقضاء والبرلمان والصحافة والمصرفيين ورجال الاعمال والمستثمرين الاجانب. وترتّبت على مثل هذا التلاعب تداعيات اسقطت الستار الديموقراطي الزائف الذي كان مسلسل الاحداث يحاك وراءه. وكرست عملية كارغيل العسكرية، التي ادت الى نشوب قتال عنيف على الحدود بين الهندوباكستان العام الماضي، القطيعة النهائية بين نواز والنخب التي اوصلته الى السلطة. فبالقاء المسؤولية عن حادثة كارغيل على قائد الجيش وعزله من منصبه شتت نواز معسكر مؤيديه. وربما كان نواز سيفلت لو ان البلاد لم تسقط في حمأة فوضى سياسية ومالية. لكن الاستياء الشعبي اعطى العسكريين الدعم اللازم لاطاحة نظام شريف. كان نواز نجح قبل ذلك بسنة في عزل احد القادة العسكريين، الاّ ان الجو كان مختلفاً آنذاك. فقد أثنت عليه النخب اثر التفجيرات النووية التي اُجريت في ربيع 1998. وجاءت عملية العزل الثانية وسط مشاعر المرارة الناجمة عن هزيمة كارغيل في 1999. وافسد الجو احساس بالمهانة ولّده انسحاب احادي الجانب من مرتفعات كارغيل، اُعلن من واشنطن، معطياً الانطباع بالرضوخ لاملاءاتها. وانقسمت النخب في اظهار الدعم له. وسقط نواز عندما سحبت تأييدها. ويفتقر الحكام الجدد الى الامان بدرجة لا تقل عما كانت عليه الحال في عهد نواز. وفي الوقت الذي أيد الشعب عزل نواز، لم يحظ الحكم العسكري ذاته بتأييد شعبي. وتتزايد المخاطر التي يواجهها النظام من داخل بنية الدولة ذاتها. ولا يزال نواز شريف، على رغم وجوده وراء القضبان، يتمتع بنفوذ سياسي داخل الطبقة الحاكمة. فباعتباره الوريث السياسي للجنرال الراحل ضياء كان الشخص المفضل لدى هذه الطبقة. وتمثل اطاحته أول صدع في القاعدة غير الليبرالية التي بناها الجنرال ضياء خلال فترة حكمه الطويلة. فقد يكون نواز الآن في السجن، لكن باكستان لا تزال تدار وفقاً لسياسات النخب القصيرة النظر. وقد حوّلت هذه النخب تأييدها الى مشرف، الاّ انه سيواجه مشاكل ما لم يتم وقف الانحدار الى الفوضى الاقتصادية. إذاً، فالغموض يلازم الحكام الجدد. أنهم بحاجة الى مهاجمة البديل الديموقراطي لارضاء النخب المحافظة. وهم بحاجة الى التخلص من نواز ليحكموا قبضتهم داخل الطبقة الحاكمة. وملاحقتهم لنواز والقوى الشعبية تغذيها حماسة لا تقل عن تلك التي وسمت ملاحقة نواز لاسلافه. لكنها تواجه مشاكل اكبر لأنهم يتحدون الاحزاب السياسية ويترددون في اختيار واحد من مسلكين. واذ استمرر هذا السيناريو، فانهم يحفرون الحفرة ذاتها مثل نواز: السماح للبلاد بمواصلة انحدارها الى الركود الاقتصادي والفوضى الاجتماعية بالتركيز على نزعة الثأر. ان اتباع سياسة ثأرية والتعطش الى ازالة الخصوم عبر انتهاك العملية القضائية يعقّد الازمة في باكستان. وتترتب على ذلك ثلاث نتائج سياسية. اولاً، انها تحشر الحكام في زاوية. فالخوف من العقاب يحول دون تطوير استراتيجية للخروج من الحكم تسمح باعادة البلاد الى الحالة الطبيعية. ثانياً، انها تزيد ضعف المؤسسات المدنية اذ يستحوذ الجيش على الوظائف الادارية. ثالثاً، انها تؤدي الى اساءة الحكم واحتمال ان تبرز مخاطر جديدة من جراء تزايد التذمر وسط الشعب. فقد يسعى الحكام الى تحركات خارجية لصرف الانظار عن المشاكل الداخلية، ما سيهدد بتفجير نزاع مسلح آخر بين الهندوباكستان. رابعاً، من شأن ملاحقة احد ابناء الطبقة الحاكمة ان تؤدي الى توترات داخل الطبقة ذاتها، ولا يستبعد ان تثير تمرداً في صفوفها. ويمنح الحكم العرفي الرابع في باكستان الجنرال مشرف فرصة للتعاون مع القوى السياسية لانجاز انتقال منظم الى المجتمع المدني. فاذا تخلى عن الاضطهاد وتبنى نهج المصالحة يمكن ان يمهد الطريق لانسحاب العسكريين. والتجارب السابقة على هذا الصعيد غير مشجعة. فأيوب خان، الذي كان اول ديكتاتور يفرض الاحكام العرفية، انسحب بتسليم السلطة الى احد مرؤوسيه الجنرال يحيى خان وسط تظاهرات في الشوارع تطالب بشنقه. واُرغم ديكتاتور الحكم العرفي الثاني على التخلي عن السلطة بعدما الحق المهانة بالبلاد باتباعه سياسة مشينة في داكا قادت الى الاستسلام امام الهند. وتشبث الديكتاتور الثالث بالسلطة حتى التهمته النيران عندما تحطمت طائرته العسكرية. * زعيمة حزب الشعب الباكستاني، رئيسة الوزراء السابقة