في حياة رئيسة وزراء الباكستان السابقة بي نظير بوتو صفحات طويلة مليئة بالtواجع والمآسي والانتكاسات والتحديات التي استطاعت تجاوزها بشجاعة وعناد نادرين. لكنها اليوم وبعدما اصدرت احدى محاكم لاهور العليا في السادس عشر من نيسان ابريل الماضي احكاماً ضدها تحت يافطة الفساد والاثراء غير المشروع وسوء استغلال السلطة، تتضمن السجن لمدة خمسة اعوام ومصادرة الأملاك وغرامة مالية تزيد عن خمسة ملايين جنيه اضافة الى التجريد من الحقوق السياسية والحرمان من الاشتغال في الحقل العام، فانها تبدو كمن يقف في مواجهة ورطة قاتلة هي في حقيقة الأمر من صنع يديها بما وفرته من اسباب وأدلة يوم ان استسلمت لمغريات السلطة وجشع زوج فاسد ورمت خلف ظهرها بكل ما تعلمته في الغرب وما ورثته عن والدها من مبادئ وقيم. الا ان السيدة العنيدة الماضية نحو عامها الخامس والأربعين، سليلة عائلة ذو الفقار علي بوتو الذي يحفظ له الباكستانيون جميل انقاذ ما تبقى من دولتهم في اشد فترات يأسها وهزيمتها وتفككها، وخريجة اكسفورد التي كانت يوماً ما أمل الباكستانيين في اقامة دولة المؤسسات الديموقراطية الحقيقية من بعد طول معاناة من حكم العسكر وديكتاتوريتهم تحاول كما اعتادت المقاومة ودفع التهم عن نفسها وكأنها تريد التأكيد مجدداً على انها بالفعل سيدة لا نظير لها كما يوحي اسمها الأول. هنا مراجعة عبدالله المدني: لئن نجحت بوتو في المرات السابقة فان نجاحها هذه المرة اكثر صعوبة ومرهون بجملة من الأمور لا تتوقف عند الاستغلال المتقن لبعض الثغرات التي تحيط بقضيتها والتأسيس عليها لكسب الشارع الى جانبها فحسب، وانما ايضاً تغيير الخطاب والاعتراف بالخطأ بدلاً عن المكابرة ونفي التهم جملة وتفصيلاً. وبعبارة اخرى فان نجاحها في تجاوز الورطة الراهنة يغدو مشكوكاً فيه لو اكتفت فقط بترديد عبارات مثل "انا بريئة ومظلومة يا ناس" او بسكب الدموع الساخنة على مرأى من رجال الاعلام او بتوجيه السباب والشتائم الى خصومها على نحو ما فعلته مؤخراً بعصبية أدت الى انفلات خاتم الزواج من أصبعها، او بتذكير الناس بزهدها في السلطة ومحاولتها مرتين على الأقل اعتزال العمل السياسي ثم تراجعها استجابة لاصرار الجماهير على بقائها، او باطلاق تصريحات مضحكة مثل ان جزءاً من محنتها الراهنة يعود الى تآمر حركة طالبان واسامة بن لادن ضدها، ناسية ان هذه الحركة البائسة لم تولد ولم تترعرع الا في ظل حكومتها يوم كانت في السلطة. ذلك ان أدلة الادانة الموجودة اليوم بحوزة خصومها كثيرة ومتنوعة وتم التقصي عنها جمعها بعناية ومثابرة من قبل ما يسمى بجهاز "الاحتساب". على ان هذا من ناحية اخرى لا ينفي وجود مبدأ الملاحقة الكيدية والمبالغة في توجيه الاتهامات والتعسف في اجراء المحاكمة. فلو ان ما قام به جهاز الاحتساب من نشاط حدث في ظل رئيس حكومة لا يضمر عداء شرساً مسبقاً نحو بوتو وغير غارق هو نفسه في وحول الفساد، ولو ان المحكمة التي اصدرت احكامها مكونة من قضاة محايدين لا يُعرف عنهم العداء لأسرة بوتو وغير مرتبطين بالحزب الحاكم، لكانت هناك مصداقية أقوى لما صدر من اتهامات وأحكام. فالمعروف للقاصي والداني ان نواز شريف حرص بمجرد عودته الاخيرة الى السلطة في اعقاب انتخابات 1997 البرلمانية، على ان يضع يديه بقوة على جميع مفاصل الدولة الباكستانية ومؤسساتها وان يخضعها بالكامل لشخصه ومصالحه الحزبية والسياسية. ونجح في ذلك خلال فترة زمنية قياسية استطاع اثناءها ان يطيح برئيس الجمهورية السابق فاروق ليغاري ويفرض مكانه شخصية موالية وطيعة هو الرئيس الحالي رفيق طرار المعروف في الشارع الباكستاني ب"السيد نعم او MR YES"، وأن يعدل المادة 48 فقرة 2ب من الدستور حتى لا يكون بامكان رئيس الجمهورية اطاحة رئيس الحكومة على نحو ما فعله ليغاري مع بوتو سابقاً، وان يتخلص من قائد الجيش النزيه الجنرال جهانغيركرامت قبل حلول موعد تقاعده لما بدا الاخير مؤيداً لدور اكبر للمؤسسة العسكرية في الاشراف على تسيير دفة الأمور، وان يزرع في المؤسسة القضائية قضاة موالين بدلاً من المحايدين والمشكوك في ولائهم المطلق. وهكذا اخضع شريف المؤسسات الثلاث الجيش والقضاء والرئاسة التي كانت مسؤولة في ما بين 1990 - 1996 عن اسقاط ثلاث حكومات منتخبة ليتفرغ لمطاردة خصومه السياسيين بما تحت يديه من سلطان لم يتوفر لأي من اسلافه السابقين، بادئاً بطبيعة الحال بالسيدة بوتو باعتبارها الخصم السياسي الأهم على الساحة والزعيمة القادرة على استثمار إرث والدها السياسي ونفوذ عائلتها الاقطاعي في تهييج الشارع. وقد ساعده في تحقيق هذا المطمح تشرذم قوى المعارضة ووجود قوى معبأة سلفاً ضد بوتو مثل العسكر الذين ساءهم احتقار بوتو لهم، وتيارات الاسلام الأصولي الرافضة اصلاً لوجود سيدة في المعترك السياسي، فما بالك لو كانت هذه متهمة بالليبرالية الغربية والتشرب من منابع الغرب. كما ساعده اقدامه في وقت مبكر على شراء تأييد ومساندة الجماهير الباكستانية المطحونة عبر اطلاق بعض المشاريع الهادفة الى تحسين ظروفهم والقضاء على بطالتهم مثل مشاريع "التاكسي الأصفر" وتوزيع الأراضي وتسهيل الحصول على قروض شخصية صغيرة، ناهيك عن اللجوء الى اقتراحات مثيرة للجدل وان كانت تدغدغ عواطف البسطاء والأميين مثل تطبيق الشريعة واقامة الحدود لاجتثاث آفة العنف والجريمة. ومن هنا فان جهاز "الاحتساب" الذي اطلقه شريف بالتزامن مع اطلاق اجهزة اخرى مثل جهازي "الخدمة" خدمت و"الصلاة" ضمن ما سمّي بعملية الاصلاح، لم يكن في حقيقة الأمر سوى جهاز مفصل على قياس بوتو وحدها، هدفه ملاحقة ثروتها في الداخل والخارج وصولاً الى جمع اكبر قدر من الأدلة لاستخدامها في محاكمة تفضي الى تخليص الساحة السياسية منها الى الأبد. وبالفعل قام الجهاز بعمله بحماس شديد وأخذ موظفوه الموالون اصلاً لشريف او الحاقدون أساساً على بوتو يجوبون العالم لجمع الأدلة. وكان اول الأبواب التي طرقوها هو الباب الاميركي حيث يقال ان لبوتو في فلوريدا وتكساس مجموعة من المزارع والمنازل والفنادق اشتريت جميعها بأموال مختلسة من الخزينة الباكستانية العامة. ثم حلوا بعد ذلك في بريطانيا للحصول على تفاصيل ما تملكه بوتو فيها من منازل وشقق وأراضٍ وحسابات مصرفية، بل للحصول ايضا على أدلة من السلطات البريطانية تدين زوج بوتو السيناتور المعتقل آصف زرداري بجرائم تهريب الهيرووين وتبييض الأموال والاتجار بأثريات ونفائس مهربة من كابول الى العرب عبر كراتشي. اما في سويسرا فقد قدموا أدلة لم تجد السلطات السويسرية معها بداً من فتح تحقيق حول حسابات بوتو وزوجها المصرفية افضى في النهاية الى تجميد ما في هذه الحسابات من اموال وصلت الى تسعة ملايين دولار، وفوق ذلك وافق السويسريون المعروفون بالحذر والحرص على سرية اعمال مصارفهم على فتح خزائن وديعة باسم بوتو للتحقق من احتوائها على مجوهرات من الألماس والياقوت والزمرد تصل قيمتها الاجمالية الى عدة ملايين من الدولارات. ولم ينس محققو جهاز الاحتساب وهم في طريق عودتهم ان يعرجوا على بولندا! نعم بولندا لغرض جمع الأدلة حول صفقة الجرارات الزراعية التي عقدتها بوتو اثناء وجودها في السطة مع حكومة وارسو والتي يقال ان زوجها كان من اكبر المستفيدين منها لجهة العمولات. وهكذا فحينما عاد موظفو الجهاز الى باكستان كانت في حوزتهم أدلة كثيرة تدين بوتو، تم تقديمها الى محاكم لاهور التي تأكدت فقط من صحة الوثائق لتصدر الاحكام دونما اتباع الاجراءات المعروفة في مثل هذه الاحوال من مرافعة وشهود. الى ذلك فان هناك ثغرتين اخريين تستطيع بوتو ان تتحجج بهما، اولاهما ان القاضي الذي اصدر الاحكام عبدالقيوم هو خصم بدليل انه ابن القاضي الذي اصدر احكام الاعدام بحق والدها، ناهيك عن انه في الوقت نفسه شقيق لأحد كبار رموز الحزب الحاكم حزب الرابطة الاسلامية". اما الأمر الآخر فهو ان المحكمة التي اوكل اليها اصدار الاحكام تقع في لاهور وليس كما تقتضي الاعراف في السند حيث عنوان سكن المتهم الاصلي. هذا فضلاً عن مخالفة جسيمة اخرى تمثلت في لجوء الحكومة الى استخدام المال العام للتشهير بخصومها عبر نشر نص الاحكام في اعلانات صحفية مدفوعة الثمن. والثغرة الاخرى ان كل ما اتهمت به بوتو يمكن توجيهه في الوقت نفسه الى خصومها وعلى رأسهم نواز شريف وعائلته وكل الجماعات السياسية والعسكرية التي ارتبطت بصورة او باخرى بالرئيس الأسبق الجنرال ضياء الحق. بمعنى انه اذا كان لا بد من المحاسبة فليحاسب الجميع. فالمجتمع السياسي الباكستاني ضالع في الفساد الى اخمص قدميه ولا يذكر تاريخ هذه البلاد زعيماً حكمها وكان نزيهاً بالمطلق. وهذا الأمر يعرفه الباكستانيون جيداً حتى قيل انهم تذمروا يوم نشرت تقارير دولية حول الفساد في العالم ولم تحتل بلادهم الموقع الأول على رأس القائمة وانما جاءت في المرتبة الثانية بعد نيجيريا.