باكستان، من جديد، في أزمة. التجارب النووية لم تنقذها، وتحويل بنازير بوتو، مع انها غير بريئة طبعاً، كبشَ محرقة دائماً، لم يحول نواز شريف مخلّصاً من طراز رفيع. فالصحف البريطانية تتسابق على توجيه اتهامات له بالفساد وغسل الأموال والتحايل على المصارف و... الوضع الاقتصادي بالغ التردي، فيما "الجماعة الاسلامية" وأطراف معارضة أخرى باشرت النزول الى الشارع ضد حليف الأمس، ويعلم تاريخ باكستان ان نزول "الجماعة" الى الشارع نذير شؤم دائم. يأتي هذا كله في موازاة تطور آخر أخطر: تدهور علاقات نواز شريف بالمؤسسة العسكرية بعد ارغام قائدها السابق، الجنرال جهانكير كراسمت، على التقاعد لأنه طالب بدور اكبر للجيش في صنع القرار. اذن، التحالف السياسي والعقائدي والمصلحي الذي قام بين ورثة الجنرال محمد ضياء الحق يتفكك، في حين ان نواز يكشف عن وجهه الذي لا يفضل وجه بنازير... الجميل. أبعد من هذا ان باكستان تبدو كأنها محكومة بكارثة مقدّرة عليها بسبب تلك المسرحية المستمرة التي يلعبها طرفان تتغير أسماؤهما ولا تتغير اللعبة: الديكتاتور والجيش. في 1947 نشأت الدولة بقيادة مؤسسها محمد علي جناح. في 1958 قام الرئيس اسكندر ميرزا بانقلاب عسكري عطّل الدستور الذي كان أُقر في 1956 وفرض الحكم العرفي. ميرزا عين الجنرال محمد ايوب خان حاكماً عرفياً لكن الأخير أطاحه بعد عشرين يوماً فقط. في آذار مارس 1969 نشأ الحكم العرفي الثاني: ايوب خان عطّل دستوره واضطر الى تسليم الحكم لقائد جيشه الجنرال آغا محمد يحيى خان. حرب 1971 مع الهند التي بدأت ببنغلادش وانتهت بولادة دولتها، أضعفت الحكم العسكري، فتسلم السلطة زعيم "حزب الشعب" ذو الفقار علي بوتو الذي كان حزبه فاز في انتخابات 1970. بوتو المدني فرض استبداداً بزّ فيه العسكريين. عطّل الحياة السياسية في ظل واجهة دستورية وقتل عدداً من معارضيه. في تموز يوليو 1977 أطاحه رئيس أركانه الجنرال ضياء الحق الذي ما لبث بعد ثلاثة اشهر ان اعلن الحكم العرفي. في آب أغسطس 1988 قضى ضياء الحق في حادث طيران جوي غامض، فعادت الى البلاد ديموقراطية هشّة يتحكم فيها العسكر: تعاندهم بنازير الفاسدة ويسايرهم نواز الذي يُرجّح فساده. الآن غدا الاثنان اللذان استقطبا الحياة السياسية في حقبة ما بعد ضياء الحق، ضعيفي الحظ في القيادة السياسية. قصارى القول ان باكستان التي بنت جيشاً لم تبن دولة، ولا بنت طبقة سياسية، وبالطبع لم تكافح الفقر والجوع والأميّة. وهكذا دواليك عودٌ دائم على بدء، بما يجيز السؤال حول قدرة هذا المشروع، الذي ولد في 1947، على الحياة! انه سؤال يطاول المعنى. ولئن لم تحل احتفالات العام الماضي باليوبيل الذهبي دون طرحه، فإنه الآن يكتسب حرارة أكبر وإلحاحاً أمضى