امين المهدي. ازمة الديموقراطية والسلام. الدار العربية للنشر، القاهرة. 1999. 272 صفحة. منذ خرج علينا الكاتب الكبير محمد سيد احمد بكتابه "عندما تسكت المدافع" قبل ربع قرن، لم اصادف كتاباً عربيا حول الصراع العربي الاسرائيلي بمثل جرأة كتاب امين المهدي. وبينما أحدث كتاب سيد احمد دوياً هائلا في حينه، لجرأة طرحه السلامَ كبديل للحرب بين العرب واسرائيل للمرة الاولى، وفي اعقاب ما اعتبره العرب نصراً في حرب تشرين الاول اكتوبر 1973، فان هناك ما يشبه الصمت المطلق عن كتاب امين المهدي. صحيح ان عنصر الجدة كان متوافرا في كتاب سيد احمد. وصحيح ان الكتاب بات اكثر شهرة لصفات صاحبه الحزبية والصحافية والتقدمية المرموقة، ولكن الطروحات والمقولات التي يقدمها امين المهديلا تقل اصالة ولا خروجاً عن المألوف. يمكن تلخيص المقولة الرئيسية لكتاب المهدي بأن غياب الديموقراطية في العالم العربي، وبخاصة في مصر والبلدان المجاورة لاسرائيل، هو السبب الاساسي في سوء الادارة العربية للصراع، وهو بالتالي سبب الهزائم العربية المتتالية. وان المستفيد الاول من استمرار الصراع هو الديكتاتوريات العربية من جانب والعسكرية الاسرائيلية من جانب آخر. يبدأ الكاتب بتعداد المحطات الرئيسية التي مر بها الصراع الاسرائيلي على امتداد قرن كامل: منذ المؤتمر الصهيوني الاول في بازل عام 1897، الى وعد بلفور عام 1917 فقرار الاممالمتحدة بتقسيم فلسطين عام 1947، الى هزيمة العرب الكبرى عام 1967، الى قرار الرئيس السادات بزيارة القدس عام 1977. وباستثناء حرب 1973، وهي احدى المحطات المهمة، فان نتائج كل المحطات السابقة لها كانت خسائر عربية صافية. وحتى حرب تشرين فانها كانت "نصراً عربيا" بالمعنى النفسي والاستراتيجي، ولكن ليس بالمعنى العسكري البحت، حيث تساوت الكفتان للمرة الاولى في تاريخ المواجهات العسكرية المسلحة منذ 1948. وللأمانة يوثّق المهدي توثيقاً دقيقا محاولات السلام من الجانبين العربي واليهودي، وكيف باءت بالفشل قبل مبادرة الرئيس السادات. وهو يعزو هذا الفشل الى أصحاب المصلحة في استمرار الصراع على الجانبين، لكنه يوضح بجلاء ان الذي كان ولايزال يدفع فواتير الصراع المسلح في النهاية هو المواطن العربي العادي. وهو يورد جدولاً مقارنا بين مصر واسرائيل نقلا عن تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الاممالمتحدة الانمائي لعام 1997، حيث النتيجة ليست فقط لمصلحة اسرائيل في كل مؤشر من مؤشرات التنمية، ولكن مع بون شاسع بينهما. فعلى سبيل المثال، بينما نسبة الامية في اسرائيل صفر، نجدها في مصر 49 في المئة، هذا في وقت يمثل اليهود الشرقيون اكثر من نصف السكان، أي انهم جاؤوا من مجتمعات نامية او متخلفة مثلها في ذلك مثل مصر. اما الحجة العربية التقليدية بأن المساعدات الاجنبية لاسرائيل هي سبب ثرائها وتقدمها، فقد دحضتها ارقام اخرى، منها ان نسبة هذه المساعدات لا تتجاوز 6،1 في المئة من اجمالي الناتج المحلي هناك، بينما تصل في مصر الى 4،6 في المئة، أي اربعة امثال نسبتها في اسرائيل: انها مقارنة موجعة. يستمر المؤلف في مقدماته حول من يدفع ثمن استمرار الصراع العربي- الاسرائيلي، وهو الانسان العربي العادي. ومن مقارنات أخرى موجعة: قوة العمل الاسرائيلية التي لا تتجاوز مليوني شخص تنتج ما قيمته 93 بليون دولار اميركي بينما قوة العمل المصرية التي تصل الى 20 مليوناً تنتج ما قيمته 47 بليون دولار - أي النصف. هذا معناه ان العنصر البشري الواحد في اسرائيل ينتج ما قيمة 40 عنصرا بشريا مصريا. يتجلى البون الشاسع ايضا في حجم الصادرات التي وصلت في اسرائيل الى 19 بليون دولار في منتصف التسعينات، بينما لم تتجاوز في مصر في الفترة نفسها 5،3 بليون دولار. ولكي يضاعف المؤلف آلام القارئ العربي عموما، والمصري خصوصا، فإنه يوثّق ان الفوارق بيننا وبينهم عند ميلاد الدولة اليهودية كان منعدما او طفيفا من حيث مستويات الدخل والمعيشة، وإن كانت اعلى بالطبع في ما يتعلق بمستويات التعليم. أي انه بمرور الوقت خلال الخمسين عاما التي مرت على انشاء الدولة اليهودية كانت اسرائيل هي التي تستفيد بمعدلات اسرع في تقدمها الاقتصادي والاجتماعي مقارنة بمصر وبالاقطار العربية من حولها مجتمعة. انها مقارنات موجعة. يبدو ان احد دوافع المؤلف الى اخراج هذا الكتاب، الى جانب كل دوافع اهتمام جيله من المصريين والعرب، هو ان "قرناً كاملاً شارف على الأفول، والصراع لم يشهد نهايته بينما شهد القرن العشرون بداية ونهاية العديد من النزاعات الكونية والدولية والاقليمية". وهي إشارة الى بداية ونهاية صراع الماركسية السوفياتية مع الغرب، وصراع الفاشية الايطالية والنازية الالمانية مع الديموقراطية المجاورة، والحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. ولا يغيب عن المؤلف "ان اسرائيل دولة عنصرية، فالقانون لا يفرق نظرياً بين فرد وآخر، ولكنه يفرق بين الجماعات، يهود وآخرين، ثم تطورت التفرقة الى يهود وعرب وآخرين. واسرائيل هي البلد الوحيد في العالم التي يبيح فيها حكم قضائي التعذيب لبشر تحت الاحتلال اثناء التحقيق، وفيها نوع من التمييز ضد اليهود الشرقيين وعرب 48". ولكنه يذكرنا انه رغم ذلك فإن هؤلاء جميعاً اي الذين يتعرضون للتفرقة في المعاملة، ما تزال امامهم فرص النضال المدني السلمي من اجل المساواة. وفي كل الاحوال فهم يتمتعون بمستويات تعليمية ومعيشية تفوق تلك التي يتمتع بها العرب في البلدان المجاورة. فرغم ان متوسط دخل العربي في اسرائيل هو عشرة آلاف دولار سنوياً، مقابل متوسط دخل اليهودي الاسرائيلي الذي هو خمسة عشر الف دولار، الا انه يساوي ثلاثة امثال متوسط دخل المواطن الاردني، وعشرة أمثال المواطن المصري. هذا فضلاً عن ان الحقوق السياسية التي اصبح عرب 48 يتمتعون بها اوصلت عدداً منهم الى مقاعد الكنيست، بل اصبحوا القوة الانتخابية التي يمكن ان ترجّح كفة احد الاحزاب الرئيسية في مواجهة الاحزاب الاخرى. المهم ان المقولة الرئيسية هي ان غياب الديموقراطية في الوطن العربي ليس فقط سبباً في الهزائم العربية، ولكن غيابها ايضاً هو سبب التخلف الاجتماعي والاقتصادي العربي. ليخلص منها المؤلف الى ان استمرار النظم المستبدة في العالم العربي وبأشخاص بعينهم، ولفترات طويلة بأكثر مما يحدث في أي مكان آخر في العالم، وفي منطقة تفيض بالفقر والارهاب والتوترات السياسية والإثنية والعسكرية، انما يعكس "ثقافة رسمية رديئة للطغيان". وما كان لهذه الثقافة ان تتجذر وتنمو إلا بواسطة تصنيع "مثقف رسمي قبيح او كلب حراسة اديولوجي غير قادر على الاستفهام، وتوجيه الاسئلة، وعاجز عن الحوار، ولكنه مقاتل عنيد ضد الحقيقة، وضد الحرية، وضد الديموقراطية، ويثابر على قراءة متعسفة آحادية الجانب من دون رؤية نقدية من أي نوع". ان "ثقافة الاستبداد" و"المثقف الصنيعة" مما يُروّج له، يتخللان كل صفحات كتاب أمين المهدي منذ السطر الاول الى السطر الاخير. وثقافة الاستبداد التي يعزو الكتاب اليها كل هزائمنا العسكرية والسياسية وكل تخلفنا الاجتماعي والثقافي تأخذ الف وجه ووجه، فهي عسكرية متعسفة حيناً، ودينية متعصبة حيناً آخر و"قومية شوفينية" حيناً ثالثاً. واسوأ وجوه هذه الثقافة الاستبدادية المتخلفة جميعاً هو وجهها "العسكري - الريفي" الذي قضى على التجربة الليبرالية الديموقراطية الوليدة في العالم العربي، بحجة انه "القوي الامين" الذي سيعيد الى الامة امجادها، ويحرر ترابها ويبني اقتصادها، ويكرس استقلالها، فاذا بالامة تحت قيادته تزداد تخلفاً، وضعفاً، وخراباً وتشرذماً. وفي ظل هيمنته يستشري الفساد، وتُنتَهك حقوق الانسان، وتضيق دائرة التنوير. ورغم أن أمين المهدي هو داعية للسلام العربي - الاسرائيلي، الا انه ينقد بشدة وموضوعية مبادرة "التحالف الدولي للسلام العربي الاسرائيلي" والتي عرفت منذ كانون الثاني يناير 1997 باسم "جماعة كوبنهاغن". وذاك انها في معظمها، على الاقل في مصر، خرجت من عباءة السلطة المصرية التي تدعو رسمياً منذ كمب ديفيد، الى السلام. ومشكلة أمين المهدي مع اصحاب كوبنهاغن هي مشكلته نفسها مع المثقف الصنيعة من الجانب الآخر، أي المعادي للسلام. فكل منهما لا يملك زمام حريته او حركته تماماً. وفي ذلك يقول: "لم تبدأ المجموعة اثناء إعلانها للمبادرة واثناء دفاعها عنها اي استفادة او تأصيل لهذا الاتجاه من ادبيات وتاريخ انصار السلام في مصر والعالم العربي، منذ بداية الصراع، ولم تكن للمجموعة رؤية نقدية متكاملة لطريقة إدارة الصراع". ويتساءل: "أليس من الغريب ان تنحصر عمليات التحضير، وحتى الاسبوع الاخير قبل الإعلان في 30 كانون الثاني يناير في داخل مؤسسة "الاهرام"، ما يدل على عدم ثقة في وجود تيار من انصار السلام بين المصريين؟ هل كان عدم مخاطبة التيار الاوسع المناصر للحوار وللسلام في الساحة المصرية من شروط القيام بالمبادرة؟". ويضيف: "وفي اعتقادي ان مجموعة الإعلان خضعت لضغوط حكومية حتى لا تفتح باب الحوار على مصراعيه ولو حدث ذلك لكانت فيه قوتها الحقيقية". ينسحب شعور الشك عند مؤلف الكتاب على أي مثقف يأتمر بأوامر السلطة او يخرج من عباءتها ولو كان يحمل افكار السلام او يدعو اليها، ويصل به الى مجموعة اخرى وهي "جمعية القاهرة للسلام". فرغم انه يرى فيها خطوة ايجابية لكل الاطراف "الا انه لا توجد ضمانات على الاطلاق تمنع الحكومة المصرية من الكف عن محاولات الاحتواء والتحجيم كعادتها". ويستشهد في ذلك بتقرير لباريارا بلنت، المراسلة الاذاعية للبي. بي. سي. في القاهرة في 8/6/1998، جاء فيه "ان جمعية السلام المصرية على علاقة وثيقة بالسلطات المصرية، وذلك ان هذه السلطات تعتبر ان هذا التحرك هو احد وسائل الضغط على نتانياهو، كما ان الرسميين المصريين مثل عمرو موسى واسامة الباز استقبلوا وفد حركة السلام برئاسة الجنرال موردخاي بار أون بحفاوة". ويختتم المهدي كتابه في الفصل السادس "بمشروع برلمان للسلام الديموقراطي: ورقة حوار". ويمهد لمشروعه بعبارة بليغة هي انه "اذا كانت الحرب اخطر من ان تترك للعسكريين، فإن السلام أخطر من ان يترك للحكومات، كما ان عدم تمييز الصديق لا يقل فداحة عن كارثة عدم تمييز العدو". وهو يبني مشروعه على المقولة المضادة لتلك التي فسر بها استمرار الصراع العربي - الاسرائيلي لمدة قرن من الزمان، اي اصحاب المصلحة من المستبدين العرب واليمين المتطرف الاسرائيلي. لذلك فمشروعه هو دعوة صريحة لأصحاب المصلحة في الديموقراطية والسلام، ويقترح لذلك برلماناً اهلياً اقليمياً للسلام والديموقراطية في بلدان الشرق الاوسط، ويكون دستور هذا البرلمان ومرجعياته قرارات الاممالمتحدة واتفاقات السلام، ومقررات مدريد واوسلو، واقتراح المزيد منها للحكومات. وفي الحد الادنى من هذا كله ضمان حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، والجلاء الاسرائيلي عن الجولان السورية والجنوب اللبناني، في مقابل الاعتراف الكامل بإسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها، و"حصول المجتمع والدولة الاسرائيلية على الامن والنزع التدريجي لأسلحة الدمار الشامل وإخلاء المنطقة منها والخفض التدريجي المتبادل لموازنات التسلح والدفاع. كذلك يتولى هذا البرلمان مناقشة واقرار المشاريع التنموية المشتركة التي تدعم السلام والتكامل الاقليمي". ويقترح مؤلف كتاب "ازمة الديموقراطية والسلام" أن يكون مقر البرلمان في "بيت الشرق" في القدس، ويكون اعضاؤه من النشطين في حركات وروابط السلام، وممن لهم نشاط علمي او فكري في تشجيع الحوار، شرط الاعتماد على المثقفين والشخصيات المستقلة التي لا تعمل بوظائف رسمية او حكومية، ويتم الاتفاق على نسب التمثيل في البيان التأسيسي. ان كتاب أمين المهدي كتاب شجاع وصريح ومبدع، وهذه الصفات الثلاث هي من نوادر هذا الزمن العربي الرديء. لذلك تبدو هذه الفضائل في الفضاء العربي العام المليء بكل رذائل النفاق والغوغائية والاوهام كما لو كانت تهوراً من الكاتب. فهو يتحدى العقل العربي وكل أبقارنا المقدسة. فيا له من تهور.