حتى وقت قريب كانت الظاهرة الأبرز في طهرانوالخرطوم هي الاتجاه نحو الانفتاح السياسي والأخذ ببعض المبادئ الديموقراطية. هذا الاتجاه أنجب نمطاً من التعددية السياسية المضبوطة، أو "التوالي"، كما تسميها القيادة السودانية، وحريات صحافية أوسع في البلدين قبل الخطوات الاخيرة للسلطة ووقف اصدار بعض الصحف، هذا بالإضافة الى أحاديث ووعود بشأن تحولات أخرى تقرّب نظامي البلدين من النظام الديموقراطي البرلماني. ففي السودان، تحدّث المسؤولون مراراً عن مشروع رفع حال الطوارئ عن البلاد. وفي طهران، أعرب القادة القريبون من الرئيس محمد خاتمي عزمهم على تأكيد سلطة المجلس النيابي كأعلى سلطة تشريعية في البلد. هذه التحولات والمشاريع تزامنت مع مساع مستمرة يقوم بها مفكرون وقادة إسلاميون مستقلون لإيجاد وإرساء أسس متطورة للعلاقة بين الإسلام والديموقراطية، وتيسير تطبيق المبادئ الديموقراطية في المجتمعات الإسلامية. الظاهرة الأبرز في إيران والسودان اليوم هي التنافس الحاد الذي يقوم بين أطراف النخبة الحاكمة في البلدين. ففي طهران، انتشرت في الأوساط السياسية والإعلامية الدولية تكهنات واسعة حول احتمال قيام انقلاب داخلي يقوده المتشددون ضد الرئيس محمد خاتمي. هذه التكهنات تغذت من أخبار الاستنفارات الأمنية التي أعلنتها قيادات الحرس الثوري والباسيج وأنباء تشكيل قيادة طوارئ تضم مسؤولين متشددين للتعامل مع الأوضاع القائمة في البلاد. كذلك تغذت هذه التكهنات بفعل إحالة عدد كبير من الصحف المؤيدة لخط الرئيس الإيراني الإصلاحي الى المحاكم، هذا فضلاً عن حملات إعلامية وسياسية واسعة يشنّها قادة متشددون ضد رموز الاتجاه المؤيد لخط الرئيس. مؤيدو خاتمي، في المقابل، ردّوا على هذه الاستنفارات والحملات القضائية والأمنية والسياسية باستنفارات مضادة انتخابية. إنهم يبذلون جهداً مركزاً من أجل استكمال النصر الانتخابي الذي حققوه في شباط فبراير الماضي بنصر انتخابي جديد يؤكد مكانتهم في الشارع الإيراني وقدرتهم على تعبئة قسم واسع من الرأي العام خصوصاً في أوساط الشباب والنساء والطبقة المتوسطة. في الخرطوم، تفاعل الافتراق بين الرئيس عمر البشير، من جهة، والدكتور حسن الترابي الأمين العام للمؤتمر الوطني، من جهة أخرى، ولا تزال التداعيات قائمة ومرشحة للتفاقم على خلفية الانتخابات الرئاسية المبكرة والمرتقبة في تشرين الأول اكتوبر المقبل. وإذا جرت هذه الانتخابات في موعدها المحدد، فإنه من الأرجح أن تؤدي الى تجديد رئاسة البشير. هذا التجديد سيقوّي يد الرئاسة خصوصاً في ظل انقسام الحزب الحاكم، ويسمح للرئيس بإدخال تعديلات على النظام السياسي تعزز دور الرئاسة ودور السلطة التنفيذية على حساب دور الحزب الحاكم المنقسم. ولا يفوت الترابي ما تعنيه الانتخابات الرئاسية المبكرة، لذلك لم يؤيدها، وشدد على ضرورة عرض هذا الموضوع على هيئة الشورى ومن ثم على المؤتمر العام خلال الأسابيع المقبلة. الامر الذي اتضح ان الرئيس البشير يرفضه، فتطورت المنازلة بين الطرفين حين اقصى البشير الترابي عن الامانة العامة للحزب وجمد عمل الامناء الموالين للترابي. وهذه المجابهة في السودان، فضلاً عن التنافس المحتدم في إيران، يطرحان الأسئلة الآتية: إلى أين يقود هذا التنافس؟ الى تعميق الاتجاه نحو الانفتاح والدمقرطة في البلدين؟ أم الى تعطيل هذه العملية؟ الإجابة عن هذه التساؤلات مرهونة الى حد بعيد بالاحتمالات التي تواجه النظامين، والتي تتوزع على ثلاثة سيناريوات رئيسية. فالصراع بين أفرقاء النظام في البلدين قد يشتد ويتطور الى حد إنهاكهم على نحو يفسح المجال أمام نخبة مضادة للاستيلاء على الحكم. البديل الأرجح في هذه الحال لن يكون ديموقراطياً لأسباب كثيرة. من هذه الأسباب ما هو داخلي متعلّق بالاتجاهات السائدة بين قوى المعارضة في البلدين. هناك بين هذه القوى من يلتزم بالمبادئ الديموقراطية ومن يسعى الى تطبيقها إذا دخل الحكم، ولكن هناك قوى معارضة إيرانية وسودانية لا تقيم لهذه المبادئ وزناً كبيراً ولا تلتزمها. ففي السودان تثير الأساليب التي يلجأ إليها جون قرنق تساؤلات عدة حول موقفه من الديموقراطية. الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة السوداني، يعتقد أن قرنق لا يريد لباب الحرية أن ينفتح في السودان بدليل أنه يلجأ إلى التصعيد العسكري وإلى نقل العنف الى العاصمة السودانية كلما أقدمت الحكومة المركزية على خطوات انفتاحية. في إيران كما في السودان تلجأ بعض القوى المعارضة الى الأسلوب نفسه، وكأن المقصود هو إحباط خطوات الانفتاح وتسهيل عمل دعاة القمع في البلاد كما يقول الصادق المهدي في وصف الأساليب التي يلجأ إليها قرنق. هذه المواقف تدلّ على أنه ليس هناك اتفاق، على الأقل في الظروف الراهنة، بين أطراف المعارضة المحلية حول البديل الديموقراطي، وعلى أنه ليس هناك من ضمانة في قيام هذا البديل إذا انهار نظاما طهرانوالخرطوم، هذا إذا كان الانهيار وارداً أصلاً. السبب الآخر، الذي يثير الشك في إمكان قيام بديل ديموقراطي في حال انهيار النظامين الإيراني والسوداني، هو العنصر الخارجي المتمثل بصورة خاصة في موقف الولاياتالمتحدة من مسألة الدمقرطة في دول الجوار. إن سياسة القوة الأعظم لا تدلّ على حرص كبير على انتشار المبادئ الديموقراطية وعلى تنمية بدائل ديموقراطية للنظم القائمة في غرب آسيا وشرق افريقيا، بمقدار ما تدلّ على اهتمام بتنمية المصالح الأميركية في تلك المناطق. فعلى مقربة من إيران تقدم واشنطن دعماً ملموساً لحكومة ادوارد شيفاردنادزه في جيورجيا، وتروّج له باعتباره حاكماً ديموقراطياً وإصلاحياً. الانتخابات الأخيرة التي أعادت شيفاردنادزه الى الحكم بأكثرية 80 في المئة دلّت على هشاشة هذا التوصيف. المراقبون الدوليون الذين راقبوا الانتخابات شكوا من التزوير الواضح لنتائجها، وحتى الزعماء المقربون الى شيفاردنادزه كرروا الانطباعات ذاتها. بعض الدول المجاورة للسودان مثل أوغندا وأريتريا كانتا موضع ثناء خاص من مادلين أولبرايت بسبب نظامي الحكم فيها، مع أن البلدين يتبعان نظام الحزب الواحد ويستخدمان مؤسسات الدولة وأجهزتها لقمع الحركات المعارضة. وقيام نظام مماثل لهذين النظامين في السودان لا يعتبر سيراً نحو الديموقراطية بل تراجعاً عنها في بلد خطا خطوات باتجاه التعددية السياسية. الاحتمال الثاني، الذي قد يفضي اليه احتدام الصراع بين طرفي الحكم في البلدين هو تغلّب أحد الطرفين على الآخر. وهذا الاحتمال لا يؤدي بالضرورة الى تسريع عملية الدمقرطة في البلدين. ففي السودان، ليس من السهل اعتبار الديموقراطية موضوعاً للصراع بين فريقي الحكم الرئيسيين. الرئيس البشير لم يقصِ الترابي بسبب خلاف على الخطوات الديموقراطية، كما أن الترابي لم يحاول تقليص دور الرئيس بسبب خلاف كهذا. في إيران يبدو الوضع مختلفاً، إذ إن الرئيس خاتمي يبدو أكثر حرصاً على التطور الديموقراطي، بينما يؤكد مؤيدو مرشد الجمهورية آية الله خامنئي على سمة الدولة الدينية ومصالحها الوطنية. إن فوز المتشددين في هذا الصراع وتفرّدهم بالحكم لا يغلق الباب نهائياً أمام الإصلاح الديموقراطي، ولكنه يحدّ منه الى مدى بعيد ويقلل من أهمية تجربة اقتران الإسلام بالديموقراطية التي تطبق في إيران حالياً. أما فوز الإصلاحيين على المتشددين وتفرّدهم بالحكم فإنه قد يؤدي الى إفلات الأمور من يدهم كلياً كما حصل مع التيارات الإصلاحيات في عدد من البلدان الأخرى التي كانت تتبع العقائد الشمولية. مثل هذا الاحتمال قد يؤدي هنا أيضاً الى تراجع عملية مزاوجة الإسلام بالديموقراطية. الاحتمال الثالث، الذي يجابه نظامي السودان وإيران هو استمرار الصراع والتنافس بين فريقي أو أفرقاء الحكم لفترة طويلة. وما يعزز هذا الاحتمال أن القوى بين الطرفين الرئيسيين في كل من البلدين تبدو متكافئة بحيث يصعب على طرف منها أن يعزل وأن يحيّد الطرف الآخر. كذلك ما يعزز الاحتمال نفسه هو أن التنافس بين الأفرقاء قد خرج الى العلن ولم يعد سراً مكتوماً بحيث يمكن التراجع عنه بسهولة. إن مثل هذا التنافس والصراع لا يرضي عادة الذين يفضلون الوحدة على الخلاف، والتجمع على الافتراق. إلا أن التنافس لا يضرّ المصالح العامة، بل على العكس يفيدها ويفيد المواطنين إذا اتسم بالطابع السلمي وأمكن تهذيبه وترقيته. وهذا التنافس قد لا يرضي الجماعات غير الدينية في البلدين التي تريد تأكيد حقها في ممارسة العمل السياسي من دون خوف أو ضغط. هذه الجماعات تستطيع الوصول الى غايتها إذا وجدت في أحوال البلدين الراهنة فرصة لتأصيل المبادئ الديموقراطية وتوطيد أسلوب الإصلاح السلمي، أما الاحتمالات الأخرى فمن الأرجح أن تجر عليها وعلى الجميع نتائج غير مضمونة بالمقاييس الديموقراطية والوطنية. * كاتب وباحث لبناني